لا شك أن التوثيق لمسارات تكون نسق البناء النظري والتطبيقي للممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة، يفتح الباب أمام العودة المتجددة لمساءلة رصيد منجز الرواد الذين أسسوا للفن التشكيلي المغربي المعاصر. ولا شك أن رصد معالم التحول والخصب داخل هذه التجارب، يظل أمرا لازما لتشخيص مختلف أوجه القطائع القائمة / أو المفترضة بين تراث العطاء “الفطري” وبين تقليعات الحداثة كما تحفل بها الساحة الثقافية الوطنية المعاصرة. ولا شك – كذلك – أن خلاصة نتائج البحث في هذه الإبدالات تشكل مدخلا لتطوير درس “تاريخ الذهنيات” كما بلورته مدارس الكتابة التاريخية العلمية المعاصرة. وإذا كنا – في هذا المقام – لا نزعم اكتساب الأدوات التفكيكية التقنية اللازمة لإنجاز التقييمات النقدية الضرورية لحصيلة عطاء أكثر من نصف قرن من الممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة، فإننا نؤكد – في المقابل – أن الأمر أضحى يستلزم انفتاحا متواصلا للمشتغلين بحقل كتابة التاريخ على حقول التشكيل وعوالمه التخييلية الرحبة، لا بهدف التوثيق للأحداث وللوقائع المميزة وتوطينها زمانيا ومكانيا، ولكن بهدف الاستثمار العميق لعطاء التراث الرمزي الذي تنتجه النخب في إطار اهتماماتها الثقافية المخصوصة والمرتبطة بسياقات تاريخية مميزة. ومعلوم أن المؤرخ يظل حريصا على الكشف عن الخيوط الرفيعة الرابطة بين عطاء هذا التراث الرمزي من جهة، وبين ظلاله الوارفة المرتبطة بتحولات الواقع المادي من جهة ثانية. إنه انفتاح منهجي يعيد قراءة التعبيرات المباشرة للتراث الرمزي، مع السعي المتواصل لتوسيع مفهوم “الوثيقة” لكي تستوعب مجمل التطورات المعرفية والمنهجية التي يعرفها مجال علم تاريخ الذهنيات.
وتأسيسا على ذلك، أمكن القول إن تنظيم الاشتغال على سجل الرواد في مجالات الإبداع المترامية الضفاف بين فنون شتى، لعل أبرزها المسرح والشعر والرواية والتشكيل والسينما … يشكل مدخلا لابد منه لفهم أسرار القطائع المعرفية التي أشرنا إليها أعلاه، وكذا تحديد سقف التحول المجتمعي الشامل المؤثر في الذهنيات الجماعية وفي التأملات الفردانية للذات وللمحيط، إلى جانب استثمار التمثلات الجماعية أو الفردية التي نقرأ – من خلالها – معالم الثابت والمتغير في تحولات الوعي الجماعي، وفي رؤى الذات تجاه نفسها وتجاه محيطها، ثم في أشكال التعبير عن قلق السؤال الثقافي للمرحلة.
مناسبة هذا الكلام، صدور كتاب تجميعي هام لحصيلة تجربة الفنان التشكيلي محمد المليحي، وذلك سنة 2014، للأستاذ محمد الشيكر، تحت عنوان “محمد المليحي : سيرة منجز”، وذلك في ما مجموعه 94 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والعمل إضافة نوعية لمجال الدراسات القطاعية الفاحصة لتحولات الممارسة التشكيلية ببلادنا منذ بروز معالم التأسيس الأولى خلال العقود الأولى للقرن 20، ومرورا بمخاضات الولادة العسيرة لخمسينيات وستينيات نفس القرن، وانتهاءا بملامح العوالم المميزة التي نجحت في التأصيل لمعالم تبلور المدارس الوطنية التشكيلية الراهنة، بعيدا عن النزوعات الفطرية أولا، ثم عن الانزياحات المدرسية ثانيا، وعن الارتباطات الكولونيالية ثالثا. ولا شك أن الفنان محمد المليحي قد اكتسب، وعلى امتداد عقود زمنية طويلة، كل شروط الريادة إلى جانب الأعلام الكبار للممارسة التشكيلية الوطنية الراهنة، من أمثال الغرباوي وشبعة وبلكاهية والقاسمي …
لقد سعى هذا الكتاب إلى الاحتفاء بتجربة الفنان محمد المليحي في إطار رؤية جمالية، ترصد منعرجات التجربة التي تقلب فيها المليحي عبر محطات شتى، وتشكل تخصيبا لأفق جمالي لتطويع اللوحة والألوان في إطار نظيمة “الموجة” التي فجرت ملكة الإبداع وخزان الأشكال والألوان لدى المليحي. ويلخص المؤلف السقف العام لهذا الكتاب، قائلا في كلمته التقديمية : “إننا نسعى، في هذه المونوغرافيا، أن نقترب من عالم المليحي الجمالي ونتعقب مسارات وسيرورات تشكله، وندلف من صاحبه ومن رؤاه وأطروحاته، ومن أهم مواقفه وتموضعاته في المشهد الثقافي والفني المغربي. وككل عمل مونوغرافي يظل مسعانا هذا توصيفيا أكثر منه تشخيصيا، يرمي إلى الإشارة العجلى والإلماعة الخاطفة، أكثر مما يدعي الاستفاضة والإحاطة والتفصيل. إن المقصد أن نضع القارئ أمام سيرة ومنجز فنان عملاق في عيار محمد المليحي” ( ص. 6 ).
واستجابة لأفق هذا المطلب في البحث وفي التشخيص، انطلق المؤلف من رصد معالم التحول في تجربة الفنان محمد المليحي، بدءا من ظروف الميلاد بمدينة أصيلا سنة 1936، وتتبعا لمجمل المسارات التي ميزت مرحلة النشأة والتكوين. واستكمالا لملامح السياق العام، كان لابد من تشخيص خصوصيات وضعية التشكيل بالمغرب في ظل واقع الضغط الكولونيالي، وفي ظل نزوعات الفنان المليحي نحو التحرر من تمارين المدرسة الكولونيالية الغرائبية ومن أسئلة المدارس الغربية ما بعد الكولونيالية في التعامل مع الممارسة التشكيلية. فعند عودته إلى المغرب سنة 1964، التحق بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء لتدريس الصباغة والنحت والتصوير الفوتوغرافي. وفي سنة 1965، ساهم إلى جانب بلكاهية وشبعة وأطاع الله وحميدي وحفيظ وطوني مارياني وبيرت فلانت في تأسيس “حلقة 65″، على أساس الانخراط في المشروع الثقافي الحداثي البديل، كما كان ينظر له ويحلم به جيل التأسيس. وفي سنة 1966، ساهم الفنان المليحي إلى جانب عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري في تأسيس مجلة “أنفاس” كتعبير عن آفاق جديدة لتكييف الفعل الثقافي المبادر مع التحولات المجتمعية لمغرب ستينيات القرن الماضي، في ظل انبثاق خطاب يساري انخرط في حلم المغامرة الكبرى للتغيير. ومنذ سنة 1970، أخذ محمد المليحي في الاعتماد على “الموجة” كعلامة إيقونوغرافية مميزة وكموضوعة جمالية أثيرة في خطابه البصري. ومعلوم أن تحولات هذه “الموجة” وانزياحاتها الهندسية والجمالية والتعبيرية قد أضحت علامة فارقة ومهيمنة في التراكم البصري للمبدع المليحي، منذ تلك الفترة وإلى يومنا هذا. وعلى أساس ذلك، أصبح الفنان المليحي مرجعا في الثقافة التشكيلية الوطنية المعاصرة، وأحد أبرز منظري توجهاتها الحداثية النوعية. وقد لخص الأستاذ الشيكر هذه القيمة الثقافية الريادية في كلمته التصديرية، عندما قال : “يعتبر اسم محمد المليحي جزءا لا يتجزأ من الحداثة الإستتيقية في المغرب الثقافي المعاصر، إن لم يكن يمثل وعيها الجمالي اليقظ، وصوتها الطليعي الأكثر فعالية والأوسع حضورا. فلم يكن، شأنه شأن أصدقائه في “حلقة 65″، يتمثل الحداثة بوصفها ذلك الإبيستمي الجمالي المقترن بالغرب والموقوف عليه، بل عانقها باعتبارها موقفا جماليا ونمطا وجوديا وحضاريا يؤسس فيه الفنان علاقة مغايرة مع الذات والتراث من جهة، ومع الغير والعالم من جهة ثانية”.
فعلى امتداد عقود النصف الثاني من القرن 20، استطاع المليحي بلورة مشاريع ثقافية رائدة، أصبحت تشكل إحدى دعامات التوثيق لعطاء الممارسة التشكيلية الوطنية الراهنة. وسواء داخل المغرب أم خارجه، ظل المليحي يحمل “إيقوناته” المستلهمة من خصوبة التراث المحلي لمدينة أصيلا، ومن عشق صوفي للحمولات الثقافية الرمزية لهذه الإيقونات. ولعل هذا ما يفسر انخراطه في مغامرة التأسيس، بمعية رفيقه محمد بن عيسى، لتجربة مهرجان أصيلا منذ سنة 1978، وهي التجربة التي استقطبت تجارب تشكيلية عالمية، وبلورت رؤى بصرية مجددة مثل الجداريات والمعلقات والورشات … وفي كل هذه المبادرات، ظلت “بصمة” الفنان المليحي قائمة ومعبرة عن رؤاها الجمالية الواسعة وعن عمقها الأكاديمي المجدد، وذلك عبر مختلف الأنماط التواصلية التي ميزت مهرجان أصيلا. فبصمة المليحي كانت حاضرة في كل شيء، من الملصق إلى الإعلان، ومن المعرض إلى الجداريات، ومن تصفيف أرضية المدينة العتيقة لأصيلا إلى أوراش النحت والرسم بقصر الثقافة ( قصر الريسوني ).
لكل ذلك، أمكن القول إنه لا يمكن قراءة تلاوين الفعل والعطاء والتجاوز والتجديد والانبهار والجمال في الممارسة التشكيلية الوطنية الراهنة، بدون الإحالة المستمرة لتجربة الفنان محمد المليحي. ولا يمكن تتبع جزئيات التحول بالنسبة “لمدرسة أصيلا التشكيلية”، إن صح هذا التعبير، بدون استلهام عطاء هذا الفنان الذي أضحى حضوره الرمزي والثقافي علامة مميزة للهوية البصرية لمدينة أصيلا، وهي الهوية المهيمنة التي أرخت بظلالها على الفضاء العام للمدينة، على الأقل منذ مطلع سبعينيات القرن 20، ولازالت تمارس سطوتها على الأجيال المتعاقبة للممارسة التشكيلية المحلية الراهنة.
أسامة الزكاري.