هل يمكن كتابة تاريخ مدينة تطوان بدون العودة المتجددة للتأمل في أرصدة المؤرخ الفقيه أحمد الرهوني؟ وهل يمكن استيعاب السياقات الكبرى لتحولات المجتمع المحلي ولنظم عطائه الحضاري والمعيشي المميز، بدون تدقيق النظر في خبايا التراث العلمي للفقيه الرهوني، وعلى رأسها كتابه الضخم “عمدة الراوين في تاريخ تطاون”؟ لقد قيل الشيء الكثير عن هذا الكتاب، وعن صاحبه، وعن ريادته، ومع ذلك فقد ظل النبش فيه موضوعا أثيرا لدى المؤرخين ولدى كل المهتمين بتاريخ مدينة تطوان. وبإمكاننا الجزم القاطع ب”سطوة” هذا الكتاب على اللوائح البيبليوغرافية لكل الكتابات التي اشتغلت على ماضي المدينة على امتداد العقود الطويلة للقرنين 20 و21. وتعزز الأمر بصدور كتاب ثان لتلميذ الفقيه الرهوني، وأعني في هذا المقام المؤرخ محمد داود الذي أصدر العمل المرجعي المعنون ب”تاريخ تطوان”. وإلى يومنا هذا، خضع كتاب “عمدة الراوين” لأعمال تحقيق مسترسلة، وأنجزت حوله أطاريح جامعية، ووُظفت مضامينه في العديد من الأبحاث القطاعية والمونوغرافية التي همت تاريخ المدينة. وإلى يومنا هذا، لازال الكتاب يفرض قوته العلمية على كل المنتسبين لدوائر البحث في تاريخ مدينة تطوان ومعها عموم منطقة الشمال، مثلما هو الحال مع المرحوم محمد ابن عزوز حكيم، والمرحوم محمد الأمين البزاز، والمرحوم عبد العزيز التمسماني خلوق، والأستاذ امحمد بنعبود، والأستاذ عبد العزيز السعود، والأستاذ محمد الشريف، والأستاذ جعفر ابن الحاج السلمي،…
وإذا كان المؤرخ محمد داود قد نحا نحو إصدار ملخص في جزأين لعمله الضخم المعنون ب”تاريخ تطوان”، فإن الأمر سبق وأن عرف نفس المنحى بالنسبة لكتاب “عمدة الراوين”، إلا أن الأمر ظل مخطوطا وقليل التداول بين الباحثين والمهتمين، إلى أن تصدى الأستاذ يونس السباح للموضوع، عندما بادر بتوجيه جهده العلمي الأصيل نحو نفض الغبار عن المخطوطتين النادرتين للكتاب، وأثمر ذلك صدور الكتاب سنة 2017، تحت عنوان “خلاصة عمدة الراوين في تاريخ تطاون- تأليف أبي العباس أحمد بن محمد الرهوني التطاوني (1373ه)”، وذلك في ما مجموعه 147 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. وتوضح الكلمة التصديرية للكتاب، الهدف المركزي الذي وجه الأستاذ السباح في إنجازه للدراسة وللتحقيق الخاصين بالكتاب، عندما قالت: “هذا المختصر التاريخي المفيد يعد لبنة فريدة في صرح الكتابة التاريخية، فقد اختصره مؤلفه من أصله الكبير المطبوع في إحدى عشر جزءً (بالفهارس). وكان الداعي إليه هو تقريب المادة التاريخية من المتلقي، وتعميمها على كافة الشرائح، فهو يذيعها بواسطة المذياع، لتصل إلى عامة الناس، ويراعي في هذا كله الاختصار المفيد الغير المخل، ويترك التفصيل وذكر الوثائق والشواهد للأصل”.
من الواضح أن الأستاذ السباح قد بذل مجهودا كبيرا في الاشتغال على المخطوط الأصلي قبل إخراجه في الحلة العلمية الراقية التي صدر بها الكتاب، حافزه في ذلك التوجيه المتميز للأستاذ محمد بوخبزة الذي احتضن الفكرة علميا ودفع في اتجاه إخراجها إلى النور. وقد أجمل الأستاذ بوخبزة سياقات هذا الاحتضان العلمي الرفيع، عندما قال في كلمته التقديمية للكتاب: “ولما كانت نسخة المؤلف التي بخطه، وهي من ذخائر الخزانة العامة بتطوان في عشر مجلدات ضخمة، تنوء قيمتها المادية بالعصبة أولي القوة، وكان مختصرها أو خلاصتها هذه توجد منها نسختان، إحداهما للمؤلف بخطه، وهي بالخزانة المذكورة، والأخرى بخطي مروقة وميسرة، وقعت بيد الإبن الفاضل، مثال الظرف، ونموذج العلم والأدب،… يونس بن مصطفى السباح الطنجي،… فعكف عليها، وجود نصها، وترتيبها، ودرسها، فخرجت منية النفس، ومتعة البصر، وطلبة البصيرة، وها هي الآن بين يدي مريدها زادا علميا كبيرا، وهي وإن قل جرمها، فقد ثقل وزنها، وعظمت فائدتها…” (ص ص. 7-8).
تتوزع مضامين الكتاب بين قسمين متكاملين، اهتم الأستاذ السباح في أولهما بتقديم دراسة متكاملة حول كتاب “عمدة الراوين” وحول سيرة صاحبه. في هذا الإطار، نجد تعريفا مستفيضا بالفقيه الرهوني من خلال التفاصيل التوثيقية الخاصة بالاسم، وبالنسب، وبالميلاد، وبمراحل طلب العلم، وبشيوخه الذين تلقى عنهم علمه، وبوظائفه، وبمؤلفاته، وبمذهبه في التصوف، ثم بوفاته يوم 21 دجنبر من سنة 1953. وفي نفس القسم الأول، حرص الأستاذ السباح على تقديم دراسة وافية حول كتاب “خلاصة عمدة الراوين في تاريخ تطاون”، مركزا على تقديم وصف عام للكتاب، وإبراز منهجه وقيمته، ومصادره، وتاريخ تأليفه، وحصر نسخ المخطوط الأصلي وإمعان النظر فيها. وإضافة إلى كل ذلك، حرص الأستاذ السباح على توضيح خطوات منهجه في تحقيق المخطوط، وهي الخطوات التي تدرجت عبر عشر مراحل متراتبة، توزعت بين إخراج نسخة الكتاب من أصله بخط المؤلف أولا، ثم إنجاز مقدمة تمهيدية للتعريف بقيمة الكتاب ثانيا، وتقديم ترجمة وافية للمؤلف ثالثا، والتعريف بالكتاب الأصلي ومقاصده ونسخه رابعا، ومقابلة النسختين موضوع البحث مع بعضهما البعض خامسا، وإنجاز المقارنات الضرورية بين الكتاب (المختصر) وأصله (عمدة الراوين) لتوضيح الفروق والإضافات سادسا، والحرص على الإحالة في مواد “المختصر” على الأصل المطبوع لتسهيل الرجوع إلى الأصل قصد التوسع والمقارنة سابعا، والاهتمام بضبط موارد الكتاب البشرية والحضارية تاسعا، ثم وضع فهارس مفصلة لمجمل مضامين الكتاب عاشرا.
وبذلك، نجح الأستاذ يونس السباح في إخراج العمل إلى النور، بحلة علمية رفيعة، وبعشق كبير لمهاوي البحث المسترسل والشاق. وهو العمل الذي لا شك وأنه تطلب من صاحبه جرعات كبيرة من الصبر ومن الأناة في الاشتغال على المخطوط، وفي فك طلاسمه، وفي استكمال بياضاته. فكانت النتيجة، صدور كتاب يعتبر دليلا للبحث وللتنقيب في غزارة الأجزاء العشرة للكتاب الأصلي. يتعلق الأمر بكشاف يقدم خريطة للبحث في أجزاء كتاب “عمدة الراوين”، يشكل يسمح باختصار الجهد والوقت والبحث بالنسبة للباحثين، إلى جانب أنه يقدم ضبطا للسياقات العامة التي وجهت مضامين الكتاب الأصلي، وهو –بذلك- قيمة علمية أكيدة، يتداخل –داخلها- البحث التفكيكي الكوديكولوجي، مع رحابة التوظيف التاريخي المرتبط بطرق توظيف المعطيات وتصنيفها، ثم استغلالها في أعمال علمية متجانسة.
أسامة الزكاري