تقديم:
أدب الرّسائل، يتضمّن جوانب مهمّة تقتضيها الكتابة الحرّة، والموضوع المسترسل، ويتضمّن هذا الأدب إشارات علمية، وإفادات فنّية، وإنشادات معرفية…
وفي هذه السلسلة ندرج بعضاً ممّا توفّر لنا من أدب الرّسائل التي التحمت فيها أرواح علماء شمال المغرب. ونثنّي بمراسلات (واردة) على العلامة الأديب قاضي مدينة طنجة محمد بن إدريس بن رحمون الفاسي داراً، الطّنجي وفاةً وإقباراً رحمه الله، من صديقه الشريف البشير أفيلال.
-29-
[من العلامة الأديب سيدي البشير أفيلال إلى صديقه قاضي طنجة العلامة محمد ابن رحمون، مهنّئاً إياه بعيد الأضحى عام 1373هـ]
…
وبعد، فإذا كانت عادة قلمي أن يجري معكم في كلّ عيد على سنّة الأدباء المؤكّدة المعروفة، وطريقة المتحابين المقرّرة الموصوفة، من تقديم التّهاني بشكل أديب، وأسلوب قشيب، مملوء بالمناسب لكم وللعيد بالعبارات الرّقيقة، والمعاني الدّقيقة، والدّعاء بالعود لمثله في أكمل حُلّة وأبهاها، وأجمل صفة وأجلاها، فإنّي سأكون معكم في هذا العيد تابعاً لسنن هذا التّجلّي الإلهي، متأثّراً بالأحداث التي جرت بها المقادير في الأزل على هذا الشعب المغربي، رافعاً كفّيه وذراعيه، شاخصاً نحو باب الكريم بكلتا عينيه بالدّعاء الحارّ، أن يحفظ على هذه الأمّة دينها وعقيدتها، وأن يكون لها في كلّ حركة وسكون وليّاً ونصيراً، وهادياً وظهيراً، وسادلاً رداء لطفه، ورقيق حنانه وعطفه، كما نؤمله تعالى أن يمنّ عليه بالنّصر العاجل، وبما وعد به المؤمنين في الحال والأجل، فقد طالت رقدة المسلمين، ولكلّ أمّة رقدة، و(لكلّ نبإ مستقرّ)، (ولتعلمنّ نبأه بعد حين).
-30-
[من العلامة الأديب سيدي البشير أفيلال إلى صديقه قاضي طنجة العلامة محمد ابن رحمون، مهنّئاً إياه برأس السّنة الهجرية عام 1374هـ]
…
وبعد، فإنّي استبعد الأعياد الشّرعيّة أن تكون موعداً لمراسلتكم، أو موعداً محدّداً لمكاتبتكم، وإنّ نفسي لا تسمح بانتظار هذه الأعياد لتبح في بحر خيالها، وتحلّق في سماء روحانيتكم فتناجيكم مناجاة من تربطه بكم رابطة القربى أوّلاً، ووصلة الخلّة الخالصة ثانياً، ثمّ وشائج المعرفة ثالثاً.
لذلك؛ إنّي سأجعل من هذه الأعياد رأس السّنة الهجرية الحبيبة إلى نفس كلّ مومن، واللّذيذة على لسان كلّ موقن، فأهنّئ سيّدي الأخ العزيز بدخول عام أربعة وسبعين من قرننا الرّابع عشر، راجياً له من صميم قلبي كلّ سعادة وهناء، ودوام عافية…وهناء، وداعياً لهذا المغرب الإدريسي المسلم أن يكلأه الله بحفظه، ويجعل ألطافه الخفيّة من سهمه وحظّه، ويكافئ الإخوان الجنوبيين عنّا في هذا الجهاد الأكبر، والاستماتة النّادرة في كلّ ميدان ومضمر..
-31-
[من العلامة الأديب سيدي البشير أفيلال إلى صديقه قاضي طنجة العلامة محمد ابن رحمون، مهنّئاً إياه بعيد المولد النّبوي عام 1374هـ]
…
وبعد، فإنّ أولى من تقدّم لهم التّهاني بعيد مولد سيّد العالمين صلى الله عليه وسلّم، آل بيته السّادة الأعلام، ثمّ العلماء الذين هم ورثته، القائمون على نشر شريعته في الأنام.
ولا غرو أنّ سيّدنا ابن العمّ قد جمع الله له بين النّسبة الطّينيّة النّبويّة، والمكانة الوراثيّة بالصّفة العلميّة، زيادة على الأخلاق الفاضلة الهاشمية، …نهنّيكم بعيد الميلاد النّبويّ الكريم، ونرفع أكفّ الضّراعة بالدّعاء لكم أن تدوموا في..وهناء، وكمال عافية وصفاء، وأن تعودوا لمثله وأنتم كما قال الشاعر:
رأيتك أمس خير بني لؤي** وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غداً تزيد الخير ضعفاً ** كذاك تزيد سادة عبد شمس
كما نرجو أن تكون نفحات هذا العيد وروحانيته في النّفوس، وذكرى مولد سيّد العالمين في قلوب المؤمنين محطّة نزول رحمات السّماء على هذه العصابة الإسلامية المغربية التي أجابت داعي ربّها وضميرها لحماية وجودها، ونصرة دينها، ورفع راية الحنيفيّة على رقعة بلادها، كما رفعها من قبلُ السّلف الفاتحون، بعد أن أصبحوا وأصبحت البلاد كما يقول شوقي مخاطباً سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم:
أقطعتهم غرر البلاد فضيعوا ** وغدوا وهم في أرضهم غرباءُ
-32-
[في ختام هذه الرّسائل المتبادلة بين القاضي ابن رحمون وصديقه العلامة الشريف سيدي البشير أفيلال، نورد بعض ما كتبه عنه هذا الأخير من معلومات قيّمة تتعلّق بسيرته لتستفاد]
لم نستلم من هذا الأخ الكريم ردّاً على هذه الرّسالة حتّى ظننت تأخّرها عن وصولها إليه، أو استعجله سفر، وما فوجئت إلاّ بالأخ سيّدي محمد ابن موسى يعلمني تيليفونياً بوفاته، وأنّها كانت على السّاعة 9 ليلاً من يوم الأحد، ثاني محرّم عام 1294هـ، كما أخبرني هو نفسه بذلك.
وفي يوم الخميس 6 محرّم ذهبت لطنجة لتعزية نجل الفقيد السيّد حمزة، لأنّ اليوم يوم التفريق على ما كان بظنّي، ولكنّي وجدت في طريقي بجهة مرشان صديقي سيدي أحمد السّميحي، فأفادني بأنّ ليس للقوم عادة هذا التّفريق، فتابعتُ سيري بمعيّته، ووصلنا دار الفقيد، فقابلت هناك جملة من عائلته، وأدّيتُ لنجله السيّد حمزة واجب العزاء، وأبنتُ عن تأثّري بوفاة والده، وسألته عمّا يعرف عن حياة والده، فأجابني بأنّه استكتب لصهره (جدّه للأمّ) الحاج محمد المقري قبل عقد الحماية على المغرب، وحضر معه في المؤتمر بالجزيرة الخضراء، ثمّ بعد الحماية تنازل عن الكتابة معه، كما تنازل المقري نفسه عن وظيفته مدّة، وعالج في هذا الحين التّجارة، ثمّ تولّى القضاء بقبيلة بني توررت بمسفيوة، واستمرّ بها مدّة.
وفي أيّام ولايته هذه، كنتُ موجوداً بمرّاكش مع المرحوم صديقي سيدي الحاج المهدي المنبهي رحمه الله، ثمّ انتقل لقضاء الصّويرة، وبقي بها مدّة، ثمّ انتقل لقضاء طنجة بعد انسحاب الإسبانيين عنها، وبقي قاضياً بها نحو التّسعة أعوام، ثمّ بعد الانقلاب المغربي والحوادث التي أدّت لخروج السّلطان المؤيّد سيدي محمد بن يوسف نصره الله، من المغرب، تأخّر عن القضاء، لأنّه أوّلاً لم يكن من الرّاضين…، وثانياً لأنّه كان صديقاً حميماً لجلالة السّلطان سيدي محمد بن يوسف، فاعتزل الوظائف، ولزم بيته الجديد، الذي ابتناه أخيراً بمرشان، يقوم بشؤونه، ويكتب ما تيسّر له، وأنّه وضع في هذه المدّة كتاباً سمّاه: (الفلك المشحون، في أخبار أولاد ابن رحمون)، أفادني عنه صديقي سيدي محمد بن الحاج العياشي سكيرج، أنّه شاهده عنده، وأنّه شحنه بكثير من الفنون…فرحمة الله عليه.
د. يونس السباح