الشاعر والروائي العراقي زهير كريم في قلب شفشاون
مدينة الثعبان: شفشاون الزرقاء
في زمن ما، وصلتْ الى الموضع التي تقع فيه شفشاون الآن، قبيلة من العمالقة، قال كبيرهم _ وهذ القول ينطوي على الصرامة الاخلاقية التي ترتفع فوق مرتبة الكسل، وفيه تحية تبجيل للمكان ورفعا لشأنه: نشيّدها على ظهر ثعبان. هكذا بنوا بيوتهم، لكنهم رحلوا ولم يبق لهم ولا للثعبان أثر ظاهر للعيان، لكن الحكايات لا تغادر غبار الزمن، نعم تركوا مدينتهم خالية لكن الأمر يحمل في داخله نوعا من التواطؤ، الاسطورة ذاتها لم تذكر أسباب الرحيل، تقول فقط إنهم تركوها خالية كما لو أن الخطاب الاسطوري، يدعو أقواما ستصل لاحقا، مسؤولية ملء الفراغ في انشاء مدينة اكثر استقرارا لا يغادرها سكانها. وفي يوم جاء رجل اسمه الشريف بن راشد فجعل شفشاون مسكنا، فكان قدرها الذي أظهرها ثانية للوجود، لم يكن هناك ثعبان ليشيد عليه البيوت، ولكن السفوح كانت فكرة مثالية أحدثت نقلة في منطق الاسطورة، لتظهر شفشاون بصورتها الحديثة، كان ذلك في نهايات القرن الخامس عشر، منذ ذلك الوقت ظهرت للمدينة ملامح هي نفسها تقريبا، حين يزورها المرء الآن. لكن زمنا خاملا يقع بين ظهر الثعبان والبيوت المشيدة على سفوح الجبال، حيوات وأقوام وبشر وحكايات وأساطير أخرى لم يدونها أحد بالشكل المناسب، أو أنها لم تصل.
إن كل اسطورة في الواقع ينطوي نسيجها على قراءة رمزية للمكان، يتداولها الناس حتى تصبح فيما بعد جزءاً من تاريخ المدن والمحرض على إلهامها، لقد كانت رمزية الثعبان تشير الى القدرة على التجدد، الولادة والأمومة، على الانبعاث والخلود، وعلى الرغم من أن المدونات التاريخية لم تقل بخصوص الفراغ الذي لم يهتم به المؤرخون، الكثير، لكن الأثر دائما ما يحفظ كل وجود بشري، فهو نبع الاقتباس الذي يسند كل تحول جديد وكل صورة جديدة للمكان، فالطابع الاسطوري لا يعترف بنقاء الأعراق بل بتمازجها وتشاركها. وعلى كل حال انطلقنا من المحطة الطرقية في طنجة باتجاه شفشاون عند الساعة العاشرة صباحا، لم نكن نعرف عن وجهتنا سوى المدينة التي شُيدت على ظهر ثعبان، أو خيالاتنا عن البيوت الزرقاء والجبال التي تحتضن الوادي، ولم ننكر خوفنا من الطريق الصعبة التي لم تكن كذلك كما قيل لنا، جبلية ملتوية هذا صحيح، فيها صعود لساعتين وهبوط لكنها طريق واسعة وآمنة، لكن الاعتراف بعدم الفهم، بالجهل بالمكان قابله لحسن الحظ قدرٌ كاف من اليقين، أما يقيننا الذي منحنا الطمأنينة على سير الرحلة، هو موعدنا مع أحد شعراء شفشاون، صديق قديم كنا قد اتصلنا به قبل ذلك. سائق التاكسي الذي أقلّنا كان صامتا، مسترخيا كما لو انه أراد أن يمنحنا فرصة الاستمتاع بالطبيعة، الركاب الآخرين كذلك لم يصدر عنهم صوت، لقد كان الجميع منشغلين بهذه الشعرية التي يصعب حصرها بالتوصيف، مكتفين بالنظر الى الطريق التي تحيط بها الجبال، والتي لم تسلم بعض قممها _ بسبب ارتفاع درجات الحرارة_ من حرائق الغابات للأسف، بينما صوت أم كلثوم غمر الأجواء داخل السيارة بشعور هو مزيج من الاسترخاء ومتعة السفر، كان يصلنا كما لو أنه دفق هادئ من شلال او خرير ساقية مثل تلك السواقي التي كانت تخترق حي الصبانين في شفشاون.
ويبدو أن العماليق عندما تركوا المدينة، لم يبق ظهر الثعبان خاليا كما تقول الاسطورة، لقد جاء الرومان وشغلوه، منحوا المكان اسم APPINUM، في زمن لاحق، وعندما كان (يوليان الغماري) واليا تابعا للإمبراطور، كانت هناك آثار رومانية، هي ما تركه الأسلاف مثل قنطرة (تلمبوط) و(مدشر ماكو) شرقي المدينة، قبل أن يصل المسلمون في بداية عصر الفتوحات اليها، لقد كانت انفاس القدماء في هواء شفشاون، لم تغادره، إنهم هنا في كل مكان، في كل حجر وفي كل نبتة على سفح وفي صوت الماء، بل ان أصواتهم حين يحل السكون في المدينة، تتنفس قبل أن تشرق الشمس ويعلو الضجيج. لقد كانت طبيعة المدينة منسوجة من الأثر الذي اندثر بعضه، لكنه يفتدى بما ظهر منه على شكل حكايات واساطير وايضا على شكل عمران مشيد على أثر.
وصلنا شفشاون، وسط المدينة المشيدة على سفح جبل القلعة، والتي تحيط بها قمم جبال: تيسملال، بوحاجة وماكو. فبدت لنا القمم كأنها قرون ثيران اسطورية، استقبلنا أحمد هلالي، صديقي الشاعر الذي كان يقيم في بروكسل، والذي غادرها قبل سنتين تقريبا، عائدا الى مدينته بعد انتهاء عقد عمله، أخذنا مباشرة الى (امستردام) وهي مقهى صغيرة قريبة من المحطة، جميلة وحميمية، تناولنا شرابا باردا وتحدثنا لبعض الوقت، ويبدو أنه كان بانتظار انضمام شاعر آخر من هذه المدينة الينا، عبد الجواد الخنيفي، عاشق شفشاون، تاريخها وثقافتها وفنونها ورجالها، حتى أن رسالة الدكتوراه التي انجزها كانت حول تجربة أحد شعراء المدينة. وقبل هذا اصدر مجموعتين شعريتين( الخيط الاخير) و ( زهرة الغريب) أما مجموعته الثالثة( ابتسم للغابة) كان قد حملها لي قبل سنوات صديقنا احمد هلالي من شفشاون الى بروكسل، قصائد عبد الجواد مرتبطة بشدة بالمكان، بماضي المدينة ومستقبلها. مرت ساعة قضيناها في حديث متشعب قبل الذهاب الى فندقنا الذي يقع في طرف المدينة الصغيرة، غيرنا ملابسنا ثم عدنا الى دار أحمد، تناولنا الغداء، لم يكن مجرد غذاء في الحقيقة، بل وليمة فتحت لنا شهية الأكل والكلام أيضا، تحيط بنا عائلته الرائعة، تحدثناعن الشعر والكتابة والمدينة وحرائق الغابات وبروكسل حتى العصر، خرجنا لتبدأ جولتنا عبر طريق أخرى تؤدي الى القصبة التي تأسست عام سنة 1471 على يد مولاي علي بن راشد، المدينة التي كانت فكرة خلقها ترتبط بإيواء مسلمي الأندلس المطرودين، قبل ان تتحول الى قلعة للمجاهدين ضد الاستعمار البرتغالي. أما لفظ شفشاون فهو أمازيغي (إيساكون) أو( إيشاون) والتي تعني القرون، أما مقطع (شف) تعني انظر، أي انظر القرون، في إشارة إلى القمم التي تحتضن هذه المدينة من كل الجهات.
وأهل شفشاون، المشتغلون بالكتابة والفنون والمسرح، يهتمون بتعريف ضيوفهم بالقيم الثقافية للمدينة، النشاطات والمهرجانات لكن بايقونات المدينة ايضا، ومن ايقونات شفشاون، شاعرها عبد الكريم الطبال والذي بدأ نشر قصائده في مجلة الأنيس سنة 1954. بعد عودته إلى شفشاون منهيا دراسته في جامعة القرويين ومدينة تطوان بعدها. وهو المؤسس لمجلة الشراع، ومهرجان الشعر العربي الحديث، وكان قد اسس سنة 1957 رفقة عدد من الكتّاب والشعراء جمعية “أصدقاء المعتمد” التي ساهمت في إحياء الشأن الثقافي في مدينة شفشاون فنظمت مهرجان “أبو قاسم الشابي” للشعر ومهرجان “لسان الدين ابن الخطيب“. اما مجلة الشراع فقد توقف طبعها سنة 1965، وعبد الكريم الطبال، كان أيضا من المساهمين في تأسيس مهرجان شفشاون الشعري، والذي صدر له اكثر من عشرين كتابا، آخرها ( الوردة على الارض) والذي احتفظ بنسخة منه الآن في مكتبتي مع إهداء جميل مشبع بالمحبة.
لقد كانت فرصة عظيمة أن التقي برجل مثل عبد الكريم الطبال، بل أن زيارة شفشاون دون تحقيق مثل هذا اللقاء تبدو ناقصة: سوف نلتقي بشاعر شفشاون، مارأيك؟ قال احمد هلالي. في شارع ضيق تصطف على جانبيه السيارات التي كان معظمها بأرقام فرنسية وهولندية وبلجيكية، توقف عبد الجواد الخنيفي أمام دار صغيرة بابها مفتوح، رفع يده وكان في الداخل _ رأيته عبر الرواق قليل الإضاءة _ رجل في الثمانين تقريبا يجلس على كرسي ويبدو أن نظراته موجهة الى الشارع: هذا هو عبد الكريم الطبال. قال احمد والرجل نهض من مكانه كما لو أنه كان في انتظارنا، تعارفنا وكانت ابتسامته قد سبقت كلماته، وجه مليء بالحياة، ساخرا منذ اللحظة الاولى ونشطا، تمشينا معا عبر الازقة العتيقة حتى الساحة الرئيسة في المدينة القديمة، القصبة التي تعتبر نواة شفشاون التي اتخذها مولاي علي بن راشد مقرا لقيادته وثكنة عسكرية من أجل محاربة البرتغاليين. المدينة المحاطة بسور فيه عشرة أبراج، والمبنية على طراز العمارة الأندلسية. الفضاء الداخلي لها فيه حديقة كبيرة مزينة بحوضين، ويحتل المتحف الإثنوغرافي الجزء الشمالي الغربي منها. بناه (علي الريفي) والي السلطان مولاي إسماعيل على المنطقة. المبنى المصمم على شاكلة البيوت التقليدية المغربية التي تتوفر على ساحة داخلية مفتوحة تتوسطها نافورة محاطة بأروقة وغرف بالإضافة إلى طابق علوي.
وصلنا المقهى والتي اعتاد عبد الكريم الطبال ارتيادها كل يوم، فهي موضع لقاءاته بأصدقائه، بل هي شرفته التي تجعله يطل على تاريخ المدينة، حاضرها ومستقبلها، ساحة (وطاء الحمام) العتيقة، مصباح المدينة التاريخية التي تؤدي كل الطرق إليها. والتي صممت في البداية لتكون مقرا لسوق أسبوعي، يرتاده سكان الضواحي. لقد تغيرت وظيفة الساحة حاليا، صارت فضاء سياحيا ، المقاهي فيه بديلا عن دكاكين البيع، الساحة نفسها مزينة بنافورة مياه جميلة، ويوجد فيها المسجد الأعظم، وتقام فيها المهرجانات مثل مهرجان المسرح العربي.
النادل جلب مشروباتنا، تحدث عبد الكريم الطبال عن ذكرياته في العراق، الاصدقاء والشعر والكتابة والثقافة، عز مهرجان المريد الذي دعي له اكثر من مرة، عن البصرة وكربلاء وشارع المتنبي، اثناء ذلك انضم لجلستنا اصدقاء اخرون، كنا اربعة اشخاص فتحولنا الى ثمانية او تسعة، مسرحيين وناشطين ثقافيين، تشعب الحديث حتى المساء ثم ودعنا عبد الكريم الطبال على أمل اللقاء في اليوم التالي، فانطلقنا، أنا واحمد وعبد الجواد الخنيفي في جولتنا نحو الممرات المتشعبة للمدينة القديمة.
و شفشاون( او شاون) كما يلفظها أهلها، مرت بتحولات سياسية عديدة، في القرن الخامس عشر الميلادي، احتل البرتغاليون المدن الساحلية في شمال المغرب حتى وصلوا اليها، إنها المكان الذي قاد المقاومة فيه الشريف علي بن راشد، الرجل المولود في في قرية غرزويم سنة 1440. وشارك في حرب الدفاع عن عن غرناطة. تزوج وهو في الثلاثين بامرأة اسمها (للا زهرة) من مدينة (بخير دي لا فرونتيرا) ثم عاد إلى المغرب لإدارة عمليات تحرير سبتة وطنجة.
وصلنا منطقة رأس الماء، وتحت الاضاءة الخافتة في طريق الخروج من القصبة، كان خرير الماء الذي يجري في السواقي، قد جعل الجولة كما لو انها حلم وليس واقعا، او أنها ذهاب الى الماضي، حدثني عبد الجواد، عن أحياء شفشاون، أقدمها هو حي السويقة، والذي استقبل الفوج الاول من مهاجري الاندلس، ثم شيد بعده حي الأندلس، ثم حي العنصر، اما حي الصبانين فيقع على طول الطريق المؤدية إلى رأس الماء. الحي الذي يضم مجموعة من الطواحين التقليدية التي كانت تستعمل لطحن الزيتون أو الحبوب. يوجد ايضا فرن تقليدي يجاور القنطرة التي فوق النهر الذي يسمونه (واد لفوارة) وكان الظلام قد هبط على الازقة والبيوت المدهونة بالأبيض والازرق لكن ارتفاع درجات الحرارة في النهار جعلت الخروج ليلا هو المفضل للجميع، الأهالي والسائحين كذلك، تركنا خلفنا منبع رأس الماء، أساس بناء مدينة شفشاون. فهو المزود الوحيد للمدينة بالمياه الصالحة للشرب والزراعة أيضا.. محافظا بموقعه الذي يمكن الوصول اليه من عدة ابواب للمدينة، والتي تبلغ سبعة ابواب هي : باب العين، باب الحمار، باب المقدم، باب العنصر، باب المحروق، باب السوق، باب شاون، بالإضافة لأبوابها الداخلية ،باب النقباء، باب السور، باب الهرموم.
خرجنا الى وسط المدينة الحديثة، لكن خرير المياه تسلل الى داخلي فكنت اسمعه حتى بعد أن ابتعدنا كثيرا، ولم اسأل فيما اذا كان هذا الصوت حقيقي أم أنه في داخلي وحسب، بينما الجبال تحتضن شفشاون على احد قممها مسجد له قصة غريبة، فقد بناه المستعمرون لكسب رضا السكان المحليين، لكن الناس لم تشأ أن تقيم الصلاة فيه، ظل مهجورا حتى أفتتح قبل فترة قصيرة، واصلنا المشي خارج السور وكانت فرصة بعد مشاهدة احد المجانين في شارع رئيس ان ينفتح حديث حول مجانين شفشاون، احمد حمدون الذي يمتاز بطلاقة الكلام، ورشيد الفيلسوف، وزهرة الحمقا ، في اليوم التالي، لم يكن أمامنا سوى جولة اخرى، وشراء بعض الاشياء للذكرى، في المحطة كان في وداعنا الصديقان احمد الهلالي وعبد الجواد مع صديق اخر، وطوال الطريق الى تطوان غمرني شعور أن زيارة شفشاون ليست واقعا، بل حلما، وان الوقت لم يكن عادلا، فهي مدينة تحتاج الى وقت أطول بكثير، لكي يمكننا الكشف عن بعض أسرارها، وقضاء وقت مع الاصدقاء، فخلف اسوارها تنام آلاف الأسرار والحكايات وقصص الحب من أزمنة بعيدة، في كل زقاق منها تنبعث رائحة التاريخ، وغبار الاساطير. ولم يغب عن مخيلتي أبدا، الثعبان الذي شيدت عليه المدينة في البداية، كان موجودا ، فالأسطورة لا تغادر جسد المدن، هي جزء من بنيتها، وطبقة عميقة من ثقافتها
زهير كريم