إذا كان التوثيق لسير التراجم والأعلام يشكل محورا أساسيا في جهود كتابة التاريخ الثقافي وتاريخ الذهنيات حسب ما تعرفه مناهج البحث التاريخ المعاصر، فالملاحظ أن الجزء الكبير من الاهتمام ظل منصبا على عطاء النخب العالمة المرتبطة بالجامعات العلمية، مثل القرويين بفاس وابن يوسف بمراكش، وبدوائر صنع القرار السياسي على المستوى المركزي. وقد برزت -في هذا السياق- الكثير من الأعمال التي تشكل مراجع لا يمكن تجاوزها في كل محاولات التأريخ لمعالم “النبوغ المغربي” للمراحل التاريخية الطويلة الماضية، مثلما هو الحال مع أعمال العلامة عبد الله كنون، والمؤرخ محمد المنوني، والأستاذ عبد الله المرابط الترغي،… وبطبيعة الحال، فإن الاهتمام بعطاء النخب العالمة، ظل يحجب واقعا آخر، مرتبطا بحياة الناس اليومية وبأسئلتهم الوجودية وبسبل تدبير أنماطهم المعيشية وأشكال تنظيمهم لممارستهم التعبدية. فالفقيه داخل القرية لم يكن مجرد عضو في دائرة “المشارطة”، ولكنه كان صاحب سلطة معنوية حظيت بحق البث في قضايا محورية مرتبطة بأشكال تنظيم الحياة العامة، وحل الخلافات، والتوعية الاجتماعية، والاستنفار للجهاد،… بمعنى، تحول الفقيه “المشارطي” في المجتمع المغربي إلى ضمير للجماعة، بسلطات تربوية وقضائية واستشارية واجتماعية واسعة.
لكل ذلك، أضحت العودة للنبش في تراث هذه الفئة الفاعلة والمؤثرة في المجتمع ركنا أساسيا في كل الأعمال المونوغرافية المتخصصة في التاريخ المحلي. في هذا الإطار، يندرج صدور كتاب “ديوان تراجم فقهاء من قبيلة ودراس- بحث في الموروث الجبلي، لمؤلفه الأستاذ أحمد الميموني، سنة 2022، في ما مجموعه 295 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن هذا العمل يكتسي عناصر الجدة، لاعتبارات متعددة، أهمها ارتباطه بتجارب الأقاصي التي أنتجت عناصر الخصب والعطاء بعيدا عن المركز وأسئلته، وقريبا من الهامش وانتظاراته. ولقد لخص المؤلف السقف العام لمضامين الكتاب في كلمته التصديرية عندما قال: “هذا الكتاب يضم بين دفتيه شخصيات دينية وعلمية عرفنا بسيرهم، وتعرضنا لنُبذ من حياتهم تجنبا لما وقع فيه غيرنا من السابقين الذين أهملوا ذكر شيوخهم أو التعريف بمعاصريهم لأسباب ذاتية أو موضوعية… ثم استشرافا للمستقبل الذي سوف تندر فيه مثل هذه البضاعة رغم ما لها من أهمية بالغة. يتعلق الأمر بقيمة اجتماعية مؤثرة على الصعيد الاجتماعي والثقافي والتربوي وحتى السياسي، لأن أفرادها هم الذين احتلوا مواقع ومراكز هامة في محيطهم، وكرسوا حياتهم في خدمة العلم، والمحافظة على القيم الوطنية والإسلامية الحقة”.
لم يكن من السهل على المؤلف تجميع تفاصيل حياة هؤلاء الفقهاء، بالنظر لغياب الوثائق المدونة أو لضعف تداولها، مما جعل السبيل الأوحد يكاد ينحصر في “كنوز” الذاكرة الجماعية. ويوضح المؤلف مشاكل استغلال المادة الوثائقية وصعوبة الوصول إليها، بشكل دقيق قائلا: “قلت الوثائق التاريخية المعتمد بها. والموجود منها يصعب على الباحث الظفر به، بخلا بها من قبل حائزيها الذين يجهلون البعدين التاريخي والوطني لما يملكون من وثائق، فلا هم انتفعوا بها، ولا ساعدوا غيرهم بها على ذلك، أو لعلهم بخسوها حقها فنظروا إليها باحتقار…” (ص. 6). ولسد هذه الثغرة، حرص المؤلف على توسيع دوائر نبشه داخل محيطه الضيق وفق رؤية دقيقة مكنته من ضبط عناصر مادته وتطويعها. يقول بهذا الخصوص: “يجب التنبيه إلى أنني سأقتصر في الترجمة على من عاش من الأعلام المتأخرين ممن وقفت على أخبارهم مدونة أو تلقيتها شفهيا من الثقاة معتمدا على شاع وثبت من أحوالهم العامة متجنبا الفضول والبحث عن الدسائس وسفاسف الأمور، مع الميل نحو الإيجاز والاختصار. كما يجب التنبيه إلى أنه لا يعنيني من الشخصيات التي ترجمت بهم شهرتهم في المجال العلمي والتأليفي بقدر ما يعنيني نبوغهم في بيئتهم البدوية وسلوكياتهم المتميزة بالاستقامة والزهد والنزاهة وبذل التضحية، ونشرهم مبادئ الدين القويمة مع التفقه في الدين والدراية في العلم من غير اشتراط التبريز فيه. وأهم خصيصة من خصائص الفقهاء الذين ترجمت بهم هو جلوسهم للإقراء بمساجد وكتاتيب وفرة تلامذتهم، وشهرتهم بالصلاح في محيطهم الاجتماعي، وبالبراعة في الدراسات القرآنية…” ( ص ص. 6-7).
وللاقتراب من أهداف هذا التوثيق العلمي الأصيل، حرص الأستاذ الميموني على وضع تراجم للفاعلين داخل نظام “مشارطة الفقهاء” بقبيلة ودراس، مرتبين حسب تواريخ الوفاة. وقد انطلق في ذلك من فقهاء القرن 13ه، ثم القرن الموالي، وانتهاءً بفقهاء القرن الحالي، أي القرن 15ه. وفي ذلك، ركز المؤلف على الانطلاق من سير المتوفين قبل الانتقال إلى سير الأحياء من الصنفين الرئيسيين، أي فئة علماء الشرع وطلبته أولا، ثم فئة قراء القرآن الكريم، أو “المدررين”، ثانيا. وفي سياق هذا النبش البيوغرافي، لم يفت المؤلف الإحالة إلى المقارنات الممكنة بين مظاهر توهج التعليم التقليدي بقبيلة ودراس بالأمس، وبين مهاوي التدهور الحالي في المجال المذكور، وهو التدهور المرتبط بعوادي الزمن وبتغير القيم وبأفول النماذج التربوية الأصيلة.
يقدم الكتاب في فصله الأول تعريفا بمشايخ الدين ومن انضاف إليهم من طلبة العلم، ويخصص الفصل الثاني للتعريف بشيوخ القرآن والتدرير، في حين احتوى الفصل الثالث على تراجم مركزة لشخصيات تعذر تقديم معطيات وافية عن سيرها. وإلى جانب ذلك، قدم المؤلف سلسلة من الملاحق الخاصة بشخصيات دينية تولت وظائف متنوعة مثل القضاء، والعدلية، والتدريس، والنظارة، والمهام الإدارية.
وبذلك، نجح الأستاذ أحمد الميموني في تقديم عمل غير مسبوق، لا شك وأنه سيحفز الهمم من أجل استكمال عملية النبش والتجميع، ليس فقط داخل مجالات قبيلة ودراس، ولكن على مستوى كل قبائل منطقة جبالة بشمال غرب البلاد.
أسامة الزكاري