يتابع الأستاذ محمد العربي العسري سلسلة إصداراته المحتفية بتجارب العطاء الإبداعي والحضاري لنخب مدينة القصر الكبير خلال الزمن الراهن، وذلك بإصدار عمل تجميعي جديد خلال سنة 2021، تحت عنوان “محمد الخمار الكنوني في الذاكرة- ثلاثون عاما على الوفاة”، وذلك ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، وذلك في ما مجموعه 341 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب، تعزيز للمسار العام الذي اختطه الأستاذ العسري في نبشه في ثنايا السيرة الذهنية للراحل المبدع محمد الخمار الكنوني، ليس -فقط- من زاوية التوثيق السير-ذاتي التقليدي، ولكن -أساسا- من زاوية البحث في تفاصيل السيرة الذهنية التي صنعت توهج الشاعر محمد الخمار الكنوني، ليتحول إلى أيقونة للقصيدة المغربية المعاصرة، تحديثا وتطويرا واستثمارا وإشعاعا. لقد قيل الشيء الكثير عن تجربة محمد الخمار الكنوني الشعرية، وأنجزت حوله دراسات على دراسات، وأطاريح على أطاريح، ومنتديات على منتديات،… ومع ذلك، ظلت عطاءاته عنوانا متجددا يطل عبر نافذة “رماد هسبريس” على تحولات بنية القصيدة المغربية المعاصرة من جهة، وعلى أوجه إسهام مدينة القصر الكبير في مسار تعزيز تجارب القول الشعري المعزز لإشراقات الحقل الثقافي والإبداعي الوطني المعاصر من جهة ثانية.
وحسناً فعل الأستاذ محمد العربي العسري، عندما قام بتجميع سلسلة من الدراسات ومن المقالات التي سبق وأن عرفت طريقها إلى النشر في مناسبات مختلفة، وهي المقالات والدراسات التي شكلت البنية الرئيسية التي يقوم عليها متن كتاب الأستاذ العسري الأخير. يقول المؤلف موضحا معالم هذا الأفق العام الذي وجه دوافع اشتغاله على مضامين الكتاب: “لقد كان الفقيد وبشهادة كل من قدر له أن يتعرف عليه ركنا ركينا في مسيرتنا الثقافية، نهض بها باقتدار، تاركا فيها بصمات قوية.. سواء على مستوى البناء الشعري، أو على مستوى البحث الأكاديمي، حيث كان للراحل حضور مشع في مدرجات كلية الآداب في كل من فاس والرباط… وإذا كانت أغلب مواد هذا الكتاب قد نشرت بعد وفاته سنة 1991، فإن السنوات التي أعقبتها ستشهد كما هائلا من الأبحاث والمقالات التي شكلت إضافات جديدة تناولت شاعرية الراحل وعطاءاته العلمية. أما على المستوى الشخصي، فإن الرجل لم يكن بالنسبة لي مجرد شاعر كبير، أو عالم جليل، لكنه كان صديقا أثيرا، وخلاً وفيا، ومنذ أن رحل إلى جوار ربه، تاركا في الحنايا جرحا لا يندمل، حرصت الحرص الشديد على تتبع كل ما نشر حوله من مقالات ودراسات وقصائد، فعلت ذلك من باب الوفاء لصداقة امتدت إلى ما يناهز ربع قرن من الزمن. ومع مرور الوقت، توفر لدي كم هائل مما كانت تنشره الصحف حول الراحل… ارتأيت أنه من الأفضل ألا يبقى ما نشر حوله مبعثرا في ثنايا الصحف والملاحق الثقافية، بل وإنه لمن الأجدى والأفيد للباحثين والدارسين ولعموم القراء أن ينتظم كل ذلك بين دفتي كتاب واحد…” (ص ص. 13-14).
لقد حرص الأستاذ العسري على توزيع مواد كتابه بين أربعة أقسام متكاملة، اهتم في أولاها بتقديم شهادات في حق الراحل محمد الخمار الكنوني، وأعاد نشر -في ثانيها- سلسلة من الدراسات التي اشتغلت على التراث الشعري للشاعر الكنوني، ونشر في ثالثتها نصوصا شعرية احتفائية واسترجاعية، وخصص القسم الرابع لنشر سلسلة ملاحق توثيقية حول السيرة الشخصية والإبداعية للشاعر محمد الخمار الكنوني. في هذا الإطار، نجد إسهامات غزيرة لنخبة من أعلام العطاء الثقافي الوطني بشمال المغرب وعموم البلاد، من أمثال محمد الوهابي، ومحمد بنشريفة، ونجيب العوفي، وإبراهيم السولامي، ومحمد بنيس، وأحمد الطريبق أحمد، ومصطفى يعلى، ومحمد الهرادي، وإدريس الخوري، وأنور المرتجي، وبشير القمري، وعبد الفتاح الحجمري، وعبد اللطيف شهبون، ومليكة العاصمي، وسعيد علوش، وصلاح بوسريف، ومصطفى الطريبق، ومحمد السرغيني، وعبد الرحمان الشاوش، ووداد بنموسى، والمهدي الدليرو، ومحمد بنقدور الوهراني، ومحمد الحلوي، وأحمد الطود،…
لقد استطاع الأستاذ محمد العربي العسري تقديم باقة نضرة من الأعمال التدوينية التي جمعت بين البعد الاحتفائي بتجربة الشاعر محمد الخمار الكنوني من جهة، وبين القيمة الجمالية والأكاديمية الرفيعة لرصيد منجزه الإبداعي من جهة ثانية، ثم بين القيمة التأسيسية لمعالم النبوغ والتميز داخل دهاليز المتن الشعري الوطني المعاصر من جهة ثالثة. وقبل كل ذلك، استطاع الأستاذ العسري -في تجميعه الدقيق- إعادة رصد معالم العطاء الثقافي داخل فضاء مدينة القصر الكبير التي أنجبت محمد الخمار الكنوني شاعرا، واحتضنته مثقفا، وارتبطت به إنسانيا. وبهذه الصفة، أمكن القول إنه لا يمكن -بأي حال من الأحوال- التوثيق لإبدالات حقل الذهنيات المحلية والتراكمات الثقافية والإبداعية لمدينة القصر الكبير، بدون العودة المتواصلة لتشريح تراث الشاعر محمد الخمار الكنوني، وبدون ربط هذا التراث بالمنعرجات الكبرى التي صنعت معالم النبوغ داخل التاريخ الحضاري لمدينة القصر الكبير.
وبعد، هل صحيح أن محمد الخمار الكنوني قد غادر عالمنا هذا قبل ثلاثين سنة من الآن؟ لا أعتقد ذلك، مادام نبض الوفاء يدب في شرايين أوفياء الوطن ممن يقدرون القيمة الرمزية للعطاء الحضاري لمدينة القصر الكبير. لقد كان الشاعر محمد الخمار الكنوني عنوانا للقصيدة المغربية الحديثة، ورمزا لألقها المستدام، وبذلك، كتب لسيرته الخلود وصنع لرحيله الانبعاث ووهب لقصيدته التوهج.
أسامة الزكاري