كلمة الأستاذ المهدي بنونة في حفل تأبين المرحوم الأستاذ امحمد عزيمان بتطوان ، نظمه تآلف الجمعيات : قدماء المعهد الحر والطالب المغربية وحنان و تطاون أسمير وقدماء معهد مولاي المهدي والخيرية الإسلامية التطوانية وذلك بسينما إسبانيول بتاريخ 29 دجمبر 2001
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم المرسلين.
سيداتي سادتي؛
ليست كلمتي اليوم لأتنافس بها مع من سبقني ولا من سيلينني من كبار الكتاب والأدباء والمؤرخين، في سرد مناقب الأستاذ امحمد عزيمان، وسجاياه الإنسانية والعلمية والتربوية، ولكنها مجرد شهادة شخصية أسجل بها بعض المنجزات الفذة التي كان الفقيد العزيز المسؤول عنها أو المشارك فيها لأنها من الأوائل التي كان بتطوان العزيزة قصب السبق فيها فتوجب علينا أن نؤرخ لها.
ففي منتصف العشرينات من القرن الماضي قام ثلة من الوطنيين بمدينة تطوان بإنشاء المدرسة الأهلية وأسندت إدارتها إلى الأستاذ المعلم الكبير والكاتب الاجتماعي السيد محمد داود، وكانت بذلك أول مدرسة وطنية حرة أشئت بالمغرب، وتلاها بعد فترة وجيزة المدرسة الخضراء بمدينة فاس.
وكنت أنا من جملة الأطفال الصغار الذين يملؤون قاعة حفظ القرآن وتعلم الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب وعلوم الأشياء، أما طبقة التلاميذ الكبار الذين يتابعون دروس اللغة والرياضيات والتاريخ والجغرافية، فكانت تتكون من مراهقين يافعين أذكر منهم أخي الطيب بنونة وزملائه عبد الخالق الطريس وامحمد بنونة وعلال عزيمان وامحمد الدليرو (أطال الله عمره) وأحمد بن عبد الرحيم مدينة وامحمد بن أحمد مدينة وأحمد بن محمد الخطيب ومحمد بن عبد السلام الخطيب وعبد السلام بن أحمد بنجلون وعبد السلام الشنتوف (الملقب بزومح) وثلة قليلة أخرى لا أذكر أسماءهم.
ومن المهم أن نذكر هنا أن الحرب التي كان يشنها بطل الريف الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي كانت على أشدها وكانت قوات المجاهدين تحاصر تطوان وترابط في جبل غرغيز وعلى الضفة الشرقية من واد المحنش (واد مارتيل) وتقصف من مراكزها ثكنات الجيش الإسباني بتطوان وضواحيها، وتحديا لاستعمار الإسباني كان الكبار من تلاميذ المدرسة الأهلية ينشدون وبأصوات عالية نشيد الثورة الريفية الذي كان مطلعه كما يلي:
مغربنا وطننا روحي فداه أميرنا عبد الكريم بربي حماه
يا ربنا هيأ لنا طريق الرشاد إلى الأبد
ونلاحظ أن الزعيم الوطني الكبير الأستاذ سيدي علال الفاسي قد استلهم من هذا النشيد بعض المعاني للنشيد الذي وضعه حزب الاستقلال فيما بعد واحتفظ بنغم نشيد الثورة الريفية على أصله.
المهم هنا أن نذكر تحدي الشبان المغاربة للاستعمار الإسباني في تطوان رغم وجوده العسكري المكثف، ومن بين أولائك الشبان السيد امحمد عزيمان الذي كان لصوته رنة بارزة، وكنا نحن الأطفال نحفظ من التلاميذ الكبار هذا النشيد وغيره من الأناشيد الوطنية مثل نشيد “وطني أنت لي والخصم راغم، وطني أنت كل المنى …” ونخرج نتغنى بها في الشوارع أو في الحفلات.
هناك من الذكريات البارزة، تأسيس حزب الإصلاح الوطني لأول مدرسة ثانوية وطنية بالمغرب هي المعهد الحر العتيد الذي مازال يقارع الزمن إلى يومنا هذا، فقد تم وضع خطة المعهد باستشارة مع المرحوم الأستاذ عزيمان الذي كان يعمل بإدارة التعليم وذلك سنة 1936. وكان المعهد الحر هو المدرسة الثانوية الوحيدة التي جهزت بمختبر للفيزياء وآخر لكيمياء حيث يقوم التلاميذ بتطبيق النظريات التي يتعلموها في الكتب، وكانت منفردة في ذلك حتى أن تلاميذ المدارس الثانوية الإسبانية بتطوان كانوا يقومون بزيارتهما ليروا كيف يقوم زملاؤهم المغاربة بتطبيق معلوماتهم، وكان مدير الأكاديمية خنيرال الأستاذ دون خاثينطو يستأذن مدير المعهد الحر في تنظيم تلك الزيارات العلمية.
نقف هنا لنتساءل: من أين أتى امحمد عزيمان بهذا الفيض من العلم التربوي ليصبح مرجعا فيه؟
لقد أتم عزيمان دراسته في المدرسة الأهلية، ثم تابع الحضور في المساجد والزوايا حيث كان علماء تطوان الأجلاء يعطون الدروس في اللغة والفقه منهم الفقيه الزواقي والفقيه الرهوني والفقيه المرير والفقيه أفيلال وغيرهم، وذلك قبل أن ينتقل ولفترة قصيرة إلى فاس حيث تابع دراسته في جامع القرويين ولكن سرعان ما غادر فاس وتطوان متوجها في أوائل الثلاثينيات إلى القاهرة.
لم يستهوه الالتحاق بالجامع الأزهر ولا بكلية الآداب بالجامعة المصرية ولكنه اختار حصنا علميا منيعا وهو مدرسة عليا ذات شهرة عالمية تدعى” دار العلوم” يشترط للالتحاق بها أن يكون المتقدم حاملا للإجازة من الجامعة المصرية أوبشهادة “العالمية” من الأزهر أو التقدم لامتحان القبول وهو من أصعب الامتحانات، ولم يكن أمام امحمد عزيمان سوى هذا الحل الأخير، فتقدم له وهكذا استطاع بمجهوده الخاص أن يقتحم دار العلوم ويكون أول مغربي دخل هذه المدرسة العليا، وحسب علمي فإنه لم ينتسب إليها بعده سوى شخصان هما محمد بلعربي العلمي ومولاي أحمد بن إدريس الوزاني اللذان التحقا بدار العلوم في 1936 و1938 على التوالي.
وعن وجود عزيمان في هذه المدرسة العليا أذكر أنني في سنة 1935 تتلمذت في مدرسة النجاح بنابلس على يد أستاذ مصري اسمه أحمد بدوي معروف بكثرة تأليفه في اللغة العربية ونحوها وصرفها وآدابها فقال لي يوما “يامهدي أنت من تطوان، فهل تعرف رجلا اسمه امحمد عزيمان؟ فقلت نعم، فقال بلهجته المصرية: عزيمان ذا عفريت. كان يتفوق على جميع زملائه في دار العلوم، فهو مبرز في أصول اللغة وفي أصول الدين وفي أصول التربية (البيداغوجية)”.
وأخيرا، لابد لنا أن نذكر أن المرحوم الأستاذ عزيمان وهو في إدارة التعليم بتطوان وضع في سنة 1941 نص قانون بإلزامية التعليم وعرضه على سمو الخليفة السلطاني الأمير مولاي الحسن بن المهدي فأصدر بذلك ظهيرا كان ومازال القانون المغربي الوحيد في باب إلزامية التعليم الابتدائي في المدن والبوادي، ولكن الإسبانيين عرقلوا تطبيقه وجاء الاستقلال وفقد ذلك القانون مشروعيته ولم يصدر أي بديل عنه إلى يومنا هذا.
رحم الله الأستاذ المعلم امحمد عزيمان، وعوض الله بلادنا عنه أساتذة ومعلمين من هذا الوزن الفريد في نوعه. والسلام