تلقيت صبيحة يوم الثلاثاء من الأسبوع الفائت (الموافق ل 22 يونيو 2021) نبأ وفاة المشمولة برحمة الله بإذنه أستاذتنا الفاضلة الدكتورة هدى المجاطي، هذه الأيقونة الفريدة التي طبعت مشوارنا الدراسي في سلك الماستر بطابع متميز مِلؤُه العطاء والاحترام والانضباط. فتسارعت الذكريات الجميلة إلى ذهني تتقاذفني يمنة ويسرة، مستعرضة عليّ أيام الدراسة في سلك الماستر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل، نابشة في خبايا العلاقة التي كانت ولا زالت تربط بيننا كطلبة، وبين هذه الأستاذة الشابة، مسافرة بي إلى عوالم جميلة أتذكّر فيها أجمل اللحظات، لكن فقدانها في هذا العمر القصير أشعرني أكثر بقيمتها، بل وجعلني أزهد في هذه الدنيا الفانية.
لهذا قررت أن أعرض على القراء شهادتي في حق هذه الأستاذة الفاضلة، وشهادات بعض طلبتها الأوفياء الذين لم يروا منها إلى جميل الأخلاق وحسن المعاملة، دونما الخوض في مسيرتها البحثية والعلمية التي خاض فيها زملاؤها الكرام في جريدة الشمال (العدد 1104، بتاريخ السبت 15 ذو القعدة 1442 الموافق ل 26 يونيو 2021) حيث خصصوا لها جل فضاء هذا العدد في التفاتة كبيرة منهم، فلهم مني خالص الشكر والثناء على هذا الوفاء الكبير.
كبرنا، تخطينا أعتاب الإجازة؛ ذلك المشوار الجامعي الطويل الحافل بالدروس والمحاضرات والمدرجات الفسيحة، واقتحمنا عالم الدراسات العليا العميق في معارفه، الفسيح في آفاقه، رغم قلة الطلبة وضيق القاعة وكثافة مواده وموضوعاته… تذكرت كيف كنا نقضي ظُهر كل يوم ونحن نتبادل الطعام مع زملائنا في الفسحة ين الحصة والحصة… كما تذكرت حالي وحال زملائي الطلبة والطالبات أيام الاختبارات حينما كانت تعلو الصيحات في القاعة وفي الساحة؛ نشتكي من صعوبة الامتحان، أو نزهوا بسهولته … لقد رسمت تلك الذكريات في مخيلتي بخطوط حريرية زاهية الألوان صورا ملونة رائعة لن تمحها الأيام … تخرجنا من الجامعة ونحن نتمنى أن تعود بنا الذكريات إلى الوراء ولو في الخيال، ولا زالت تلك الذكريات تداعب أفكاري إلى اليوم بين حنين وأمل بغد أفضل…
كم يشدني الحنين إلى تلك اللمة من خيرة الطلبة والطالبات التي كانت تسهر على إنجاح تلك الأنشطة الثقافية، المحاضرات، الندوات العلمية التي كانت تنظمها شعبة الدراسات العربية وماستر الأدب العربي في المغرب العلوي وملتقى الدراسات المغربية والأندلسية بالكلية، إلا أنهم سرعان ما تفرقوا بمجرد التخرج، فمنهم من سافر إلى الخارج ولم يعد، ومنهم من أخذته متاهات الحياة وانشغالات العمل، وبقيت مجموعة صغيرة منا لا تزال تلتئم كلما سنحت لها الفرصة للالتئام في نشاط إبداعي، أو في ندوة علمية، بل حتى في بعض المناسبات الحزينة. نقوم بزيارة أساتذتنا الذين غادر بعضهم إلى دار البقاء، تلكم أحبائي الكرام أجمل الذكريات التي عشناها كطلبة مع أستاذتنا في تلك القاعة 31 من جناح الماستر، والتي وإن مضت فإنها ما زالت تنبض بالحياة.
لقد شاء العلي القدير أن نجتمع من جديد في جنازة أستاذتنا المرحومة هدى المجاطي، فقررت أن أكتب شهادتي المتواضعة في حقها، وأرفقها بشهادات زملائي وزميلاتي من الطلبة الذين تتلمذوا على يديها الكريمتين في سلك الماستر، مُعرّفا بمسارها التعليمي والأخلاقي، وقد جاءت هذه الشهادة الموجزة في سياق ثقافة التقدير والاعتراف، وبدافع شخصي عميق، أساسه الاحترام الكبير والتقدير العظيم الذي أكنه، ونكنه جميعا كطلبة لأستاذتنا المرحومة.
ذات يوم من أيام الخريف الباردة من سنة 2015، ونحن في الحصص الأولى من سلك الماستر -ماستر الأدب العربي في المغرب العلوي الأصول والامتدادات- بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان- وبالضبط على باب القاعة 31 من جناح الماستر، نشكل مجموعات صغيرة هنا وهنا قصد التعارف، أقبلت علينا سيدة وقورة في لباس محتشم، حسبناها في بداية الأمر طالبة ماستر معنا في الفصل؛ من الأستاذات اللائي يتابعن دراستهن، لكن سرعان ما ألقت علينا التحية، فعرفنا أنها الأستاذة التي ستدرس لنا مادة (الصحافة في شمال المغرب زمن الحماية الإسبانية)، تناسلت التساؤلات والاستفسارات عن شخص هذه الأستاذة الشابة، وعن طريقتها ومعاملتها للطلبة … وبعدما دخلنا القاعة وأخذنا أماكننا، سارعت إلى إذابة ذلك الجليد؛ فبادرت إلى تقديم نفسها بكل ثقة وأريحية: “اسمي هدى المجاطي شاونية الأصل طنجية المولد، أستاذة التعليم الثانوي التأهيلي بمدينة طنجة، سأدرس لكم مادة الحياة الثقافية في شمال المغرب من خلال الصحافة المكتوبة، والهدف من هذه المادة التعريف بأعلام ومشاهير هذه الكتابة، والترجمة لمشاهير ذلك الزمن من تاريخ المغرب، الذين كتبوا تاريخ المقاومة بالفكر والقلم بحروف من ذهب”. فاطمأنت قلوبنا بكلامها هذا الذي وقع في قلوبنا بلسما… إنها الباحثة المتخصصة في ثقافة وأدب شمال المغرب في العصر الحديث الأستاذة هدى المجاطي، تشعرك منذ الحصة الأولى وكأنها ينبوع علم وتربية يتدفق منها يروي تعطشنا للعلم والمعرفة. لقد كانت فعلا في مستوى الرسالة التي حملتها لإيصالها للطلبة خاصة وللقراء أجمعين، مما أكسبها حب الجميع والدعاء لها بالجنة والمغفرة.
حملت رحمها الله مشروعا علميا وثقافيا كبيرا وأشركت طلبتها في بنائه؛ كان هذا المشروع عبارة عن إحياء المقالات الفكرية والأدبية المنشورة في تلك المجلات التي كانت تنشر في المنطقة الخليفية من المغرب كمجلات (الأنيس والريف والسلام والمعتمد) وإعادة نشرها بعد قراءتها وتحليلها والتعليق عليها، وقد كلفتني بتوزيع تلك المقالات على الطلبة، مما شكل لي آنذاك مصدر ثقة وفخر أعتز به إلى اليوم، ومَعين علم عز نظيره في مجلات اليوم، فكنت أنخل المقالات المناسبة وأوزعها على الطلبة بعد استشارتها طبعا. لن أنسى تلك اللحظات الجميلة التي قضيناها في حصصها الممتعة، كيف أنساها وقد علقت في مخيلتي، هي مرحلة ليست بالقصيرة استمرت لأكثر من سنتين.
يقول الطالب الباحث محمد اللوشي في حق أستاذتنا المرحومة “ترددت كثيرا في كتابة هذه الأسطر بعدما طلب مني زميلي في الدراسة وصديقي الأستاذ عبد الإلـه بلحاج كتابة كلمة في مناقب وسيرة أستاذتنا المرحومة هدى المجاطي، لقد ماتت رحمها الله على التقوى و الورع، يعجز قلمي عن خط هذه الأسطر، وعن التعبير عما يخالج داخلي من شعور تجاهها، ولاسيما والمناسبة أليمة، لقد خلّف رحيل أستاذتنا المرحومة هدى عنا إلى دار البقاء غُصّة في قلبي وفي قلوب كل طلبتها، ما أزال أذكر يوم التحقتُ بالدراسة في سلك الماستر سنة 2015، وما زلت أتذكر مقاعد الدراسة، وزوايا الممرات الكلية التي كنت أواظب على الجلوس فيها مع أصدقائي وزملائي بين الحصة والحصة، وتفاصيل أخرى، أتذكر جيدا يوم قابلت أستاذتنا هدى رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه في قاعة الدرس تكلمنا بعض الوقت، واستفسرتني عن الدراسة وعن الطلبة وعن عدة أمور، بصفتي منسق الفوج آنذاك. كانت سيدة وقورة فاضلة، تشرح درسها بسلاسة ويُسر، كما كانت مادتها العلمية منتقاة بعناية فائقة، موضوعها الحركة الثقافية في شمال المغرب زمن الحماية الإسبانية من خلال الجرائد والمجلات، يطبع درسها نوع من النصح والإرشاد، رحم الله أستاذتنا الفاضلة ورزق أهلها الصبر والسلوان”.
أما الطالبة الباحثة مريم المودن فقد أجهشت بالبكاء بعدما سمعت نبأ وفاة أستاذتنا الفاضلة، كيف لا وهي من ربطت معها أواصر العلاقة الدراسية والشخصية، فكانت تجمعهما مودة قل نظيرها، تقول الطالبة من ديار المهجر عن أستاذتها وصديقتها: “عند سماع نبأ وفاة شخص عزيز عليك تأخذك هُنيهة من الذهول والشرود، كيف يموت من كان لوقت قريب يملأ الدنيا صخبا ومرحا؟ صخب معرفي ومرح علمي أساسه البحث والتقصي، لكن سرعان ما تعودين إلى رشدك، فتقولين لله ما أعطى ولله ما أخذ، لقد أحب الله أستاذتنا هدى فأخذها إلى جواره، تركت أستاذتنا المرحومة بصمة محبة ووفاء ومودة وأخلاق وعطاء وعلم وثقافة… في نفسي وفي نفوس كل طلبتها، كانت أطيب الناس، جعلتني أحبها منذ الحصة الأولى، لتواضعها وأخلاقها، كُنا كلما أنهت حصتها أخذتني معها في نزهة بكورنيش مارتيل، نتمشى قليلا ونتناول بعض الطعام، ومن تم تعود أدراجها نحو مدينة طنجة، كل أسبوع على هذا الحال، ويوما بعد يوم أخذت علاقتنا تتوطد، فوجدت فيها تلك السيدة الحنون الفياضة بالمشاعر والأحاسيس، تشاركني همومها وأحزانها، فيهون عليّ همي وحزني، فكنت أتعجب غاية العجب، كيف لامرئ أن يتحمل كل هذا الحزن ويرسم على وجهه هذه الابتسامة، بل ويوزعها على طلابه؟ فتجيبني بثقة كبيرة وأمل أكبر، إنه الأمل يا مريم، الأمل في الله، والأمل في المستقبل، فأنا أحسن الظن بالله. رحم الله أستاذتنا العزيزة وغفر لها ذنبها ونقاها من الذنوب والخطايا كما يُنقي الثوب الأبيض من الدنس، وأسكنها دارا أحسن من دارها وأهلا خيرا من أهلها، إنا لله وإنا إليه راجعون”.
إذا كان لنا ذكريات تربطنا بالمكان الذي عشنا فيه وألفناه أكثر من ست سنوات، فمن الطبيعي أن تكون العلاقات الإنسانية أكثر حنينا في نفوسنا منها بالأماكن والفضاءات الباردة، خصوصا أيام الدراسة الجامعية، حيث يضل المرء يعتز بما حققه في الحياة بفضل هذه الدراسة، ويحتفظ بأسمى العلاقات الإنسانية ما بعد التخرج، خصوصا إذا كانت هيئة التدريس من طينة سيدي عبد اللطيف شهبون وسيدي أحمد هاشم الريسوني وسيدي أحمد بوعود وأستاذاتنا الفاضلات دة. جميلة رزقي ودة. سعاد الناصر ودة. أسماء الريسوني والمرحومة دة. هدى المجاطي، وآخرين لا يسع المجال لذكرهم.
من إصدارات المرحومة هدى المجاطي: كتاب «من أعلام الكتابة والصحافة بشمال المغرب»، وكتاب «الحركة الثقافية في شمال المغرب من خلال الصحافة المكتوبة »، وكتاب «أعلام من شمال المغرب- بوطاهر اليطفتي آل عزيز ». رحم الله أستاذتنا الفاضلة هدى المجاطي وأسكنها فردوسه الأعلى ورزق أهلها الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.