أنهت “مجلة دار النيابة” السنة الثالثة من عمرها بإصدار العدد الثاني عشر خلال خريف سنة 1986، وذلك في ما مجموعه 100 من الصفحات ذات الحجم العريض، ضمت موادا كتبت باللغات العربية والإسبانية والفرنسية. وترسيخا منها لنهجها العلمي التخصصي، أفردت المجلة غالبية هذه المواد لتقديم ملف هام حول وضعية الطائفة اليهودية بالمغرب، ساهمت فيه أسماء وازنة في مجال البحث في تاريخ المغرب، داخل البلاد وخارجها. وبعيدا عن كل توجيه موظف لمختلف الجوانب الملتبسة لهذا الملف، سعت المجلة إلى إعادة تقييم الظاهرة من وجهات نظر أكاديمية خالصة، استهدفت إعادة طرح الموضوع وفق رؤى فاحصة في منزلقات القراءات التي قدمتها الكتابات الكولونيالية حول الموضوع، وكذا في التبريرات التي روجت لها الحركة الصهيونية في مرحلة تاريخية معينة في سعيها لدفع يهود المغرب نحو ترك وطنهم ونحو الانسلاخ عن هويتهم التاريخية التي اغتنت وتلاقحت فوق هذه الأرض المغربية على امتداد قرون طويلة. ولقد لخص الراحل جرمان عياش معالم هذا التحول الخطير بشكل دقيق، عندما قال: ” عاش اليهود طوال قرون في حالة تعايش مع المسلمين. وبنسف هذا التوازن، زرعت أوربا الاستعمارية الشقاق بين الطائفتين. كما أنها نجحت، فوق ذلك، في أن ترسخ في ذهن الأقلية اليهودية خطأ تاريخيا مفاده أن الإسلام قام باضطهادها في جميع العصور. وبناء على ذلك، غلب الاعتقاد أن الإسلام واليهودية متعارضان لا محالة. منذئذ، لم يفتأ هذا الخطأ يمارس تأثيره في مصير الطائفتين، فبجعله من اليهودي عميلا للغزاة، كان له دوره في إخضاع البلاد وإقرار النظام الاستعماري. وفي عهد قريب منا، كان نفس الخطأ، هو الذي مكن من تغلغل الصهيونية في اليهود المغاربة. أما النتيجة، فهي رحيلهم الذي حرم البلاد من عنصر ثمين، وأدى إلى استئصالهم، وتشتتهم ولعله يقود بعد جيل أو جيلين إلى الانحلال التام لعرقهم الذي كان متأصلا، مع مظهره الخاص به، في أرضية المغرب الإسلامي…” (ص. 22).
هذا هو الإطار العام الذي حاولت المجلة مقاربته من خلال إعادة فتح ملف وضعية الطائفة اليهودية المغربية. ويمكن القول إن العمل قد جاء غنيا ومتكاملا ومجددا في الكثير من أوج الدراسة فيه، مما ساهم في تصحيح الكثير من الأحكام الخاطئة وفي إعادة ربط التطورات الكبرى ليهود بلادنا داخل سياقاتها الوطنية الخالصة. فإلى جانب الدراسة الثمينة لجرمان عياش حول وضعية الأقلية اليهودية في مغرب ما قبل الاستعمار والتي قام بترجمتها كل محمد الأمين البزاز وعبد العزيز خلوق التمسماني، قدم رامون لوريدو دياز دراسة باللغة الإسبانية حول وضعية اليهود المغاربة في عهد سيدي محمد بن عبد الله، واهتم محمد المرابط في مساهمته (بالفرنسية) برصد معالم تطور الطائفة اليهودية المغربية على مستوى التحولات الديمغرافية والخاصيات الاجتماعية والمهنية. وإلى جانب الملف الرئيسي لهذا العدد، نقرأ في باب “دراسات وعروض”، مساهمة لجان كلود آلان (بالفرنسية) حول وضعية المستوطنين الأجانب بالمغرب عشية الحماية، ونبشا لرامون روسيو وخيمي بوفير في مجموعة نادرة من وثائق إسبانية حول الغرب الإسلامي في العصر الوسيط. أما محمد المنوني، فقد تناول في دراسته جملة من القضايا المنهجية والمعرفية الكفيلة بتوجيه جهود الباحثين لبعث تاريخ المقاومة المغربية خلال القرن20. ومن جهته، تابع مصطفى بوشعراء سلسلة حلقات ترجمته لكتاب “محمد الخامس: عرش وثلاث جمهوريات” لمؤلفه جان ماري لاكوتير. وفي نفس الباب، قدم عبد العزيز خلوق التمسماني ثلاث دراسات حول تاريخ منطقة الشمال عند بداية القرن 20، أولاها باللغة الفرنسية واهتمت برصد علاقة القائد أحمد الريسوني بالسياسة الأهلية الإسبانية، وثانيها أعادت إثارة قضية مقتل الفرنسي شاربونيي بطنجة (27 ماي 1906) من خلال الوثائق المغربية، وثالثتها سعت إلى التعريف بالقائد أحمد تازية الوهابي باعتباره أحد الأسماء المغمورة لقادة الجهاد في المغرب.
وفي باب “نصوص تاريخية”، قدمت المجلة موادا ذات صلة بتطور العلاقات المغربية البريطانية عند نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20. في هذا الإطار، كشفت مساهمة خالد بن الصغير عن مضامين مخطوط جديد حول هدية الفيل من الملكة فكتوريا إلى السلطان مولاي الحسن عنوانه “رسالة الدرر السنية في الهدية الفيلية الوافدة من فخيم الحضرة النجليزية”. وفي نفس السياق كذلك، قدم خلوق التمسماني وثيقة جديدة حول العلاقات المغربية الإنجليزية عند مطلع القرن 20، من خلال التعريف بمضامين مخطوط “الرحلة لجبل طارق لمقابلة سلطان الإنجليز سنة 1321ه” للفقيه الحسن بن محمد الغسال. وفي باب “قضية ووثائق”، تابع محمد الأمين البزاز سلسلة تنقيباته في ملابسات الحج المغربي إلى الديار المقدسة في القرن 19 وبداية القرن 20، من خلال تخصيص حلقة هذا العدد للحديث عن مشروع تأسيس منشآت صحية عصرية بجزيرة الصويرة لها صلة بالموضوع المدروس.
وبذلك عزز العدد الثاني عشر تجربة “مجلة دار النيابة” داخل حقل الإصدارات العلمية المتخصصة في تاريخ بلادنا، ونجح في مواكبة آخر الاجتهادات الأكاديمية التي أنجزها باحثون ومؤرخون جامعيون داخل المغرب وخارجه، معززين -من خلالها- ركائز المدرسة التاريخية الوطنية المغربية، وجاعلين من هذا المنبر أداة للاشتغال ولتلقيح الأعمال ولتطوير الاهتمامات. وبالنسبة لمنطقة شمال المغرب، فالمؤكد أن “مجلة دار النيابة” قد تحولت إلى نافذتها المشرعة على انشغالات باحثي المنطقة، وإلى أداة لتقريب نتائج هذه الانشغالات من عموم القراء والمهتمين، وإلى منبر مفتوح لإعادة طرح جل القضايا التي تحكمت في صنع المسارات الكبرى لتاريخ المنطقة، قديما وحديثا.
أسامة الزكاري