لعل من عناصر القوة والتميز في رصيد تجربة المؤرخ محمد أخريف مع عوالم النشر المتخصص في ماضي مدينة القصر الكبير، حرصه الكبير على الإمساك بطرفي الخيط الناظم بين مسارين مركزيين في أي كتابة تاريخية مجددة، جريئة ورصينة. يتعلق الأمر بانفتاحه المتواصل على إثارة قضايا غير مطروقة في تاريخ المدينة الطويل، ثم في الانفتاح المستدام على أرصدة الوثائق الدفينة سواء منها المخزنية أم الفردية والعائلية. وعلى هذا الأساس، استطاع الحاج أخريف بلورة نهج فريد في أشكال توظيف المادة الوثائقية والمصدرية والمرجعية في مجمل أعماله المونوغرافية والقطاعية التي ساهمت في تسليط الضوء على الكثير من خبايا ماضي مدينة القصر الكبير. لم يركن الأستاذ أخريف للتعاطي “السهل” و”المريح” مع قضايا التاريخ المحلي، وهو التعاطي الذي يعتمد على “إعادة تدوير” الوقائع المتداولة في الإسطوغرافيات التقليدية العربية الإسلامية والأجنبية. ولم يستكن لمنطق مجاراة النوسطالجيات الحالمة والمنتشية بمعالم ماضي مدينته. ولم يطمئن لنزوعات التنظير المجرد، ولا لليقينيات التنميطية، ولا للرؤى المركزية والتبخيسية في علاقة المركز بالهامش في الكتابات التقليدانية. وفي مقابل كل ذلك، اختار النهج الصعب القائم على التحدي الميداني، وعلى سبر أغوار الوثائق الدفينة، وعلى اقتحام طلاسم المخطوطات المنسية، وعلى استثمار خلاصات الكتابات التقليدانية العربية والكولونيالية، ثم على الانفتاح على مكتسبات الدرس الأكاديمي الوطني المتخصص في قضايا تاريخ مدينة القصر الكبير وأحوازها الإقليمية وامتدادات تأثيراتها المجالية الواسعة على مستوى كل منطقة شمال المغرب وعموم البلاد.
في هذا الإطار، يندرج صدور كتاب “دار الدباغة في القصر الكبير من خلال وثائق غير منشورة- تاريخها ودورها الاقتصادي والاجتماعي”، وذلك سنة 2021، ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، في ما مجموعه 110 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل الجديد، تكثيف لجهد متواصل وممتد في الزمن، غطى فترة زمنية لا بأس بها من عمر المؤلف، استثمرت رصيدا غزيرا من الوثائق المحلية ومن الكتابات التأريخية الخاصة بمدينة القصر الكبير، وعلى رأسها تلك التي أنجزها الباحث السوسيولوجي الفرنسي إدوار ميشو بلير ونشرها ضمن أعمال “البعثة العلمية الفرنسية بالمغرب” خلال العقود الأولى من القرن الماضي. وبخصوص الإطار العام الناظم لمضامين الكتاب، نقرأ في التقديم العام الذي وضعته الجمعية الناشرة للعمل: “هو كتاب لا يتحدث عن تاريخ المدينة بصفة عامة كما هو متداول في أغلبية الكتب، وإنما يتحدث عن معلمة واحدة داخل المدينة كان لها أثر بالغ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والوطنية بالمدينة، هي معلمة “دار الدباغة”. ومما يميز هذا العمل الفريد من نوعه، اعتماده على مجموعة من وثائق غير منشورة، وحوالات حبسية بمكتبة القرويين بفاس والقصر الكبير، علاوة على صور للمعلمة قديمة وحديثة، كما يبرز تراجع أهميتها، ومعاناة الدباغين بها حاليا، ويعرض بعض الإصلاحات التي أُدخلت عليها…” (ص. 3).
ولتعميق البحث في مختلف هذه الجوانب، اعتمد الأستاذ أخريف على ثلاثة مستويات في البحث وفي الاشتغال على المادة الخام، يقوم أولها على استغلال أرصدة وثائقية نفيسة غير منشورة، ويقوم ثانيها على عقد لقاءات واتصالات مباشرة مع المشتغلين بحرفة الدباغة ومع المهتمين بها، ويقوم ثالثها على الانفتاح على الرصيد البيبليوغرافي المتنوع الخاص بمعلمة دار الدباغة بالقصر الكبير. وقد عزز المؤلف نتائج هذه المستويات الثلاثة في التنقيب بسلسلة من الجداول الإحصائية الدقيقة والصور الفوتوغرافية المرافقة، مما أكسب العمل عناصر الجدة الضرورية المميزة لصنعة كتابة التاريخ في بعدها الاحترافي وفي أفقها العلمي وفي مقصدها الحضاري. وبذلك، نجح المؤلف في تقديم نتائج محترمة حول معلمة “دار الدباغة” بشكل لا نجد مثيلا له في أي أعمال تصنيفية أو قطاعية أخرى، في حدود علمنا المتواضع. وبفضل ذلك، استطاع المؤلف تقديم تفاصيل غزيرة حول موقع مدينة القصر الكبير ووفرة الجلود لها، وتاريخ حرفة الدباغة بها، وموقع دار الدباغة ووصف مرافقها ومكوناتها. كما استفاض في إبراز البعد الأسطوري الذي يكتنف معلمة “دار الدباغة” بالقصر الكبير حسب ما توارثته الأجيال وحسب ما تتداوله الحكايات العجيبة بمدينة القصر الكبير بهذا الخصوص. وبموازاة ذلك، اهتم المؤلف بإبراز الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لدار الدباغة داخل المجتمع المحلي لمدينة القصر الكبير، وخاصة خلال المرحلة السابقة عن دخول الاستعمار. كما استفاض في الحديث عن البعد الوطني الأصيل المرتبط بوقائع انخراط الحرفيين في تنظيمات العمل الوطني التي واجهت الجبروت الاستعماري. وفي آخر مواد الكتاب، انتقل المؤلف لتشخيص الإكراهات الراهنة التي أضحت تواجه معلمة “دار الدباغة” سواء على المستوى العام المرتبط بتبعات تيار العولمة الجارف وانتشار المصنوعات العصرية التي فرضت منافسة غير متكافئة أضرت كثيرا بعموم الصناعات الجلدية التقليدية، أم على المستوى المحلي المرتبط بتردي الواقع الاقتصادي والاجتماعي للحرفيين وتراجع الحوافز الضرورية المرتبطة بمهنة الدباغة التقليدية كمجال لبلورة مشاريع التنمية المنتظرة. وعلى أساس هذا التشخيص الدقيق، اهتم الأستاذ أخريف بالتعريف بمجمل المبادرات المبذولة –حاليا- لإنقاذ معلمة “دار الدباغة”، مركزا على التعريف بالمشروع المندمج ذي الطابع المستقبلي الخاص بدار الدباغة للهادف للتوثيق وللتكوين وتقوية الإنتاج ورفع الجودة.
وبذلك استطاع الأستاذ محمد أخريف استثمار نتائج نبشه التاريخي لتأطير مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي ذلك دليل على أهمية ما يمكن للمعرفة التاريخية أن تقدمه من أجوبة عن إكراهات الراهن، من موقعها كرافعة للتنمية. لقد استطاع المؤرخ أخريف بلورة رؤى متقدمة في أشكال التعاطي مع مكتسبات التاريخ المحلي، ليس فقط على مستوى توفير المادة الخام الضرورية للمعرفة الأكاديمية المتخصصة، ولكن –أساسا- على مستوى الارتقاء بالوعي التاريخي المحلي وتحويله إلى شأن عام تنشغل به كل فئات المجتمع وكل أطياف صناعة القرار على المستوى المركزي وعلى مستوى الأقاصي والجهات.
أسامة الزكاري