كتابات في تاريخ منطقة الشمال : “مجلة دار النيابة (4)”
الخميس 16 فبراير 2017 – 18:11:54
صدرَ العدد الرابع من “مجلة دار النيابة” خلال خريف سنة 1984، في ما مجموعه 100 صفحة من الحجم الكبير، توزعت موادها بين قسمين متكاملين، كتبت مواد أولهما باللغة العربية، في حين كتبت مواد ثانيهما باللغة الفرنسية. وقد جاء صدور هذا العدد ليعزز تجربة النشر لدى رموز المدرسة التاريخية الوطنية الجديدة، وليجعل من انشغالات الدرس الجامعي أفقا جماعيا للتفكير وللتأمل من طرف المهتمين والباحثين، عبر تعميم تداول آخر الاجتهادات الأكاديمية التي اشتغلت حول قضايا ماضي المغرب التاريخي، وحول أدوار منطقة الشمال في صنع أو في التأثير في تحولات هذه القضايا.
والحقيقة، إن المجلة قد نجحت في استقطاب أقلام وازنة في مجال تخصصها، بشكل نجحت – من خلاله – في رصد تطور آليات الاشتغال لدى رواد الكتابة التاريخية المغربية المعاصرة، وفي طرح آخر الاجتهادات والتخريجات العلمية المرتبطة بقضايا تاريخ المغرب، وفي مواكبة إبدالات الانشغالات المعرفية والمهنية لدى أصحاب هذه الاجتهادات سواء داخل المغرب أم خارجه. ولذلك، فقد أصبحت “مجلة دار النيابة” صوتا متميزا نجح في تعزيز حقل البحث التاريخي الوطني، وفي إعادة رسم صور البهاء الثقافي والإبداعي الذي طبع وجه مدينة طنجة، قديما وحديثا.
وعلى مستوى آخر، فإن الصدور المنتظم للأعداد الأربعة الأولى “لمجلة دار النيابة” خلال سنة 1984، قد اعتبر – في حينه – إشارة قوية من طرف المسؤولين على هذا المنبر نحو كل المهتمين بالكشف عن الجوانب المغمورة من تاريخ المغرب وبالتعريف بتراثه وبأعلامه، من أجل التأسيس لآليات تواصلية أكاديمية، تعيد توضيح المنطلقات وتقعيد أسس البحث العلمي الكفيلة بتصحيح أعطاب الكتابات التاريخية الكلاسيكية سواء منها الوطنية أم الأجنبية. لذلك، فقد اهتم بها الباحثون المتخصصون وتواصلوا معها بأعمال رصينة ذات قيمة علمية رفيعة.
في هذا الإطار، نقرأ في افتتاحية العدد الرابع: “لقد استقطبت المجلة في أعدادها الأربعة الأولى، أقلام باحثين من الأجيال الجديدة، برهنوا على كفاءتهم العلمية بفضل مؤلفاتهم ورسائلهم الجامعية الناجحة، أو بفضل ما نشروه من أبحاث ودراسات في مجلات عملاقة… ونذكر منهم امحمد بنعبود، وعبد المجيد بن جلون، والطريسي أحمد أعراب، وعبد المجيد الصغير، ومحمد كنبيب، كما تشرفت المجلة باستقطاب أقلام مؤرخين وباحثين كبار، كرسوا حياتهم لخدمة التراث، وإعطاء الصورة الصحيحة لتاريخ المغرب، نذكر منهم عبد الله كنون، وعبد الوهاب بن منصور، وعبد الهادي التازي، ومحمد المنوني، وإبراهيم حركات، ورامون لوريدو دياز، وجرمان عياش…” (ص. 4).
تتوزع مضامين القسم العربي للعدد الرابع من “مجلة دار النيابة” بين أربعة عشر مادة مختلفة، التقت في الانشغال بقضايا تاريخ المغرب، وفي التعريف بأعلامه، وفي التوثيق لمحطاته ولوقائعه المسكوت عنها. في هذا الإطار، كتب عبد الله كنون عن شخصية الجغرافي الكبير المعروف بالشريف الإدريسي، وقام محمد المنوني بالكشف – لأول مرة – عن مشروع دستوري اقترحه الحاج علي زنيبر السلوي عند مطلع القرن 20. أما محمد الأمين البزاز، فقد تتبع – في دراسته – مواقف وردود أفعال كل من المجلس الصحي والمخزن إزاء الكارثة الطبيعية التي عرفها المغرب خلال سنة 1878. ومن جهته، قدم عبد العزيز خلوق التمسماني مجموعة هامة من الوثائق الخاصة بالفتان الدعي بوحمارة، والتي استقاها من الخزانة الحسنية ومن المجموعة التي نشرها نهليل تحت عنوان “رسائل شريفة”. وقدم محمد الأمين البزاز جردا عاما لوثائق الهيئة الديبلوماسية المعتمدة سابقا بطنجة، مرفقا إياه باللائحة الكاملة لهذه الوثائق مع تحديد أرقام ملفاتها.
وفي باب “قضية ووثائق”، تتبع محمد الأمين البزاز بعض أوجه تدخل الهيئة الديبلوماسية بطنجة في شؤون المدينة خلال القرن 19، وذلك من خلال نموذج قضية تحويل مقر سوق البقر خلال فترة 1897 – 1900. وفي باب “نصوص تاريخية”، نشرت المجلة المجموعة الثانية من الظهائر الشريفة المنعم بها على الرهبان الإسبان خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1637 و1794، كما نشرت المجلة – في نفس الباب – بعض الوثائق المغربية حول المشاكل الناجمة عن التسرب الأوربي إلى المغرب خلال عهد السلطان عبد العزيز. وفي باب “بيبليوغرافيا وثائقية”، نشرت المجلة جردا بفهارس الخزانة الحسنية. أما في باب “تعقيبات”، فقد تم إدراج مادة للحاج أحمد معنينو في شكل بيان وتوضيح عن الهيئة الوزارية وكبار المسؤولين في الدولة منذ عهد السلطان عبد الرحمان بن هشام.
وفي القسم الفرنسي من هذا العدد، نشرت “مجلة دار النيابة” دراسة لجرمان عياش حول ردود الفعل المغربية أمام الاحتلال الإسباني والفرنسي، إلى جانب تعقيبات – حول نفس الموضوع – ساهم بها كل من شارل أندريه جوليان ومكالي مورسي ومحمد الهادي الشريف. واهتم محمد كنبيب – في دراسته – بظاهرة تهريب الأسلحة و”الفوضى” في مغرب ما قبل الاستعمار(1844- 1912).
أما عبد المجيد بن جلون، فقد اهتم بتحديد ملامح ماهية الحركة الوطنية المغربية في منطقة النفوذ الإسباني سابقا بالمغرب، وقدم كل من أحمد الخنبوبي ومحمد حمام دراسة حول مسألة القبالات في إسبانيا المسلمة خلال مرحلة العصور الوسطى.
وبذلك، نجحت “مجلة دار النيابة” في تعزيز رصيدها من خلال دعم تراكمها المعرفي الذي حققته منذ إطلاق مشروعها عند مطلع سنة 1984، مما جعلها تفرض اسمها على ساحة النشر الوطنية باعتبارها إحدى أهم الدوريات المتخصصة في البحث في مختلف قضايا تاريخ المغرب. كما أن احتضان الباحثين والمتخصصين لها والتفافهم حولها، قد شكل ربحا رمزيا بالغ الدلالة، سمح بتذليل صعوبات النشر وإكراهاته وبالتأسيس لرؤى متقدمة في التعاطي مع “حقول ألغام” عديدة ميزت تطور مسارات ماضينا الجماعي.