تقديم:
أدب الرّسائل، يتضمّن جوانب مهمّة تقتضيها الكتابة الحرّة، والموضوع المسترسل، ويتضمّن هذا الأدب إشارات علمية، وإفادات فنّية، وإنشادات معرفية…
وفي هذه السلسلة ندرج بعضاً ممّا توفّر لنا من أدب الرّسائل التي التحمت فيها أرواح علماء شمال المغرب. وندرج في هذه الحلقات مراسلات (صادرة وواردة) من الفقيه الأديب، الشريف سيدي البشير أفيلال، إلى صديقه وشيخه، مؤرّخ طنجة العلامة محمد سكيرج رحمهما الله، والتي أمدّنا بها الدّيبلوماسي الأديب التّهامي أفيلال.
[1]
[من الفقيه الأديب، الشريف سيدي البشير أفيلال، إلى صديقه وشيخه، مؤرّخ طنجة العلامة محمد سكيرج يشير عليه في قضيّة الاستشفاء بإسبانيا، وينصحه]
الحمد لله وحده
سيّدنا الأستاذ الإمام شيخنا العلاّمة سيدي الحاج محمد سكيرج، رعاك الله وسلام عليكم ورحمة الله.
وبعد، فإنّ مسألة السّفر بالولد شفاه الله لطبيب مالقة لا يمكن لي الجزم فيها برأي، وغاية ما عندي عن هذا الطّبيب، أنّه أخصّائي في الأمراض العقلية، وله شهرة كبرى بمالقة، وربّما يقصد حتّى من الخارج. أمّا نتائج أعماله وإخلاصه في المعالجات فشيء لا أجزم به، وقد كان ولد مْدِينَة التّطواني أصيب بشيء قريب من هذا النّوع، فأحضره لدى هذا الطبيب وقد مضت عليه نحو 4 شهور وهو هناك ولا يزال بها، والبعض يبشّر بحسن حالته والبعض بنفيه.
وعلى كلّ حال إنّي أًرجّح أن يُذهب به لمدريد للطّبيب العالمي في هذه الأمراض، بشرط أن يصاحبه رجل ترجمان له إلمام بالمسائل الطّبّية، وتكون فيه الثّقة التّامة فيما يتلقّاه من الطّبيب من إمكان المعالجة أو عدمها، ويستطلع على مدى الصوائر التي ستلزم في هذه المعالجة، فإذا وجد هذه الترجمان وهذه الثّقة، وأفاد الطّبيب بإمكان معالجته ومدّتها وقدر صائرها فهذا أولى، وأمّا خلاف هذا فإنّي لا أقول به، وأخشى أن تتعرّضوا لما لا قِبَل لكم به من الصّوائر والمشاق وذهاب الأتعاب بدون فائدة، ثمّ لكم أن تبحثوا أهل الفنّ هنالك، ولا نكره أن تشركوا في القضية سيدي محمد ولد الأخ المقدّس، وسلّم منّي على كافّة الأهل، والسلام. في 14 رجب عام 1371هـ.
أخوكم: البشير أفيلال
[2]
[من الفقيه الأديب، الشريف سيدي البشير أفيلال، إلى صديقه وشيخه، مؤرّخ طنجة العلامة محمد سكيرج يعتذر له عن عدم مرافقته في رحلته الاستشفائية بحمة مولاي يعقوب]
الحمد لله وحده وصلى الله على سيّدنا ومولانا محمد وآله
شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ البرَكة المقدّم، سيدي الحاج محمد سكيرج رعاك الله، وسلامه تعالى عليك ورحمته.
وبعد تقبيل يدكم، فاعلم سيّدي أنّي تلفنتُ لكم يوم العيد وعبثاً استجاب لي الهاجس، فأعدته ثانية بل زدت، ولم يكن عندي علم باعتصاب العملة وأضرابهم عن العهد، حتى أعلمني السيّد حسن …خبراً بما في الرّسالة الكريمة أنه بعثتموها لي مع السيّد حسن، وفرحتُ كثيراً بما اعتزمتموه من الاستحمام بمياه الحمّة اليعقوبية في هذا الإبان الرّبيعي الجميل، فإنّ فيه للأثر الباقي بذاتكم الكريمة العزيزة على النّفع الكامل، والعلاج الشامل، ولاسيما بوجود العائلة المحترمة بجانبكم في الرّحلة، ولاسيما وسيّدتنا العالمة الجليلة تشكو من ألم ألمّ بها كما أخبرني السيد الحسن شفاها الله.
وكنتُ أودّ سيّدي أن تكون حالتي الصّحّيّة والنّفسيّة تساعدني على التّنقّل والتّحرّك فأبادر إلى مصاحبتكم لا للنّزهة والتّرفيه على النّفس، بل لخدمتكم ولو عن طريق التّأنيس والتّندّر، ولكنّي سيّدي جرّبت وجرّبتُ فوجدتُ نفسي لا تقوى على أيّ حركة مهما كانت، وأهمّها الضّيق النّفسي الذي يعتريني ولا يفارقني حتّى بطنجة التي لا تبعد عنّا أكثر من رمية سههم، وإنّي -وحقّك عليّ- لأستحي كلّ الحياء من استقبال استدعاءاتك الحبّيّة الأخويّة لمثل هذه المناسبات بغير المبادرة والاندفاع بالجسم والرّوح للاستجابة لها، بالاعتذار والاستسماح، ولكنّي يريحني قلباً وضميراً أنّك تعلم كلّ العلم ما اعتذر بذلك به، وصحّة ما أتعلّل، وإنّي لستُ بكاذب، بل لا أكذب عليك ولو نادى منادٍ من السّماء يحلّ لي الكذب عليك، ثمّ إنّي اؤكّد أن يكون بجنبكم في هذه الرّحلة السيّد الحسن، وإن اقتضى الحال طلب ترخيص من إدارة شغله، ويا حبّذا لو كان معك الصّديق الحبيب سيدي عبد السلام وكانت أشغاله تسمح له بذلك، والله تبارك وتعالى يأخذ بيدكم وييسّر لكم ما فيه خير الدّارين، وعلى مودّتكم والسلام. في رابع شوال الأبرك عام 1378هـ.
أخوكم: البشير أفيلال
[3]
[من الفقيه الأديب، الشريف سيدي البشير أفيلال، إلى صديقه وشيخه، مؤرّخ طنجة العلامة محمد سكيرج يهنّيه بقدومه من رحلته الفاسية العلاجية، وزيارته لمقام التّجاني بفاس…]
الحمد لله وحده وصلى الله على سيّدنا محمد وآله
أسعد الله أوقات سيّدنا الأخ الحبيب، شيخنا الأستاذ الإمام العلاّمة البركة، المقدّم الكبير، سيّدي الحاج محمد سكيرج رعاك الله واقرّ عينك، وأعلى في الملإ الأعلى شأنك، وسلام عليكم ورحمة الله.
وبعد، فإنّي أوّلاً أتقدّم إلى سيّدنا بالتّهاني بالمقام السّعيد من سفره الاستشفائي، وأرجو أن تكونوا قد أصبتم المرمى فيما قصدتم إليه، وأنّ بقايا ألم الرّجل قد اضمحلّ بالكلّيّة، وعاد إليكم نشاطكم الجسماني والرّوحي معاً.
وقد أفادني سيّدي الحسن باختصار عن مجمل الرّحلة بطريق الاقتضاب، وانّها كانت لكم طيّبة وممتعة، اتّصلتم فيها بسادة أدباء، وأفاضل ألبّاء، وتمتّعتم بإقامة عدّة أيّام بجانب الأخ سيدي عبد الرحمن -رعاه الله- في غربته، نعم لم يعجبني أنّكم نأيتم بجانبكم عن البيضاء والرّباط، بل ولم أفهمه، فإنّ ذلك قد يؤثّر في عواطف الولدين مهما اتّصل بهما الخبر، وحتّى الولد عبد الصّمد لا تنس أنّه قد يتأثّر بذلك.
أمّا تعرّضكم لنفحات القرب من زاوية سيّدنا ولثم تربة ضريحه الأنور، وإبقاء الشّكوى، وبثّ البلوى، فإنّي أهنّيكم به، خصوصاً، وما أظنّ ذاك الشّيخ الذي قصدكم وأنتم تحتضنون قبره، وتلقينه إيّاكم ذلك الدّعاء في تلكم الصّيغة البليغة التي تحمل طابعاً نورانياً من كلام العارفين الرّبّانيين، إلاّ مبعوثاً من عالم الرّوح الذي كنتم ولا شك تسبحون في أجوائه، وتستجدون تحت أضوائه، وأنتم في مواجهتكم صادقون في الطّلب، متجرّدون عن كلّ حول وطول لكم وسبب، …ولا نشكّ أبداً أنّ لمقام سيّدنا قدّس سرّه خصوصية امتاز بها عن غيره في هذا الباب.
حدّثني الفقيه ابن موسى أنّه قصد هذا المقام الشّريف من محلّ إقامته بالعرائش طلباً لحلّ مشكل ينط به، واعيته كلّ وسيلة تذرع بها، فأقام بالضّريح ليلاً محتضناً قبره، مختلياً عن كلّ أنيس، قال: …ما طلع فجر تلك اللّيلة إلاّ عن بشارة لاحقته من حلّه العرائش عن طريق بريد خاصّ.
هذا والرّجل ينتسب لطريقة أجنبيّة، وغير متقيّد بطريقتنا، فأحمد الله على هذه المنن التي تجلّ عن الوصف، وإنّي أشكركم على ما تفضّلتم فأذنتموني في ذلكم الدّعاء الأحمدي الذي تلقّيتموه، وأنتم تربضون على التّربة الذّكيّة، نفعنا الله بذلك، وجعلنا من أعل المحبّة الخالصة، بجاه عين الوجود.
وإنّي أهنّئ وكذا ربّة الدّار سيّدتنا الشريفة العالمة الصالحة، عن هذه الوجهة الطّيّبة الكريمة، وأرجو أن تكون قد أصابت راحةً مما كان ألمّ بها قبل السّفر، وفي القريب نكون عندكم إن شاء الله، وشكراً لسيّدنا على ما تفضّل به في هديّته وألف شكر، وعلى مودّتكم والسلام. في 2 شوال 1378هـ.
أخوكم: البشير
إعداد: يونس السباح