بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أيها الجمع المبارك: يطيب لي أن أشارككم اليوم هذا اللقاء القيمي الأخلاقي، الذي يندرج في إطار إحياء ذكرى وفاة الفقيد الأستاذ سيدي محمد مصطفى الريسوني. والمنظم من طرف أعضاء جمعية البوغاز والفضاء الثقافي والفني رياض السلطان شكر الله لهم حسن صنيعهم ، وبارك خطواتهم.
سيداتي الفضليات، سادتي الكرام:
كيف يرحل من خطاه أثرٌ، وأفعاله شيمٌ، ووجوده قيمةٌ ؟ لن يرحل حتما؛ وإن رحل جسدا، فهو باق مخلد في الوجدان والذاكرة.
فليس كل من يوارى جثمانه، ويغادر دار الممر إلى دار المقر ينقطع أثره. فالميت أيضا يغبط بما يتركه من عمل صالح، وذكر حسن :
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان |
فاصنع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان |
تربطني بالمرحوم صلة قرابة، فهو ابن خالة والدي الأستاذ عبد الصمد العشاب. لكنك تخالهما قيد حياتهما أخوين شقيقين، كما عبر عن ذلك المرحوم في كلمته يوم تكريم والدي سنة 2009 بقصر مولاي حفيظ بطنجة عنونها ب” ربً أخ لم تلده لك أمك ” قوله: [ الريسوني والعشاب، عاشا أخوين شقيقين وابنين بالانتماء العلمي والأسري، للفقيد العلامة عبد الله كنون. فرغم اختلاف اسمهما العائلي، فهما من عائلة كنون انتسابا وخؤولة وثقافة].
إن الحديث عن الفقيد، حديث عن سجاياه ومواقفه النبيلة، والمهام المتعددة التي أسندت له، والتي تشهد له بالكفاءة العالية، وتقدير المسؤولية، والتنزه عن كل ما يشين النفس أو يعيبها.
يقول المرحوم والدي عبد الصمد العشاب: [ابن خالتنا وصديق الطفولة والشباب والشيخوخة، حباه الله بصفات حميدة وأخلاق مجيدة.]
ويجمع أفراد عائلة المرحوم، صغيرهم وكبيرهم، وكذا محبوه ، على تواضعه، وأناقة حديثه، وروحه المرحة. فلم يكن يبخل أبدا بتقديم المشورة لمن قصده، فتجده ناصحا، أمينا، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم ” المستشار مؤتمن”.
كما كان رحمه الله، يتصدق بابتسامته البهية في وجه كل من يلقاه، فتجده طلق المحيا، سمح النفس، مبادرا بالتحية في تواضع جم، وهذا ما جعله عزيزا بين أهله وأحبته.
ولا ريب أن استحضار المواقف الصادقة التي لا تنسى في مثل هذه المناسبات واجب علينا. وكما نعلم جميعا؛ لا تخلو الحياة من مواقف صعبة وظروف حالكة نحتاج فيها لدعم نفسي، وأناس صادقين أوفياء يقفون معك بثبات، والمرحوم كان من بين هؤلاء. فلن أنس أبدا تعاطفه بكل نبل مع محنة مرض والدي، عندما خضع لعملية القلب المفتوح؛ فقد كان دائم السؤال والتواصل، يزرع الطمأنينة واليقين بقدرة الله تعالى في أن تتغير المحنة إلى منحة.
وأذكرأنني، كلما أنهيت من إعداد وتنسيق مخطوط من مخطوطات والدي، أبعث له نسخا منه، فينهال علي بعبارات الشكر والامتنان والتشجيع، ويذكرني بخلق البر بالوالدين والإحسان إليهما بعد الممات، مرددا على مسامعي باستمرار:” كان نعم السلف، وترك نعم الخلف” شكر الله له حسن ظنه بي.
ومن أخلاقه العطرة أيضا، أنه كان في كل مرة أهديه كتابا جديدا للمرحوم والدي، ، سرعان ما أتوصل منه برسالة شكر، يبارك فيها خطواتي، ويحفزني على المواصلة والاستمرار.
ومما جاء في إحدى رسائله قوله: [ تلقيت بابتهاج كبيركتابكن ـ الذي أعتقد أنه باكورة أعمالكن المطبوعة ـ حول كتابات والدكن العظيم الأستاذ عبد الصمد العشاب. وقد سرني جدا اختياركن لهذا الموضوع كأول عمل تقومين بنشره من أعمال والدكن الخالدة والمفيدة …. إلى نهاية الرسالة.]
وإن كنت أعرض في هذا المقام، مقتطفا من رسالته، فلأبرز خصال الرجل، وديدنه في التعامل مع الآخرين، وحرصه الشديد على توطيد أواصر المحبة بالكلمة الطيبة، والخلق الحسن.
ثقافته المتنوعة، مكنته من الانغماس في المجتمع، والانتساب إلى الجمعيات الثقافية والاجتماعية، ولا سيما أنها تمتح من روافد شتى:
قانونية: لقد أفرغ الراحل جهده ووقته الأكبرفي هذا المجال، ويبدو ذلك جليا بالنظر إلى ممارسته لمهنة المحاماة ، وانشغاله بالكتابة والتأليف في هذا الحقل، وعضويته في العديد من الهيآت والمؤسسات الحقوقية، والتي أبان فيها عن عفة ونبل فريدين، ورصانة في التفكير، وبعد نظر في اتخاد القرارت، ووقار ورزانة.
فقهية: فقد كان الفقيد متشبتا بعقيدته الدينية المتسامحة، ومنفتحا على التغيرات التي يعرفها العصر. فتربيته في كنف خاله العلامة سيدي عبد الله كنون، كان لها الأثر الطيب في حياته، حيث رعاه أفضل رعاية، فهو الصاحب والشيخ والمعلم، فضلا عن توجيهه في فترات دراسته، بدءا من المرحلة الابتدائية في المدرسة الإسلامية الحرة، والمعهد الديني بطنجة، مرورا بالمرحلة الثانوية بالمعهد الديني بتطوان، وصولا إلى المرحلة الجامعية بكلية الحقوق بالرباط.
أدبية : كان رحمة الله عليه، أديبا أريبا، وكاتبا وشاعرا أيضا. ولم تكن أحاديثه تخلو من طرف أدبية، ونقول شعرية، بل كان يروق له دائما اقتباس أبيات من الشعر العربي من أجل الاستشهاد بها في مناسبات خاصة. فها هو مثلا يستهل كلمته التأبينية في حق والدي، ببيت من عيون الشعر:
ولكن لا خيار مع الزمان |
ولو كان لنا الخيار ما افترقنا |
فمما جادت به ملكته الشعرية ، هذه الأبيات التي نظمها في حق الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، يقول فيها:
بأريج الرحمات |
نسمة الحب هبت |
من عظيم الحسنات |
وجرى الإخلاص سيلا |
بحلول ألمع السادات |
طنجة الكبرى هنيئا |
ناهيك عن نماذج شعرية أخرى. وأحيانا نجده أيضا يصدر أحكاما نقدية بخصوص أعمال أدبية، شعرية بالأساس؛ كهذا الحكم عن ملامح الشعر عند الشاعر أبي بكر اللمتوني حيث يقول: ( الشاعر قوي التعبير، صادق المقولة، وكني السرية، غني في معانيه، عذب في قراءته وتلاوته). وهذا الحكم إن كان يدل على شيء فهو يدل على الخبرة التي يمتلكها المرحوم في الكشف عن القيم الجمالية بلغة ماتعة؛ فكما للشعر شعريته، للنقد أيضا شعريته.
ولا غرابة أن نجد هذا الحس الأدبي المرهف في شخصية فقيدنا حاضر بقوة، إلى جانب الحس القانوني. بل لعمري هذا أعز ما يطلب؛ فرسالة الأدب رسالة إنسانية تحمل على عاتقها هموم الأنام، وتمرر قيما نبيلة كقيمة التضامن والتآزر وتدعو لتحقيق المساواة والعدل، وهي نفسها التي يكرس رجل القانون جهده لترسيخها والدفاع عنها.
ورغم كل الجوانب المضيئة في تجربة المرحوم الشعرية، إلا أن الرجل كان متحفظا من أن ينعت نفسه بلقب شاعر، بل اعتبر ما نظمه مجرد محاولات لا ترقى أن يطلق عليها اسم ” قصائد” رغم ما تحمله من شرف المعنى، واستقامة اللفظ. حيث يقول في معرض حديثه عن أقسام كتابه ” الظل المديد “: ( القسم الثالث، جمعت فيه بعض ما جادت به قريحتي من أبيات شعرية لا أرى أنها ترقى إلى قصائد، بل يكفيني أنها مشاركة أو محاولة شعرية أشارك بها أصدقائي الشعراء ).
وهذا ليس إلا تواضعا منه واحتراما لنفسه ولغيره وتقديرا لملكة الشعر. فأين نحن من هذا السلوك ونحن نرى أشباه الشعراء وقد تمردوا على الشعر وفرضوا أنفسهم بالقوة فأساؤوا لها ولغيرهم وللشعر أيضا. رحم الله فقيدنا، وأسكنه فسيح جناته، وجعله من الشهداء والصديقين، ومن الذين قال في حقهم وهو عز من قائل: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون.} صدق الله العظيم.
د. نبوية العشاب