شكلت الهوية الجماعية لمدينة تطوان علامة مخصوصة داخل مكونات ذاكرة منطقة الشمال. وظل عطاء نخب المدينة عنصرا ناظما لكل تراكمات البهاء والسمو الحضاريين اللذين طبعا تاريخ المدينة، قديما وحديثا. وظلت سير الرواد عنصرا مركزيا في كل جهود التوثيق لمكامن الخصب والتميز داخل ينابيع هذا النهر الدافق الذي نسميه “تطوان المشتهاة”. لذلك، كانت الكتابة عن سير أعلام المدينة أساس كل جهود التوثيق لذاكرة مدينة تطوان المشعة بمعالم التميز وبأصول الريادة وبعبقرية الإبداع وبسمو العطاء داخل المحيطين الجهوي والوطني الممتدين. ونتيجة لترسخ هذا الوعي الأصيل، انبرى رواد كتاب “تاريخ تطوان” لتخصيص الكثير من الجهد ومن البحث ومن التنقيب ومن التدقيق، لضبط سير الأعلام وتراجمهم التي كتبوا بها معالم التوهج في التاريخ الثقافي والرمزي للمدينة، مثلما هو الحال مع أعمال أحمد الرهوني، ومحمد داود، ومحمد ابن عزوز حكيم، وامحمد بنعبود، وعبد العزيز السعود،…
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي تكتسيها كتب التراجم في التوثيق لعطاء النخب المحلية، فإن العودة للكتابة عن تجارب الذات شكلت محور الاشتغال وأفقه المنشود، ليس بهدف إنتاج مواد متماهية مع نوسطالجياتها الحميمية ومع منجزاتها ومع عطائها، ولكن –أساسا- بهدف الإسهام في جهود حفظ الذاكرة الجماعية، من موقع الفاعل المباشر والمتتبع الميداني. بمعنى، إن تجميع تراث الذاكرة الجماعية، لا يمكن أن يتحقق إلا بتجميع عطاء الذوات الفاعلة، وهو العطاء الذي يشكل المادة الخام الضرورية بالنسبة للمؤرخ الباحث عن التفاصيل والمهووس بالسياقات والمنشغل بالتدقيق النقدي الكفيل بتنقيح المادة المصدرية الضرورية لأي كتابة تاريخية راشدة وعلمية.
في سياق تزايد الوعي بأهمية الانفتاح على استقراء ذاكرة الفرد الفاعل، يندرج صدور كتاب ” سيرة ومسارات” في شكل مذكرات شخصية للأستاذ عبد الواحد محمد القلالوسي، مطلع سنة 2021، وذلك في ما مجموعه 369 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب، يقدم خلاصة محطات تجربة المؤلف في مستويات متداخلة، جمعت بين سبعة محاور متكاملة، توزعت بين مرحلة المسيد أولا، ثم مرحلة التكوين الابتدائي ثانيا، فمرحلة الدراسة الثانوية ثالثا، ومرحلة التعليم الجامعي رابعا، ومرحلة الالتحاق بمدرسة تكوين متصرفي وزارة الداخلية خامسا، ومرحلة العمل بالإدارة الترابية من موقعه كرجل سلطة سادسا، وأخيرا مرحلة ما بعد الإحالة على التقاعد سابعا. وفي كل هذه المراحل المتراتبة، ظل الرجل نبراسا للعطاء المتعدد، بحيوات متعددة، وبطموحات متعددة، وبإسهامات متعددة، في مجالات العمل الإداري والعطاء الثقافي، من موقعه كأحد أبرز الفاعلين في المشهد المسرحي بمدينة تطوان، وخاصة داخل “مؤسسة المسرح الأدبي”. وقد عكس الأستاذ رضوان احدادو -بشكل دقيق- بعضا من مظاهر هذا العطاء الخصب والغزير للأستاذ عبد الواحد القلالوسي، عندما قال في كلمته التقديمية للكتاب: “ربان هذه السفينة وقائد رحلتها رجل مخضرم، أدرك وعاش زمنين متناقضين متباعدين متنافرين، وعاش أيضا حياة واحدة في حيوات متعددة.. زمن الاستعمار الإسباني باستعلائه وبجبروته، بإذلاله، وقساوته.. وأيضا بتقاليده وعاداته.. بلغته وثقافته.. وزمن التعبئة والمقاومة والرفض المتوج في النهاية بالحرية والاستقلال وهو وقتها في ريعان الشباب، وفورة الحماس وعنفوانه، فكان المسار، وكانت هذه المذكرات التي جاءت في شكل شهادة نابضة بالحياة، متفجرة بالحيوية، معززة بالوثائق والصور، مستحضرة الوقائع والأحداث في سبع مراحل… ولكأني به وبعودته ينتقم من زمن فرض عليه لزمن ضاع منه، مستردا، رافعا الستار عن التوهج المكبوت… مسار جدير بالتوقف معه.. مذكرات جديرة بالقراءة” (ص ص. 8-9).
ولد الأستاذ عبد الواحد القلالوسي سنة 1937 بمدينة تطوان، وبها تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي الذي توجه بالحصول على شهادة الباكالوريا سنة 1962. تابع دراسته الجامعية بكلية الحقوق بفاس والتي تخرج منها سنة 1965، قبل أن يلتحق بمدرسة تكوين الأطر التابعة لوزارة الداخلية التي تخرج منها سنة 1967، إذ شغل عقب ذلك العديد من المهام الإدارية داخل مناطق متعددة من البلاد. ويعتبر الأستاذ القلالوسي واحدا من رواد العمل المسرحي بمدينة تطوان، إذ برزت ميوله الفنية نحو هذا المجال في سن مبكرة وهو تلميذ بمدرسة “المعهد الديني” بتطوان سنة 1952. شارك في تأسيس فرقة الحي المسرحية والرياضية المعروفة باسم “نهضة زيانة” سنة 1956، وجمعية “طليعة الشباب”، وكان من الرواد الذين انخرطوا في الفرقة القومية للتمثيل التي أصبحت تعرف باسم “المسرح الأدبي”. كانت له صولات وجولات داخل حقل الممارسة المسرحية بمدينة تطوان وعلى المستوى الوطني، من خلال وظائفه الغزيرة المرتبطة بموقعه كمسير، وكفاعل جمعوي، وكممثل مسرحي، وكمؤطر ترك بصمات ناصعة داخل المشهد الثقافي بمدينة تطوان خلال عقود النصف الثاني من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي.
لكل ذلك، تشكل مذكرات الأستاذ عبد الواحد القلالوسي إضافة هامة لمجال جهود توثيق تجارب النخب المحلية التي تصنع بهاء مدينة تطوان الثقافي وريادتها الحضارية داخل وسطها الوطني. وتزداد معالم هذه القيمة بروزا، إذا أخذنا بعين الاعتبار سلاسة اللغة التي اعتمدها المؤلف في تأليفه، ونزوعه المتواصل نحو تعزيز محكياته بتواريخ مدققة، وبوثائق معززة، وبصور فوتوغرافية مرافقة، مما يعطي للمتن قيمة إجرائية أكيدة بالنسبة للمؤرخ المتخصص. من المؤكد أن لغة عبد الواحد القلالوسي تمارس سلطة الغواية على القارئ، بالنظر لمتانتها ولقدرة صاحبها على تطويع ممكناتها وعلى ضمان انسيابيتها، وقبل كل ذلك، هي لغة تحترم ذكاء المتلقي باحترامها لإواليات السرد الشفيف، والتوثيق الدقيق، والإمتاع السردي الخلاق.
أسامة الزكاري