هل يمكن رسم خريطة الإبداع الحضاري لإسبانيا المعاصرة بدون العودة للتأمل في نصوص ميخائيل دي سيربانطيس؟ وهل يمكن رسم معالم الهوية المميزة لهذا الإبداع بدون القراءة المتجددة لرائعة “دون كيخوتي دي لامانشا”؟ وكيف أمكن لهذا النص ضمان كل أشكال الخلود والامتداد في الزمن على الرغم من تعاقب السنين والأزمنة؟ وما السر في استمرار إسبان اليوم في الاحتفاء برمزية سيربانطيس داخل تشابك مكونات الهوية الثقافية الجماعية لإسبانيا الراهنة؟ وبالنسبة للمغرب الراهن، ما هي مستويات حضور قضاياه المميزة لفترة القرنين 15 و16 الميلاديين داخل سرد “دون كيشوت” ومحكياته العجيبة؟
أسئلة متناسلة، تفرضها قراءة العمل التجميعي الذي أصدرته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 2015، باللغة الإسبانية، تحت عنوان “المغرب في تآليف سيربانطيس- أنطولوجية نصوص”، تحت إشراف الأستاذ عبد الرحمان الفاتحي، في ما مجموعه 354 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. لا يتعلق الأمر بتحيين لمضامين كتاب “دون كيشوت”، ولا بسيرة مبدعه سيربانطيس، ولا –كذلك- بتماهي مع ذخائر الثقافة الإسبانية المعاصرة، بقدر ما أنه تتبع لأشكال حضور المغرب في متون سيربانطيس المتنوعة. من المؤكد أن للكتاب قيمته الحضارية الكبرى، ولا شك أنه يصنف إلى جانب الأعمال المؤسسة لفكر النهضة الأوربية الحديثة والحركة الإنسية التي شكلت أساسا لانطلاقة أوربا نحو يقظتها المعاصرة، مثلما هو الحال مع سرديات مماثلة، من قبيل نص “الكوميديا الإلهية” للشاعر الإيطالي دانتي، أو مع نص “تاجر البندقية” للمسرحي الإنجليزي شكسبير، أو مع سرد “المحاولات” للكاتب الفرنسي رابليه،… بمعنى أنه لا يمكن كتابة تاريخ النهضة الأوربية الحديثة بدون الإحالة إلى نص “دون كيخوتي دي لامانشا”. فإشعاعه يتجاوز حدود إسبانيا، وتأثيره يتجاوز سقف شبه الجزيرة الإيبيرية، وبصماته تتجاوز ضفاف البحيرة المتوسطية. إنه نص “إنسي” بامتياز، يخترق زمانه وانتماءه الجغرافي، ليضع إسبانيا في مصاف راقية، تسمح لها بمضاهاة مراكز التميز الحضاري العالمية على امتداد القرون الماضية. ولعل هذا ما يجعل إسبان اليوم يتشبثون برمزية “دون كيشوت” وبمرجعية سيربانطيس في كل جهود التوثيق للعبقرية الإسبانية ولمعالم إبداعها الإنساني المتميز.
يهتم الكتاب موضوع هذا التقديم برصد أوجه حضور المغرب داخل متون سيربانطيس، ليس –فقط- داخل رائعة “دون كيشوت”، ولكن –كذلك- داخل مجموعة من الأعمال الشعرية والمسرحية الأخرى غير المتداولة على نطاق واسع بالنسبة للمؤلف سيربانطيس. في هذه النصوص، يحضر المغرب بقوة من خلال مدينة تطوان ومن خلال أحوازها وتحديدا منطقة وادي مرتين. تحضر مدينة تطوان بوجهين متقابلين، يمثل الوجه الأول الحلم الأندلسي العميق، ويحمل الجزء الثاني صور “القرصنة المغربية” التي ألحقت ضربات موجعة بالسفن الأوربية بالبحر الأبيض المتوسط منذ مطلع القرن 15م. وبين الوجه الأول والوجه الثاني، تقدم النصوص صورا دالة ومعبرة عن المغرب العميق، أو عن “إفريقيا”، أو عن “بلاد البربر”، بما يرتبط بذلك من تمثلات ومن رؤى كان لها دور كبير في ترسيخ صورة مرجعية عن المغربي، المسلم، الإفريقي، البربري،… في أذهان إسبان المرحلة التي ألف فيها سيربانطيس أعماله.
من المؤكد أن هذه الصور والكليشيهات لم تبق محصورة على زمن كتابة نصوص سيربانطيس، بل وجدت امتدادا قويا لها وانسيابا مسترسلا لمضامينها بتعاقب القرون والحقب. فكانت النتيجة، ترسخ صورة “الآخر المسلم” بشكل نهائي داخل المخيال الجماعي لإسبان الأمس واليوم، كما انتبه إلى ذلك –بعمق كبير- كارلوس ماطا إندوراين في كلمته التقديمية للكتاب. ولعل من الأمور التي سهلت عملية انتقال الصور النمطية للمغاربة بين أجيال إسبانيا المعاصرة، قوة اسم سيربانطيس، وأهمية كتاب “دون كيشوت”، وحمولاته الرمزية لدى إسبانيا اليوم، دولة ومجتمع ونخبا وهيآت ومثقفين.
وبالنسبة للبحث التاريخي التخصصي، فالمؤكد أن عمل الأستاذ عبد الرحمان الفاتحي التصنيفي والتنقيبي، يقدم إمكانيات واسعة لتطوير رؤى “المغايرة” في الاتجاهين المتلازمين، رؤى المغاربة تجاه الإسبان، ثم رؤى الإسبان تجاه المغاربة. وبين هذا وذاك، يتضح أن مستوى الجهل المتبادل في معرفة كل طرف بالآخر، يظل من الحدة ومن القوة، يشكل يؤدي إلى إفراز الكثير من عناصر التنافر التي تميز علاقات المغاربة بجيرانهم الإيبيريين إلى يومنا هذا. فرؤى سيربانطيس تجاه المغرب، أرضا وشعبا وحضارة ولغة، اختزلت بشكل كبير، في أعمال “القرصنة البحرية”، إلى جانب مظاهر الحياة السلطانية التقليدية، حيث تتداخل قصص “ألف ليلة وليلة” مع الأبعاد الغرائبية التي يحملها الغرب تجاه واقع البلدان الشرقية. وفي هذا المنحى بالذات، تحضر الكثير من التفاصيل المغربية داخل نصوص سيربانطيس على الهامش، مما لا يمكن الوقوف عليه داخل المصنفات التاريخية الكلاسيكية، سواء منها العربية الإسلامية أم الإسبانية الإيبيرية.
سيكون من الخطأ إرجاع الصورة النمطية التي يحملها إسبان اليوم تجاه المغاربة والمغرب، كدولة وكشعب وككيان تاريخي، إلى ظروف حروب الاسترداد، وتبعات الوصية الشهيرة لإيسابيلا الكاثوليكية، وإلى تداعيات ظاهرة الغزو الإيبيري الذي ضرب السواحل المغربية منذ سنة 1415م عقب احتلال دولة البرتغال لمدينة سبتة وما تلاها من سقوط غالبية الثغور المغربية المتوسطية والأطلنتية بين يدي الإسبان أو البرتغاليين مثل مليلية وطنجة وأصيلا والقصر الصغير ومازاغان وأزمور وموغادور… في إطار اتفاقية تورد سيلاس الشهيرة لسنة 1494م والتي قسمت المصالح الاستعمارية بين الدولتين الإيبيريتين عبر العالم تحت الإشراف المباشر للكنيسة الكاثوليكية، ولا إلى ملابسات الحروب الاستعمارية التي شنتها إسبانيا ضد المغرب خلال القرنين 19 و20، خاصة بالنسبة لحرب تطوان سنة 1859م وكذلك بالنسبة لحروب الريف التحريرية مع رموز المقاومة سواء منها الجماعية، مثلما هو الحال مع مقاومة قبيلة قلعية ومع مقاومة قبيلة الأنجرة، أم مع المقاومة الزعاماتية، مثلما هو الحال مع تجارب كل من الشريف محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي. ولا يمكن –كذلك- تفسير هذه الصورة النمطية بتداعيات الأزمات الراهنة المرتبطة بقضايا طارئة، مثل الملف العالق لمدينتي سبتة ومليلية، وملف الهجرة السرية، وملف المخدرات، وملف الإرهاب،… فالأمر أبعد من ذلك بكثير، ويرتبط بالمخيال الجماعي الإسباني وبعناصر تكونه الأول مع انفجار حركة التأليف والكتابة الناظمة لعناصر الهوية الجماعية لشعوب شبه الجزيرة الإيبيرية. لقد قيل الشيء الكثير عن المغرب وعن أرضه وعن تاريخه وعن شعبه داخل المصنفات الفكرية والإبداعية الإسبانية، ومع ذلك، يظل كتاب “دون كيخوتي دي لامانشا” مركزيا في هذا الباب، وذلك على الرغم من قلة المعطيات التدوينية، وعلى الرغم من اختزال سرد سيربانطيس حضور المغرب في قضايا “القرصنة البحرية”. لذلك، لا نجد ما يشفي الغليل بخصوص “الحالة المغربية” للقرنين 15 و16 الميلاديين، ومع ذلك، فإن الإشارات المتفرقة التي اشتغل عليها الأستاذ عبد الرحمان الفاتحي تسمح بفهم الكثير من مظاهر التوجس والريبة والشك التي حملها الإسبان، ولازالوا يحملونها إلى يومنا هذا، تجاه المغرب والمغاربة، دولة وشعبا وتاريخا وحضارة.
أسامة الزكاري