عاد موضوع “الكيف”، أو القنب الهندي، ليقفز على سطح اهتمامات الرأي العام الوطني، بعد اقتحامه لأسوار المؤسسة التشريعية، ثم صدور القانون المؤطر والمقنن لزراعة النبتة المذكورة. وإذا كان الموضوع قد حظي بالكثير من أشكال التدافع في الرؤى وفي المواقف وفي المنطلقات وفي الخلفيات، فإن جهود البحث في خباياه وفي تقاطعاته العميقة مع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والذهنية والتاريخية لساكنة منطقة الشمال، ظل انشغالا علميا ومجتمعيا أصيلا لدى قطاعات واسعة من أبناء المنطقة ومن باحثيها ومن نخبها الباحثة عن مواجهة حالة الانكسار وواقع الإحباط ومآل الضياع. لم يكن “الكيف” مجرد نبتة نشاز داخل وسط بيئي وإيكولوجي مزهر وخصب بأنماط العطاء الطبيعي، ولم يكن استهلاكه مجرد نزوة عابرة لدى أفراد حالمين بسعادة هاربة، ولا مجرد وسيلة للتنفيس عن شدة ضغط الواقع وإكراهاته الجاثمة على النفوس، ولكنه، وقبل كل ذلك، أصبح نمط حياة لفئات واسعة أحسنت استغلال مآسي الناس، في سعيها لتحويل هذه المآسي لوسيلة للاغتناء غير المشروع وللتجارة المنتجة للثروة وللنفوذ ولعناصر التأثير.
لقد طرح المهتمون سؤال حيثيات تأجيل مشاريع التنمية عن منطقة الشمال، ورصدوا تداعيات الأزمة التي أثمرت بروز قطاعات غير مهيكلة، غير قانونية، ماسة بكرامة الإنسان، لكنها، أضحت ضرورية لسد العجز وللتخفيف من حدة الأزمة التي نخرت واقع منطقة الشمال، مثلما هو الحال مع أنشطة تجارة التهريب مع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، ومع زراعة مادة القنب الهندي وتسويقها. ونظرا لانصهار الأنشطة داخل نسق البنى الإنتاجية الموازية للقطاعات المهيكلة، فقد أضحت حياة قطاعات واسعة من السكان مرتبطة عضويا ب”ثمارها”، بل وتحولت إلى نمط عيش قار، له أسسه، وله فرسانه، له أغنياؤه وله فقراؤه، له مترفوه وله معوزوه، وأساسا، له مافياته وله ضحاياه.
لا نريد العودة للتذكير بسياقات دخول نبتة القنب الهندي لبلادنا، ولا بمجمل الوثائق القانونية التي اعتمدها الاستعماران الفرنسي والإسباني لتقنين زراعة هذه المادة، ولا نريد العودة –كذلك- للكشف عن رهانات واقع ما بعد الاستقلال السياسي، باستغلال متنفذيه لمآسي السكان في السعي نحو تكييف هذا الواقع مع نزوعات التحكم والضبط والتدجين والهيمنة، وهي نزوعات أصابت الهوامش والأقاصي في مقتل، مما لاتزال تعيش تداعياته إلى يومنا هذا. وللعودة لمقاربة الموضوع في سياقاته التأصيلية لشروط الفهم الراشد لتداعيات الظاهرة، بدا الوعي متزايدا بضرورة تكييف البحث في ملابسات ملف زراعة القنب الهندي ببلادنا مع الوعي التاريخي العميق بجذور الظاهرة، في علاقتها بأعطاب التنمية المؤجلة إلى يومنا هذا. هي رؤية علمية تمتح منطلقاتها من الوعي بثقل الواقع وإكراهاته الضاغطة، وتنبع آفاقها من غيرة الانتماء لطراوة الأرض ولوجوه أناسها البسطاء.
في سياق هذا المسار التنقيبي النبيل، يندرج صدور العدد الثامن من دورية “تيدغين”، سنة 2019، بملف مركزي حول “زراعة الكيف” بمجالات صنهاجة سراير بعمق جبال الريف المغربية، وقد أجملت افتتاحية المجلة أبعاد الموضوع والهدف من إثارته في هذه الفترة بالذات، في كلمة تمهيدية، جاء فيها: “تثير زراعة الكيف مجموعة من الإشكالات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والبيئية، وتشكل هذه الزراعة للعديد من الفلاحين في بعض الأقاليم الشمالية للمغرب مصدر العيش الرئيسي، رغم أنها تصنف من الناحية القانونية في دائرة اللاشرعي منذ مدة طويلة. فهذه الزراعة تجتاح مساحات شاسعة تقدر بأكثر من 47500 هكتار (بحسب آخر تقرير رسمي مغربي) وتعيل قرابة مليون نسمة بشمال المغرب. وقد رافق هذا التحول الكمي والمجالي تغيرات عميقة، مست البنيات الزراعية والسوسيو-اقتصادية، تسببت في خلخلة العلاقات التقليدية داخل الأسرة والقبيلة وفي العلاقات مع ما كان يعرف بالمخزن وسلطة الدولة الحديثة… وفي هذا الصدد، تواصل مجلة “تيدغين” للأبحاث الأمازيغية والتنمية… الإحاطة بحيثيات هذه الزراعة، وذلك بنشر مجموعة من المقالات العلمية التي تشخص واقع حال ودينامية مجالات زراعة الكيف، وتدرس الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لانتشارها…” (ص. 3).
وقد عززت المجلة ملفها المركزي، بإدراج مقالات ودراسات للتعريف بالموروث التاريخي والثقافي والمادي لمنطقة صنهاجة سراير، وكذا صنهاجة الساحل، في علاقة ذلك بصعوبات ضبط انتمائها المجالي بين منطقتي الريف وجبالة بشمال المغرب. في هذا الإطار، نجد دراسة لعبد العزيز طليح في شكل مراجعة جديدة لتاريخ قلعة صنهاجة بقبيلة أيت بوفراح، ثم دراسة ليونس بقيان حول حياة الفقيه القاضي مولاي علي الخمليشي وآثاره، ودراسة لبلال الداهية في شكل شذرات من تاريخ قبيلة بني كميل. ومن جهة أخرى، قدم كل من موسى المودن وجيهان طه دراسة حول الوضعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية بقبيلة كتامة خلال أواخر القرن 19، انطلاقا من كتاب “المغرب المجهول” في جزئه الثاني الخاص باكتشاف منطقة جبالة. أما عبد السلام بوهلال، فخصص مساهمته لدراسة وضعية الموارد المائية ببلاد الكيف وإشكالية التنمية المستدامة من خلال نماذج من الريف الأوسط الأعلى. واهتم كل من بلال الزروالي وعبد المولى الهراس برصد مسارات انتشار نبتة الكيف بالريف الغربي وتأثيراتها المجالية، من خلال نموذج جماعة اسطيحة بإقليم شفشاون. ورصدت سناء احسايني مظاهر التنافس المجالي بين زراعة التبغ والكيف، من خلال نموذج جماعة سيدي رضوان بإقليم وزان. وقدم محمد بودواح دراسة حول واقع المرأة القروية وأدوارها الاقتصادية بمنطقة الريف الأوسط، وساهم الباحث الهولندي باولو دي ماس بمادة استقرائية في مسار منطقة الريف وتحولاتها خلال العقود الستة الماضية، وأنهى سعيد الأزرق مضامين العدد الثامن من دورية “تيدغين” بتقديم قراءة في مضامين الكتاب الذي أصدره شريف أدرداك في شكل تشخيص واستقراء لواقع النشاط السياحي بمناطق زراعة الكيف، من خلال نموذج قبائل صنهاجة سراير بمنطقة الريف بشمال المغرب.
وبهذه المواد الثرية، أمكن تقديم حصيلة هامة من الأعمال التنقيبية المنفتحة على حقول معرفية متباينة، وفق رؤية تسعى للعودة نحو تأصيل قضايا الراهن في إطار منظور تاريخي واستراتيجي متوازن. فبعيدا عن لغة الإثارة والتجييش، قدمت المجلة إضافات تساهم في إعادة تثمين جوهر المنطلقات العلمية، باعتبارها الرهان الأساسي ضد كل أشكال الإسفاف والانحراف.
أسامة الزكاري