ما أن أخذ مجلسه في حلقة الذكر التي انعقدت بزاوية سيدي علي بن ريسون، إحياء لآخر ليلة من ليالي المولد النبوي، حتى أحس براحة لا يجدها إلا في أمثال هذه المجالس، التي تغشاها رحمة الرحمان، وتحفها ملائكته الكرام.
تعمد أن يتوضأ في النافورة التي تعود أن يسبغ وضوءه فيها وهو صغير، وجدها هي هي، ماء السكوندو لا زال – لحسن الحظ – يصلها متدفقا رقراقا، إلا أنها في حاجة ماسة إلى يد تعيد إلى رخامها بياضه ونصاعته.
صلى العشاء في نفس المكان الذي كان يصلي فيه يوم كان تلميذا بمسيد الفقيه الصروخ، فهذا الكُتاب يشرف على الباب الرئيسي للزاوية، وصلاة العصر كانت من الصلوات التي يؤذن “للمْحاضْرة” بشهودها.
كان يتمنى لو انطلق الحفل بعد صلاة المغرب، أو بعد قراءة حزب المغرب إن أمكن، فحزب الزاوية الريسونية كان يُقرأ تحت القبة الكبرى، وكانت حلقته متباعدة الأطراف، كثيرة العدد، يصل صداها إلى أبعد نقطة في الحي.
ولكن القيمين على هذه الجلسة الربانية، يؤثرون تأخيرها إلى ما بعد صلاة العشاء، لتظل فقراتها متماسكة مترابطة.
وبرنامجها، يُفتتح بالصلاة المشيشية، ويُختتم بالقصيدة المشهورة: “أنا سيدي عندي طبيب، ويعالجني بدواه”. وبين المفتتح والمختتم، يُقرأ النصاب الأخير من الهمزية، وتُتلى قصائد المديح.
أخذ مجلسه بين المدعوين، وعيناه تتنقلان بين عدد من الأماكن، وكأنها تبحث عن ذلك الصبي المجلبب الحليق الرأس، الذي كان يصلي هنا، وينصت إلى دروس الوعظ والإرشاد هناك، ويشهد صلاة التراويح في ذلك الركن، ويتابع خطيب الجمعة وهو مسند ظهره إلى تلك السارية.
لقد كان لهذه الزاوية دور في نشأته الدينية، فيها دأب على الصلاة مع الجماعة، وفيها تابع المجودين وهم يرتلون القرآن، فيحسنون الترتيل، وفيها أنصت إلى خطب الجمعة، ودروس الوعظ والإرشاد، وفيها واظب على قراءة الهمزية، وفيها عرف دليل الخيرات.
وها هو يحيي مع جموع المؤمنين ليلة المولد النبوي الشريف، فتنهال عليه هذه الذكريات، فتثير فيه شحنة من الخشوع، ودفقة من الحنين إلى الماضي.
لقد كان آباؤنا يغرسون فينا بذور الإيمان، ويتعهدونها بالسقيا والرعاية، حتى تتأصل فينا، وتنمو وتزدهر، وتأتي بالثمار المرجوة.
فرحمات الله ورضوانه عليهم.
مصطفى حجاج