انغمس في دفتي الكتاب الذي بين يديه، وحيدا لا يزعجه أحد في حضن تلك الأريكة الخشبية، الوقت يدنو من الظهيرة والمنتزه شبه فارغ، إلا من ظلال الأشجار الباسقة وأصوات الطيور الخارقة للهدوء شبه التام، اقترب الصوت خطوة خطوة في اتجاهه..: لا يمكن.. !لا يمكن.. ! لما كان قاب قوسين أن يلمسه، التفت كالفزع..والصوت عاد القهقرى لا يمكن..لا يمكن..
بالنسبة له ليس هذا المنتزه مكانا ثانويا يأوي إليه صدفة أو حينما لا يجد مأوى آخر يقصده، يقول كمن يرد على السائلين: إنه حديقة بيتي، وهو يقصد ما يقول، رغم أن بيته الصغير المكون من غرفة واحدة وحمام ومطبخ بعيد بأميال و لاتجمعه بالمنتزه غير الخير والإحسان.
لما عادت زوجته إلى بلدتها منذ بضع سنين مشدودة بحنين الوالدين، بقي وحده غريبا في تلك المدينة الغريبة التي لم يحس فيها يوما بالاستقرار لأن طبعه مجبول على القلق، فرأسه الصغير لا تفارقه أهازيج الأهل والجيران وأبناء الجيران والمارة والباعة في حي بلدته، هو الذي غادرها غاضبا، ناقما لا يلوي على شيء..وذلك المنتزه هو متنفسه الوحيد أيام الصحو.
بلدته التي ضاقت به لم يعد لها إلا مرة واحدة في ذلك الفجر وقد هاجرها لما اشتد عوده. رن في تلك الليلة، قبل الفجر، الهاتف، إنه الخيط الوحيد الذي ظل يربطه فعليا ببلدته، لم يرد في المرة الأولى، والثانية…، فقد تعلم أن مكالمات الليل تنم عن قلة ذوق إن لم تحمل نبأ شؤم، ولما رن في المرة الأخيرة أحس بانزعاج، فأخذ السماعة، وصله صوتها الذي يحفظه كامتزاجه بحليب الأم متهدجا: إنا لله وإنا إليه راجعون..
..لا يمكن…لا يمكن..استمر ذلك الصوت يحفر في رأسه عميقا، اضطربت سطور الكتاب، طواه بنرفزة ثم نهض لا يتحكم في أعضائه كأنه سكران وما هو بسكران. في الطريق كالتائه، اختلط ذلك الصوت بأصوات المارة وزعيق المحركات..، لم يكن ينوي مغادرة المنتزه في ذلك اليوم المشمس بتلك السرعة، فالمتعة التي يجدها فيه أيام الصحو لا تعادلها متعة و معظم أيامه ولياليه الأخرى كالحة حزينة. كان كمن يهرب من جلده، وليس له من مهرب أو مآل..
في حضن تلك الأريكة الخشبية استقرت عظامه المتهالكة أخيرا كعودة المسحور، فخط ذلك القلم المعطر برائحتها على ذلك البياض الموحش: لا يمكن أن تستمر الحياة دون طعم، لا يمكن أن أعيش فاقد المعنى؛ خطها وهو ينظر إلى اشراقة طفل يلاعب أمه و الشمس تبطئ في المغيب؛ ومن هناك بدأت الحكاية من جديد.
عبدالحي مفتاح