يعدُّ كتاب “منتخبات من ديوان الشعر النبوي في الأندلس” جمع وتقديم: الدكتور محمد محمد المعلمي مفخرة تؤرِّخ لتراث الأندلسيين في حبِّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، انتقى – مؤلفه- فيه قطوفا من أزاهر الأشعار لشعراء أخيار، ومؤلفين وعلماء أطياب، جادت بها قرائحهم في مواقف ومناسبات عديدة، دلَّت جميعها عن عميق تعلقهم بشخصية الحبيب المصطفى عليه السلام.
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب أن: (مقام التقديم لنصوص مؤرَّجة بعبير محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، مقامٌ تعجز عن بلوغ سدرته اللغة مهما انتقت من كلمات موحية، ومهما ابتكرت من أساليب بلاغية معبرة)، ثم خلص في خاتمته إلى القول بأن أصدق حب له صلى الله عليه وسلم هو أن يبقى أسوتنا الحسنة مصداقا لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، وأن نتحلى بخُلقه الذي شهد له به الوحي في قوله سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)..
أما محتوى الكتاب، فنص المؤلف عليه بالقول: (تبيَّن لنا أن حضور ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غمر كل مناحي التراث الأندلسي، ورسخ رسوخا بيِّناً بصيغ متنوعة في كل العلوم والآداب والفنون..)، وهكذا اشتغل المؤلف على وضع الكتاب في قسمين اثنين:
– أولهما: يحوي مقتطفات وقبسات انتخبها من مختلف فروع التراث الأندلسي العلمية والأدبية؛ وهي جميعها ناطقة بمحبة الرسول الكريم اختار لها عنوان: (صور من تعلُّق الأندلسيين بالمصطفى صلى الله عليه وسلم)، واستقاها من مقدمات بعض كتب الأندلسيين في مختلف مصادر العلوم الشرعية واللغوية والتاريخية والمنظومات التعليمية ومصادر الفنون الأدبية..
نقتطف منها هذه النفحات الأندلسية؛ الأولى لابن عطية في مقدمة تفسيره يقول فيها بعد التقديم بالحمدلة: (وأفضل الصلاة والتسليم على محمد رسوله الكريم، صفوته من العباد، وشفيع الخلائق في المعاد، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، الناهض بأعباء الرسالة والتبليغ الأعصم، والمخصوص بشرف السعاية في الصلاح الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله صلاة مستمرة الدوام على مرّ الليالي والأيام)..
والثانية لأبي علي القالي مفتتحا بها أماليه، فيقول بعد الحمدلة كذلك: (والحمد لله الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدلائل الواضحة، والحجج القاطعة والبراهين الساطعة، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونهض بالحجة ودعا إلى الحق وحضَّ على الصدق صلى الله عليه وسلم..)، وغيرهما كثير مما شمله هذا المنتخب.
– وثانيهما: يضم باقة شعرية اقتطفها من دواوين ومصادر أدبية أندلسية، وقد بلغ عددها خمسا وعشرين قصيدة لعشرين شاعرا؛ وضعها تحت عنوان: (منتخبات من ديوان الشعر النبوي في الأندلس)؛ وهي على شكل مِدح لنخبة من شعراء الأندلس جادت بها قرائحهم في مواقف ومناسبات عديدة، دلَّت جميعها عن عميق تعلق الأندلسيين بشخصية الحبيب المصطفى، فديوان الشعر الأندلسي زاخر بقصائد مضمخة بأريج الجمال والجلال، ومن خلال إرهاف السمع لما تنطق به لغة هذه القصائد وما ترسمه من صور، يقف الباحث في ثناياها على قيم شتى، يمثل حب المصطفى صلى الله عليه وسلم سنامها الأسمى.
وربطا لمنجزه ذي المادة التراثية، فقد اعتبره المؤلف – الأستاذ محمد المعلمي- الرَّد العملي على كل الأصوات المبحوحة التي يريد أصحابها أن يطفئوا نور الله بأفواههم، بما ينوء به العالم اليوم من كراهية وإساءة للمقدسات والشعائر..
وهذه قبسات من هذا المنتخب الفريد مثالا على عمق حب الأندلسيين وتعلقهم بالمصطفى عليه السلام:
قال ابن سهل الإشبيلي: [الكامل]
جَعَلَ المُهيمنُ حُبّ أحمدَ شيمةً *** وَأتَى بِه في المُرسلينَ كَرِيمة
فَغدَا هوَاهُ على القُلُوبِ تَمِيمَةً *** وَغدَا هُداهُ لِهديِهم تَتْميمَا
صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمَا
وقال ابن الجنان: [الطويل]
سلامٌ على منْ جاء بالحقِّ والهُدى *** ومَنْ يَزَلْ بالمعجزات مُؤيَّدَا
سلامٌ على خَيْر البَريةِ شِيمَة *** وأكْرَمِها نَفْسا وَبيتا وَمحْتِدَا
سلامٌ على المختار من آل هاشمٍ *** إذا انتخبوا للفخر أحمدَ أمجدَا
وقال ابن جابر الأندلسي: [البسيط]
بطَيبَةَ انْزل وَيَمِّم سَيِّد الأُمَمِ *** وَانشُر لَهُ المَدحَ وَانْثُر أَطيَبَ الكَلِمِ
وَابذُل دُموعَكَ واعذُل كُلَّ مُصطَبِرٍ *** وَالحَق بِمَن سارَ وَالحَظ ما عَلى العَلَمِ
سَنا نَبيٍّ أَبيٍّ أَن يُضَيِّعَنا *** سَليلِ مَجدٍ سَليمِ العِرضِ مُحتَرَمِ
جَميلِ خَلقٍ عَلى حَقٍّ جَزيلِ نَدىً *** هَدى وَفاضَ نَدى كَفَّيهِ كالدِّيَمِ
يا صفوة الله المكين مكانه **** يا خير مؤتمن وخير نصيح
أقرضت فيك الله صدق محبتي *** أيكون تجري فيك غير ربيح؟
حاشا وكلا أن تخيب وسائلي أو أن أرى مسعاي غير نجيح
وبعد، فهذه القبسات من كتاب “منتخبات ديوان الشعر النبوي في الأندلس” شاهدة على مدى وعي الشعراء الأندلسيين أولا وغيرهم من المؤرخين والعلماء واللغويين بقيمة الاعتزاز بقيم الإسلام.. وعساني أكون – بعرضها- قد رغبت المتيّمين بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم في استكناه نفحاتها والوقوف على سر مكنوناتها.
ذ. منتصر الخطيب