بطاقة شخصية:
أحمد حجي: من مواليد 1947 بمدشر أسمساد، جماعة مالحة، قبيلة بني أحمد، إقليم شفشاون. حاصل على الإجازة في الفلسفة من كلية الآداب بالرباط، ومتخرج من المدرسة العليا للأساتذة عام 1967، وحائز على شهادة تاريخ الفلسفة عام 1970، وشهادة استكمال الدروس في الفلسفة الإسلامية عام 1974. مدرس بثانوية القاضي عياض من أكتوبر1967 إلى شتمبر 1970، وبثانوية خديجة أم المؤمنين من أكتوبر 1970 إلى شتمبر 1985. مفتش بالتعليم الثانوي(جهة طنجة/تطوان) من شتمبر 1985 إلى شتمبر 1989، ومفتش منسق جهوي بأكاديمية تطوان من أكتوبر 1989 إلى أكتوبر 2005. متقاعد بالمغادرة الطوعية يوم 1 نوفمبر 2005، ومتقاعد بالتمام بدءا من 1 يناير 2008.
كان له فضل الإسهام في التأليف المدرسي الموازي في مجال الفلسفة الإسلامية.
وافته المنية يوم الأربعاء 17 فبراير 2016م.
الطفولة مرحلة أساس في حياة الإنسان. لننبش قليلا في هذه المرحلة؛ كيف عشتموها؟
كنت ابنا وحيدا داخل الأسرة. ولذلك كنت مدللا وحاصلا على كل ما أرغب فيه، ممتلكا ما لم يكن من حظ كثير من الأطفال رفاق اللعب. وعندما أتممت خمس سنوات غادرت مسقط الرأس، وأقمت ببيت عمتي في تطوان حيث كنت الولد الوحيد به في الوقت الذي لم يتيسر لي فيه أن ألعب مع الأطفال خارج البيت سوى في نادر الأحيان. غير أن الأمور تغيرت عندما التحقت بالفصل الرابع الابتدائي ليصبح بإمكاني أن أقيم صداقات مع رفاق اللعب مثلما أصبح بمقدوري التمتع بهامش كبير من حرية الخروج والتجول هنا وهناك.
يحتفظ كل منا بذكريات عن اليوم الأول في المدرسة. كم كان عمرك يومئذ؟ وبم تميز ذاك اليوم؟ وكيف تنظر إليه الآن؟
التحقت بمدرسة مولاي إسماعيل عند قدومي إلى تطوان، وكان عمري خمس سنوات. وقد شعرت بالخوف والرهبة إذ وجدت نفسي، فجأة، وسط أطفال غرباء لاسيما وقد كنت الأصغر والوحيد الذي لم يسبق له أن مر بالكتاب(المسيد)، وبالتالي الفريد الذي لا يعرف القراءة والكتابة.. لقد ظل يومي الأول بالمدرسة ممتنعا على أن يدخل دائرة النسيان، فهو حاضر بالذاكرة حتى الوقت الحاضر؛ خاصة وقد عشت لحظة رعب ناجم عن إمساك المدرس بالعصا. ومع ذلك فإني أتذكر الآن لحظاتي الأولى بمدرسة مولاي إسماعيل بابتسامة دون دمعة، فما عشته آنذاك من شعور بالغربة والخوف سرعان ما تبدد إذ صادقت بعض الرفاق في نفس الوقت الذي لم أتعرض فيه قط للضرب بعصا المدرس، على عكس ما كان يحدث لكثير من تلاميذ القسم.
صورة المعلم الأول تبقى راسخة في الذاكرة، هلا قدمتم لنا، وإن طال الأمد، صورة ذاك الرجل؟
مدرسي الأول هو المرحوم السيد محمد الخطابي، ذلك الرجل الجامع بين العمل الجاد، والصرامة في معاملة التلاميذ. ولن أنسى على الإطلاق أنه عاملني معاملة خاصة لصغر السن، وانضباطي، وانفرادي بعدم معرفة القراءة والكتابة. وللحقيقة أذكر أنه كان يبذل معي جهدا خاصا قصد أن أتدارك ما فات، وألتحق بمستوى زملائي في الفصل الدراسي.
لقد ساعدني معلمي الأول كثيرا حتى تمكنت من الانتقال إلى السنة الأولى من التعليم الابتدائي إضافة إلى أنه زرع في حب التعلم، وبذور طموح رافقني على مدى الأعوام. ويكفي أن أذكر أن مدرس اللغة الإسبانية بالسنة الأولى الابتدائية أصر على أن أعود بمعية عشرة من زملائي إلى السنة الإعدادية (التحضيرية)، فرفضت التكرار، والعودة إلى المدرسة. ولم يجد ولي أمري بتطوان العلامة إبراهيم المامون رحمه الله مفرا من تلبية رغبتي، وإلحاقي بمدرسة مولاي الحسن، فقضيت بها عاما بالسنة الأولى، وطويت الفصلين الثاني والثالث في العام الموالي، ثم قضيت عاما ثالثا بالفصل الرابع الذي توجته بالحصول على الشهادة الابتدائية مع الالتحاق في أكتوبر 1957 بالمعهد المغربي للدراسة الثانوية (القاضي عياض)، وبعمر لا يتجاوز عشر سنوات.
كانت المدرسة المغربية في زمانكم (فسيفساء) اجتماعية. كيف كان إحساسك وأنت تقعد جنب أبناء أعيان تلك المرحلة؟
لم يكن لدي شعور واضح في مدرستي مولاي إسماعيل ومولاي الحسن بتمايز بين فئة وأخرى. وما زلت أتذكر كيف كنا نلعب بساحة الألعاب وكأننا من فئة مجتمعية واحدة. لم يكن أحد منا يشعر بأي تمايز لأبناء القواد والباشوات؛ وربما غاب التمايز الممكن بسبب عدم وجود غير هؤلاء من أبناء الأعيان بالأقسام التي درست بها في مدرستي مولاي إسماعيل، ومولاي الحسن.
لما التحقت بالتعليم الثانوي، وجدت مناخا جديدا، في ثانوية القاضي عياض، على صعيدي الدراسة والمدرسين. هل من إضاءة على هذه المرحلة؟
وجدت بالمعهد المغربي (القاضي عياض) مناخا جديدا وكأنه مناخ جامعي، والتقيت بأساتذة انقسموا بين ألمعيين، ومتوسطين، وقلة من الكسلاء؛ غير أن الألمعيين لم يكونوا مدرسين فحسب عبر السنوات الست التي قضيتها بالثانوية، وإنما شاركوا بفعالية في تنشيط الحياة الثقافية، فكانوا يؤطرون المحاضرات والندوات، ويوجهون المتعلمين نحو القراءة مع السير بأصحاب المواهب على مسارات الإبداع.
اخترت طريق الفلسفة في الجامعة. لم هذا الاختيار؟ إن كان اختيارا لا جبرا؟ وكيف قضيت تلك المرحلة؟ وهل تحس اليوم بالندم لأنك وقعت في شراك الفلسفة؟
عندما التحقت بالسلك الثاني من التعليم الثانوي تعلقت بالأدب العربي، وتمنيت أن أكون من أساتذة اللغة العربية. وقد ازداد شغفي بفضل الأستاذ المصري عبد العظيم خاطر؛ لكن فصل البكالوريا غير اتجاهي حيث تأثرت إلى حد بعيد بمدرس الفلسفة المصري محمد بيكو، والذي يبدو لي الآن أنه كان أستاذا نموذجيا بكل المقاييس.
على هذا، فإني قد اخترت طريق الفلسفة لأني رغبت أن أكون مثل محمد بيكو. ولذلك قضيت سنواتي الجامعية بابتهاج كبير.. لقد اجتزت السنة التحضيرية بنجاح، ثم قضيت ثلاث سنوات مع زملاء قلائل كانوا من خيرة الطاقات الواعدة بالشيء الكثير مما يدل على ما كان من تنافس وتناغم ساهما إلى حد كبير في الإعداد لمرحلة ما بعد الدراسة. وعلاوة على ذلك، فقد كنت منفتحا على الأنشطة الطلابية المتباينة، مع تميز في المجال الثقافي العام.
دار الزمن دورته، وعدت لتدريس الفلسفة في ثانوية القاضي عياض. كيف كان إحساسك؟ خاصة وأنك كنت تدرس تلاميذ في عمرك أو أكبر منك؟
غمرتني الفرحة عندما تسلمت في يوليوز 1967 قرار تعييني مدرسا بالثانوية التي تعلمت بها ست سنوات في وقت سابق. وعلى الفور شرعت في تحضير بعض المحتويات بالرجوع إلى كتب مدرسية فرنسية، وفي نفس الوقت كنت أنتظر “باشتياق” حلول اليوم الذي أصبح فيه مدرسا للمادة التي أحببتها مذ تعرفت على مبادئها الأولى وأنا تلميذ بمستوى البكالوريا.
حقا إن بعض الناس رأوا في ابن العشرين عاما أستاذا مهددا ببحر متلاطم الأمواج. وحتى مدير الثانوية قال لأحد مخاطبيه <<إن الوزارة بدأت تعين الأطفال لتدريس الفلسفة>>.
وحقا إني درست تلاميذ في عمري، وآخرين أكبر مني؛ بل إني التقيت ببعض ممن سبق لهم أن كانوا رفاق لعب بباب العقلة، وباب الصعيدة. ومع هذا وذاك فإن حبي للفلسفة، وهواي لمهنة التدريس ساعداني كثيرا في إنجاز عملي على مدى ثلاث سنوات بثانوية القاضي عياض، وخمسة عشر عاما بثانوية خديجة أم المؤمنين.
لقد اعتبرت نفسي محظوظا عندما درست تلاميذ شاطروني مرحلة العمر، فقد تواصلت معهم دون حواجز، وأدى بي الأمر إلى أن أتخذهم أصدقاء وتلاميذ في الوقت ذاته، فوجدتهم يبادلونني احتراما باحترام. وفوق ذلك وجدت في الذين قيل لي إنهم “مشاغبون” تلاميذ منضبطين طيبين؛ بل إني برهنت بالملموس أنه لم يوجد بالأقسام التي درست بها أي مشاغب على الإطلاق.
لقد رغبت منذ البداية أن أكون لا مدرسا يحالفه التوفيق فحسب، وإنما رغبت في أن أكون مختلفا عن مدرسي الفلسفة السابقين.
فقد كنت بمعية العربي السويني، أول أستاذ متخصص في الفلسفة يلتحق بتطوان. وأبعد من ذلك فقد عملت كي أحقق الاختلاف المراد على مستوى التعامل داخل الفصل الدراسي عبر العلاقة مع التلاميذ، وكذا بالنسبة للأساليب المعتمدة في بناء الدروس.
على نقيض بعض (المتفلسفة) الذين يوثرون العيش في (بروج عاجية) كنت نشطا في المجال الثقافي العام. ما أجمل ذكرياتكم عن هذه المرحلة؟
لم يكن ارتباطي بالنشاط الثقافي العام وليد زمن الممارسة المهنية فحسب، وإنما عاد النشاط إلى سنوات سابقة. فقد بدأت المحاولات الشعرية والكتابة النثرية منذ السلك الثاني من التعليم الثانوي، وواصلت الأمر خلال دراستي الجامعية. وبالتالي فقد واصلت الطريق عندما أصبحت أستاذا للفلسفة فألقيت المحاضرات بمختلف مدن الشمال(تطوان، وطنجة، وشفشاون، والحسيمة، والقصر الكبير)، وشاركت في كثير من الندوات بتطوان. وعلى الجملة فقد شكلت الأنشطة الثقافية كلها ذكريات جميلة، وإن بدا لي الأجمل في ما حدث لي عام 1983 حين واجهت كثيرا من التحامل في إحدى مدن الشمال عقب محاضرة انتقدت فيها المنطق الجدلي مبينا أنه قائم على المغالطة، في وقت كان فيه “المتمركسون”، ومحنطو الفلسفة، يقدسون ذلك المنطق، ويعتبرونه ثابتا وحقيقة مطلقة.
انتقلتم من مناخ (تدريس الفلسفة) إلى مناخ (تفتيش الفلسفة) كيف حصل هذا الانتقال؟ ثم ألا ترى ـ معي ـ أن حرية الفلسفة تضايقها رقابة التفتيش؟
كان التدريس تحقيقا لما راودني من حلم عندما كنت تلميذا بفصل البكالوريا. وعلى ذلك فقد أكدت الذات عندما تحقق الحلم. ولم أكن خلال سنوات طوال راغبا في التخلي عن التدريس. ويكفي مثالا على ذلك أن مفتش الفلسفة الأستاذ عبد الرحمن الريح عرض علي عام 1975 أن أبعث معه إلى قسم البرامج بوزارة التربية الوطنية، طلب تكليف بالتفتيش، ففعلت، ثم وجدت نفسي أسافر إلى الرباط في اليوم الموالي لسحب الطلب حيث لم أتصور أن بإمكاني أن أجد في مهنة التفتيش بديلا لما أجده من طمأنينة وراحة بال في تدريس الفلسفة.
غير أن كل شيء تغير عندما عانت الفلسفة تهميشا عم المدارس المغربية، وبدا في توجه التلاميذ نحو الاقتصار على موضوعات تشكل خمس البرنامج المقرر، مع إهمال لموضوعات الفلسفة “الغربية”، والتي هي نتاج لمسار التفكير الإنساني بدءا مما قبل المرحلة اليونانية، ومرورا بالعصر الوسيط الإسلامي والمسيحي، وانتهاء بالأزمنة الحديثة والمعاصرة.
لقد انتقلت من التدريس إلى التفتيش وأنا عازم على المساهمة، مع زملاء المهمة، في العمل من أجل عودة مادة الفلسفة إلى ما كان لها من موقع في وقت مضى. ومن هنا فقد مارست مهمة التفتيش دون نسيان لزمن التدريس، فلم يكن ممكنا أن أتجه إلى المس بحرية الأستاذ في إنجاز أسلوبه الخاص في الوقت الذي أرى فيه أن الأهم في التوجيهات التربوية الصادرة عن الوزارة ماثل في الروح لا في الحرف، وأن ما يفرضه التعليم المؤسسي لا يلغي شخصية المدرس، وإنما يساعده على أن يكون إنجازه سائرا نحو أفضل الأحوال.
وفي كلمة واحدة أقول إن الأستاذ حر بأسلوبه في الإعداد والإنجاز؛ غير أن حريته، على وجه الإجمال ليست مطلقة، بل تحدها الحدود المؤسسية مثلما أن الإنسان حر في هذا الوجود وليس خاضعا لحتمية مطلقة، وفي ذات الوقت فحريته محدودة بحتميات بيولوجية، وطبيعية، وسيكولوجية.
وهكذا فالأستاذ يتلقى عناوين معينة، لكنه صاحب أسلوب في اختيار ما يناسبها خلال ما يقوم بتحضيره وإنجازه، فلا تؤثر عليه رقابة التفتيش إلا في حدود ضيقة لأنها رقابة تساعد كثيرا من المدرسين دون أن تقف حاجزا أمام ذوي الموهبة، وأصحاب الابتكار.
ماذا تقترح لجعل تدريس الفلسفة فعلا منتجا؟
هناك شروط كثيرة لجعل تدريس الفلسفة فعلا منتجا إلى حد بعيد، منها اعتماد الطرائق الفعالة التي توجه التلميذ إلى البحث، وتوفير المراجع الأمهات، واستناد المدرسين إليها في كل تحضير، وأقصد بها نصوص الفلاسفة، وتواريخ الفلسفة، والقواميس الفلسفية.
كما أرى أن يعاد النظر في البرنامج الدراسي حتى يتم تدريس تاريخ الفلسفة مع إبراز للمذاهب الكبرى بدلا من عرض مفاهيم ينفصل بعضها عن بعض، مما يعني مراجعة للمنهاج الدراسي حتى يكون الهدف من تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي متجليا في الحصول على معرفة تجعل التلميذ مكتسبا الروح الفلسفية.
وكذلك أرى ضرورة أن يكون الكتاب المدرسي بلغة متسمة بالبساطة والوضوح حتى يجد فيه التلميذ متعة وفهما متكاملين بدلا من أن يجد فيه من الطلاسم ما يجعله نافرا من الفلسفة معتبرا إياها شقشقة لا مبرر لوجودها بين المواد التعليمية.
أحب الفلاسفة إلى النفس والعقل معا؟
أحب الفلاسفة إلى نفسي وعقلي معا هم: أفلاطون الباني لأول نسق في تاريخ الفلسفة، وكانط صاحب النقد المتكامل للعقلانية الديكارتية، والغزالي الذي سبق فلاسفة أوربا في طرح كثير من القضايا. كما يتجلى في موقفه من السببية، وحدود العقل الإنساني، واتخاذه الشك طريقا نحو اليقين، ثم ابن رشد الذي كان الشارح الأكبر لأرسطو، والجسر الموصول بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الحديثة، علاوة على نزعته العقلانية.
كتاب فلسفي تعاود قراءته بين الفينة والأخرى.
هناك أكثر من كتاب أعود لقراءته بين الحين والآخر؛ لكني أفضل ـ بوجه خاص ـ محاورات أفلاطون المترجمة من طرف زكي نجيب محمود. كما أفضل منها محاورتي أوطيفرون، والدفاع: الأولى تكشف بجلاء ذاك المنهج السقراطي الذي كان وراء الميلاد الأكبر للنسق الفلسفي مع أفلاطون، والثانية تقدم السياق العام لكلمة فلسفة. ولاشك في أنه لا غنى للأستاذ عن هذه المحاورة إن أراد أن يحيط بالدلالة الحقيقية لما ذهب إليه سقراط عندما قال “إن الحكمة لا تكون إلا للآلهة. أما أنا فمحب للحكمة (فيلسوف)” وذلك في إطار عرض جميل قدمه أستاذ أفلاطون مدافعا عن نفسه أمام قضاته بعد أن قيل إنه يدعي الحكمة، ويفسد أخلاق الشباب.
بم تنصح الجيل الحالي من المشتغلين في حقل تدريس الفلسفة؟
أرى أن أم النصائح ترتبط بما نتعلمه من تاريخ الفلسفة، هذا التاريخ الذي يبين، بلا غبار، أن الحقيقة ليست أمرا يمتلكه هذا أو ذاك، بل هي أمام الجميع وإن تعددت زوايا النظر باختلاف الزمان والمكان، وتباين مسارات الاجتهاد والإبداع؛ فكل فلسفة قابلة للنقد، وكل فلسفة تجعل من مهامنا نقد الأحكام “السابقة” والبداهات الزائفة، وكل ما احتمل الشك ولم يبرز أمام العقل بأجلى وضوح، وأتم جلاء.
إنها نصيحة تعني أن على مدرس الفلسفة أن يظل وفيا للفلسفة ذاتها، وأن يعمل على أن يكون في تقديمه أو تحليله لمختلف المواقف متحليا بقدر ما يستطيع من الموضوعية حتى لا يتحول إلى داعية لمذهب ما، أو إيديولوجية من الإيديولوجيات، وحتى يضع في الحسبان، دوما، أن أي اتجاه فلسفي لم يتمكن، ولن يستطيع أن يضع حدا للبحث الإنساني المتواصل عن الحقيقة، أو كما يقول غوسدورف: “ليست هناك فلسفة استطاعت أن تكون نهاية للفلسفة رغم أن هذا الأمل قد راود كل الفلسفات”.
إن دور أستاذ الفلسفة ماثل في أن يعرض ويحلل ويركب، ويقدم الأطروحة وضدها بغض النظر عما له من تعاطف شخصي مع هذا المذهب أو ذاك، بحيث لا يستطيع المتعلم أن يكتشف، بوساطة التلقي ما للمدرس من اعتقاد أو آراء شخصية، وإلا فإن هذا المدرس سيتحول إلى ملقن غارق في “دوغماتية” تتعارض مع كل ما تهدف إليه الفلسفة وتدريسها على السواء.
د. محمد محمد المعلمي