بطاقة شخصية:
عمر بن عبد السلام المسعودي ولدت سنة 1940 بزاوية يوسف ـ إقليم الحسيمة. عشت طفولتي الأولى بمسقط رأسي ثم في مدينة الناظور لمدة 11 سنة، انتقلت بعدها إلى مدينة تطوان، ومنها انتقلت إلى مدينة أكادير حيث مكثت 6 سنوات، عدت بعدها إلى تطوان. وبعد 18 سنة انتقلت إلى (قرية أبا محمد) بإقليم تاونات لمدة 5 سنوات، ثم أبت إلى تطوان لأعيش بها بقية عمري إن شاء الله.
اشتغلت معلما منذ سنة 1959 ثم مديرا لمجموعة مدرسية، ثم موظفا بنيابة التعليم بتطوان، ثم مسؤولا عن الكتابة الخاصة للنائب الإقليمي بها إلى غاية 31 دجنبر 2000م.
لنبدأ بالطفولة. بم اتسمت هذه المرحلة؟
إنني كلما تذكرت طفولتي، شعرت بحنين إليها ورغبة في استعراض ذكرياتها التي ما تزال محفورة في ذاكرتي لأنها كانت طفولة بريئة وسعيدة جدا، أحداثها ناصعة تستحق التدوين.
لقد ولدت في بادية ذات طبيعة خلابة بأشجارها وروابيها وشعابها وهوائها النقي وسمائها الصافية، كما تمتاز بطيبوبة أهلها وحبهم الشديد للعمل. ما زلت أتذكر وأنا ابن ست سنوات أنني كنت أرافق والدي رحمه الله إلى وادي “غيس” الدائم الجريان، الذي يبعد بحوالي 3 كلم عن دارنا، حيث نملك بقعا من الأرض عن إحدى ضفتيه، مثل جميع سكان المداشر بجوارنا؛ فبينما يكون الكبار منهمكين في الحرث والسقي أو جني الثمار، والصبايا منشغلات بجمع الأعشاب لقطعان الغنم والبقر، نظل نحن الصغار نرتع ونلهو في جداول المياه الصافية الرقراقة، وسط ذلك الوادي الشاسع، لا نفكر في شيء، حتى إذا شعرنا بالجوع، التجأنا إلى ثمار الأشجار أو إلى تناول الخضروات التي يزخر بها المكان. وحين يأتي المساء يتهيأ الجميع للعودة إلى الديار، إذ لا أحد يقطن هناك، فيحملون على دوابهم شتى أنواع الخضر والثمار والبقول، ويملؤون جرارهم بمياه عذبة سائغة من ينابيع صافية رقراقة.
وليس هناك أروع من مشهد عودة هؤلاء الفلاحين وسوائمهم، والشمس على وشك الغروب، فترى تلك القافلة تتقدمها قطعان الغنم والبقر والماعز، وهي ممتلئة البطون، وخلفها يافعات منشرحات في حلل نظيفة، يرددن أهازيج وأغاني عفيفة، وخلفهن شبان وصبيان يمرحون تارة، ويصغون لحديث بعضهم تارة أخرى، ثم يليهم الرجال والشيوخ، بعضهم راكب وبعضهم خلف دوابهم المحملة بخيرات الأرض، يعلو وجوههم الرضا والوقار. إنها لوحة لو رسمت لنالت إعجاب كل الناظرين.
لقد اتسمت طفولتي بالسعادة والبراءة وحب الطبيعة وحياة البادية، رغم بساطة العيش وقلة ذات اليد عند سائر الناس، خصوصا في تلك السنوات العصيبة التي عرفها العالم كله، بسبب الحرب العالمية الثانية، وقلة الأمطار إلا ما كانت تجود به ضفاف الوادي؛ فرغم أن جل أصناف الحبوب تكاد تكون مفقودة، إلا أن السكان كانوا راضين لا يشكون الجوع والفقر، فتراهم متعاونين متآزرين متحابين يزاولون أنشطتهم بقوة وإيمان، وكانوا يقنعون بما تقدمه لهم السلطة الحاكمة من مساعدات بواسطة بطائق، وحسب أفراد الأسرة، من خبز وأرز وزيت، فيأكلون منه ويبيعون الباقي لاقتناء حاجات أخرى.
ما أبرز الذكريات عن اليوم الأول في المدرسة؟
حين بلغت من العمر سبع سنين، انتقل بنا والدي رحمه الله إلى مدينة الناظور، حيث عين مدرسا هناك، وكان وصولنا إليها ليلا، بعد عناء شديد في السفر، خصوصا وأن الحافلة كانت سرعتها آنذاك بطيئة جدا. نزلنا في ضاحية المدينة، في دار مبنية بالطين، وشعرنا وكأننا وقعنا من السماء. ورغم صغر سني كنت أشعر بغربة كبيرة، ولو أنني بين أسرتي، وكان الخوف لا يفارقني، ولم نكن نغادر البيت. وبعد أيام، أحضر والدي الألواح والصمغ وأقلام القصب، وشرع في تحفيظنا القرآن الكريم في البيت. وكنا نحن الإخوة نتسابق في استظهار ما حفظناه، ونسرع إلى محو الألواح وتعريضها للشمس لتجف بسرعة قصد كتابتها من جديد. وكانت أختي الكبيرة قد حفظت عدة أحزاب قبلنا، لذا كانت تنوب عن والدي، عند غيابه، في الاستماع إلينا وتعليمنا الكتابة.
وبعد مضي ثلاثة أشهر تقريبا، وبالضبط في يناير 1947 دخلنا كلنا إلى المدرسة. وكان في المدينة مدرستان، إحداهما للذكور والثانية للإناث. ما زلت أتذكر ذلك اليوم بقوة، حيث أمسك أبي بيدي وبيد أخي الكبير ودخل بنا إلى مكتب المدير الذي كان إسبانيا، وبعد تسجيلنا أشار على والدي أن يذهب بنا إلى قسم غير بعيد عن المكتب. وبمجرد ما وضعنا أقدامنا داخله، فوجئت بذلك العدد الهائل من الأطفال وكلهم يتفحصوننا بنظراتهم. لم يكن الفقيه حاضرا في تلك اللحظة، وأبي ما زال ينتظر في مدخل الحجرة. حينئذ وقع نظري على طفل واقف في مقدمة الصفوف والدم ينساب على وجهه وأذنيه وأحد رفاقه يجفف جراح رأسه بالطباشير. سأل والدي: من فعل به هكذا؟ فأجابه الصغار: ضربه الفقيه بالعصا على رأسه. سمعت ذلك، فارتعدت فرائصي من شدة الخوف، لكنني كتمت أنفاسي. ظهر الفقيه، وتقدمنا نحوه، وأمرنا والدي بتقبيل يده، ثم قال: ها هما الولدان، عاملهما كأولادك، ثم ودعه ودلف إلى الباب خارجا.
جلست جنب أخي، وصرت ألتفت يمينا وشمالا، أحملق في هؤلاء الأطفال الذين يملؤون الحجرة ضجيجا وهم يرددون بعض الآيات الكريمة، والألواح في أيديهم، والفقيه لا ينفك يحرك عصاه تجاههم مشيرا أو مهددا.
سمعت رنين الجرس لأول مرة، وكان عبارة عن ضربات قوية بالمطرقة على قطعة حديد سميكة معلقة بمدخل المدرسة. تململت في مكاني، لم أدر ماذا في الأمر، حتى رأيت الأطفال يضعون الألواح جانبا، ويندفعون إلى الباب خارجين فتبعناهم، ولما أصبحنا في الساحة انبهرت لكثرة التلاميذ من كل الأعمار، والتصقت بأخي قرب الباب، بينما كان الجميع يركض ويلعب. أما نحن فلم نكن نحتك بالأطفال من قبل.
بعد هنيهة دخلنا حجرة أخرى اصطفت فيها المقاعد بانتظام، وأخذنا مكاننا مع الآخرين، ثم دخل علينا مدير المدرسة، وكان صارم الملامح، كثيف شعر الحاجبين، فأخذ يعلمنا أسماء بعض الأشياء بالإسبانية. ما زلت أتذكر حين أخذ زجاجة فارغة وهو يقول: Una botella ويرددها عدة مرات، ثم يطلب منا ترديدها جماعة. بعدها أخذ قلم ريشة ورفعه قائلا: Una pluma وهكذا… لم أتذكر سوى ذلك بالنسبة لليوم الأول، وما هي إلا أيام حتى اندمجت مع التلاميذ، وأحببت المدرسة كثيرا.
بعد شهور انتقلت إلى قسم آخر، وكان هناك معلم الإسبانية، وهو من أبناء المنطقة، وكان قاسيا جدا، حيث كان بمجرد دخوله علينا، يأمر أحد التلاميذ بإحضار رزمة من قضبان الرمان ويضعها جانبا، ثم يجلس ويضع رجليه فوق مكتبه، ويشرع في تصفح كتاب أو جريدة، ونحن نحبس أنفاسنا، لأن هناك ثلاثة من التلاميذ الكبار يمرون بين الصفوف لمراقبتنا، وكل من تثاءب أو نبس ببنت شفة يأمرونه بالوقوف جنب الباب، حتى إذا بلغ عددهم خمسة أو ستة، يقوم “السي محمادي” ويأخذ القضبان ثم يأمرهم بمد أيديهم، ويشرع في ضربهم بكل قسوة، ثم بعد ذلك يقف أمام السبورة ويكتب بعض الكلمات بالإسبانية، ويعلمنا كيفية نطقها.
مرت تلك السنة بسرعة، واجتزت اختبارا أمام المدير، مكنني من الانتقال إلى القسم الأول، وهناك تنفست الصعداء حيث وجدت معلمين طيبين جاءوا من مدينة تطوان، أذكر منهم السادة استيتو والبانزي والحياني رحمهم الله جميعا، ومنهم معلمون إسبان كانوا كلهم مرحين منشرحين.
وفي السنوات الموالية جاء آخرون كالمرحوم أحمد السباعي والسيد إسماعيل والأستاذ البوعناني، إضافة إلى معلمين إسبان كانت معاملتهم إيانا طيبة جدا، جعلونا نحب الدراسة، وغرسوا فينا روح المنافسة. وكان عندنا معلم لكل مادة، كما كانت جميع الأدوات المدرسية والكتب والدفاتر توزع علينا بالمجان، وتجمع بعد كل حصة لتبقى في الخزانة ما عدا الدفاتر.
ومن أجمل ذكرياتي عن المرحلة الابتدائية، هي تلك الأنشطة الثقافية والترفيهية التي كانت تنظم بالمدرسة أيام الأعياد والمناسبات، خصوصا عيد الشجرة وعيد الكتاب، حيث كانت تخصص فيها جوائز قيمة للتلاميذ المتفوقين. وما زلت أتذكر أنني نلت جائزة عن حسن السلوك، وكانت جائزة نقدية عبارة عن (100 بسيطة) وكان مبلغا ذا بال وقتئذ؛ فقد كان أجر العامل لا يتعدى 5 بسيطات في اليوم.
ومن الذكريات التي تحضرني بقوة، تلك الأوقات التي كنا نقضيها في المخيم الذي كان يدوم أكثر من شهر على شاطئ البحر. وكان بمثلبة مدرسة لتعلم الانضباط والاعتماد على النفس إضافة إلى الترفيه. فالمكان كان يشتمل على عدة هكتارات مسيجة بالأسلاك الشائكة، وعلى بعد كل مائة متر يوجد مخفر للحراسة، ويمنع الخروج إلا من الباب الرئيس وبإذن مكتوب. أما داخله فهناك عدة غرف واسعة، يوجد في كل واحدة منها ثلاثون سريرا، إضافة إلى المرافق الأخرى كالإدارة والمطبخ وغرفة العلاج والمستعجلات، ومساحات مغطاة لأنشطة الترفيه والعروض…
وكان كل تلميذ مسؤولا عن ترتيب فراشه في الصباح الباكر، وعلى نمط واحد، ومساهمة الجميع في تنظيف الغرفة وتزيين أرضها بالرسوم لأنها كانت غير مبلطة، وذلك استعدادا لزيارة لجنة المراقبة والتنقيط قبل الفطور. وفي كل صباح يعطى الأمر اليومي، فيتم توزيع التلاميذ الكبار على أماكن الحراسة بالتناوب. ومن ارتكب مخالفة أو لم ينضبط، يؤمر بتنظيف الساحة ومحيط المخيم، أو بمساعدة الطباخين في تقشير البطاطس. أما الصغار فيوجهون لسماع دروس أو قصص ومغامرات…والآخرون يوجهون لممارسة التمارين الرياضية استعدادا للاستعراض الذي كان ينظم بمناسبة انتهاء فترة المخيم. وكانت هذه الحصة هي التي يخاف منها الجميع لأن المسؤول عنها كان ضابطا عسكريا برتبة نقيب (قبطان) ويحضر بزيه العسكري، وكان صارما مع من تصدر عنه هفوة ما، لذا كنا حريصين على إتقان كل الحركات التي كنا نتعلمها بغية نيل إعجاب الحاضرين يوم الاستعراض.
متى كان الالتحاق بسلك التدريس ولماذا؟
أنهيت مرحلة التعليم الثانوي، حسب النظام القديم، في صيف 1958 واجتزت الامتحان الذي كان بمثابة امتحان البكالوريا. وكان علي أن أتابع الدراسة باللغة الإسبانية فقط، تمهيدا للتوجه إلى إسبانيا. وفعلا تابعت الدراسة باللغة الإسبانية لمدة ثلاثة أشهر، بيد أنني فوجئت في تلك المدة بإعلانات علقت في الثانوية تفيد بمنع استعمال الإسبانية في الإدارات المغربية، فشعرت بالخوف على مستقبلي إن واصلت الدراسة بالإسبانية؛ خاصة وأن حالة أسرتي المادية لم تكن تشجع على التوجه صوب إسبانيا مثل زملائي الميسورين.
وشاءت الأقدار أن تمنح فرصة الدخول إلى مدرسة المعلمين لطلبة السنة السادسة للتعليم الأصيل الذين كثيرا ما أضربوا واحتجوا بغية إدماجهم في سلك التعليم. وفي ذلك الإبان علمت أن كثيرا من زملائي في القسم تم قبولهم ضمن هؤلاء، فاغتنمت الفرصة معهم وحظيت بالقبول. وقد أفدت كثيرا من هؤلاء الطلبة الذين كانوا أكبر مني سنا، وكان مستواهم جيدا في اللغة العربية وعلوم الدين.
وكان أساتذتنا مرموقين كالأستاذ الجباري والأستاذ السوسي والأستاذ الشاعر عبدالواحد أخريف والأستاذ اليطفتي، وأفضلهم عندي كان الأستاذ محمد العربي الخطابي الذي أصبح فيما بعد وزيرا ثم مكلفا بالخزانة الملكية. كان رحمه الله أستاذا أديبا وإنسانا خلوقا، وكنا حريصين على حضور المحاضرات التي كان يشارك فيها مع أساتذة آخرين، والتي كانت تنظم بين حين وآخر.
ما هي خلاصة التجربة المديدة في سلك التدريس؟
منذ أكتوبر 1959 التحقت مع مجموعة من رفاقي ـ أكثر من 40 معلما ـ بنيابة التعليم بأكادير، وعينت مع ثلاثة منهم بمركز مجموعة مدرسية تبعد عن المدينة بحوالي 50 كلم، وقضيت هناك سنتين قبل أن أنتقل إلى إنزكان. استفدت خلالهما الشيء الكثير، إذ كنا نزور المدينة في متم كل شهر، ويقتني كل واحد منا مجموعة من الكتب التربوية والأدبية والمجلات الثقافية. وبما أننا كنا في البادية بعيدين عن السكان، فقد كنا نقضي وقت فراغنا وعطلة الأسبوع في التهام تلك الكتب منفردين بغية التركيز، حتى إذا عدنا إلى البيت شرع كل واحد منا في عرض ما قرأه أو أثار انتباهه، ثم تدور المناقشة بيننا.
كما كنا نجلب لتلاميذنا كل ما يساعدهم على فهم دروسهم. وكنت ـ بحكم هوايتي في الرسم ـ أقتني أدوات الرسم وأخرج إلى الطبيعة فأرسم كل ما أحتاج إليه في دروسي كوسيلة للإيضاح، وكنت أزين حجرتي بالصور والرسوم التي أنجزها بنفسي.
انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة مركزية بإنزكان، كانت تضم 40 معلما ومعلمة، ثلثهم من الفرنسيين، وكنت أحاول أن أكون أكثرهم التزاما وجدية ونشاطا، خصوصا بالنسبة لأولئك الأجانب، فكنت أول من أنشأ مكتبة بالقسم، حيث اقتنيت مجموعة من الكتيبات والقصص، وطلبت من التلاميذ المساهمة بكتاب أو قصة، فلم يترددوا في ذلك. وتوفر لدينا ما يغطي عدد التلاميذ في القسم، وبما أن حصص المطالعة في الأسبوع كانت خمسا، فقد تقدمت بطلب إلى مدير المؤسسة كي يسمح لي بتخصيص حصة المطالعة ليوم السبت للمطالعة الحرة بدلا من الكتاب المدرسي، فوافقني على ذلك. وكنت أوزع على كل تلميذ كتيبا أو قصة، ثم نشرع جميعا في المطالعة، فيعم السكون حجرة الدرس، وينهمك كل تلميذ في مطالعة كتابه. أما أنا فكنت أكتفي بشرح ما استعصى عليهم من كلمات. وهكذا كانت المبادرة ناجحة، وغدا التلاميذ ينتظرون بشوق حلول موعد تلك الحصة.
وإجمالا، فقد اكتسبت في ميدان التدريس تجربة كبيرة جعلتني أنجح في مهمتي، وأحظى باحترام التلاميذ وآبائهم وكل المسؤولين التربويين، وما زلت إلى الآن أتلقى منهم الشكر والثناء كلما صادفت أحدهم، لعلمهم بمدى إخلاصي وحبي لهم.
كيف كانت حصيلة تجربة الإدارة التربوية؟
بعد أن قضيت في التدريس مدة 25 سنة كلها عطاء ونكران للذات، حظيت بتعييني على رأس مجموعة مدرسية بإقليم تاونات دون سابق تدريب في مجال التسيير الإداري؛ لكن ـ بحكم تعودي على أخذ زمام المسؤولية بما يلزم من جد ـ ما أن توصلت بالتعيين، وكان ذلك قبيل انتهاء السنة الدراسية بشهر، حتى بادرت إلى الاتصال ببعض زملائي من مديري المؤسسات التعليمية لأتزود منهم بكل ما يهم مهام المدير الإدارية والتربوية. وقمت بإعداد العدة في صيف تلك السنة.
ولما التحقت بمؤسستي باشرت عملي دون أدنى تعثر؛ ومع ذلك كنت أتردد في الشهور الأولى على كثير من زملائي المديرين بالمنطقة قصد استشارتهم والاستفادة من رصيد تجربتهم.
ولم تكد تمر سنة حتى حظيت بتقدير المسؤولين في النيابة، وباحترام جميع المعلمين في المجموعة المدرسية، رغم بعدها وتشتت فروعها التي كنت أزورها كل أسبوع تقريبا، مما وطد روابط التواصل بيننا، وانعكس إيجابا على العملية التربوية في جميع فروع المؤسسة.
وقد أمضيت في تحمل مسؤولية الإدارة التربوية مدة خمس سنوات، عشت خلالها بمفردي، في حين كانت أسرتي تقيم بتطوان؛ الأمر الذي انعكس سلبا على أحوالها، فقررت طلب إعفائي من مهمتي شريطة إعادتي إلى نيابتي الأصلية (تطوان). وعلى الرغم من عدم الاستجابة لطلبي في البداية، أعدت الكرة وبإلحاح فانفرجت الغمة لما استجيب لطلبي، والتحقت بنيابة تطوان في متم أكتوبر 1988. ولما استقبلني نائب الوزارة أطلعته على طلبي، فقرر الاحتفاظ بي في النيابة.
تتوجت المسيرة المهنية بالعمل المباشر إلى جانب مسؤولين إقليميين على صعيد نيابة الوزارة بتطوان. ماذا أضافت هذه التجربة إلى رصيدكم التربوي؟
لقد كان قرار الاحتفاظ بي في النيابة حدثا سعيدا كدت أطير فرحا جراءه لكوني غدوت جوار بيتي الذي لم تعد تفصلني عنه سوى بضعة أمتار، بعدما كنت نائيا عنه بمئات الكلمترات. وكانت انطلاقتي من مكتب الامتحانات الذي لم أمكث به سوى شهور، إذ نودي علي للالتحاق بمكتب التنسيق الذي كان من مهامه، التنسيق بين المكاتب والمصالح. وكانت مهمتي تقتضي استقبال المذكرات الوزارية والمناشير والدوريات قصد تسجيلها وقراءتها ثم تذكير المكاتب أو المصالح بأجل تنفيذ محتواها، إضافة إلى تتبع ذلك، وقد تزودت بفضلها بكثير من المعلومات الإدارية والتربوية.
وفي سنة 1990 عينت بالكتابة الخاصة للنائب الإقليمي. وقد كنت حذرا جدا لأن المكان كان يتطلب يقظة وفطنة ولباقة وحسن تدبير. في بداية الأمر استأنست بزميلي في المكتب آنذاك المرحوم السيد عبد السلام بورباب الذي كانت له حنكة وتجربة واطلاع واسع على مجريات الأمور في النيابة، وعرفني بكثير من الأطر التربوية والشخصيات والوجهاء. ولم تكد تمر سنة حتى كنت ملما بكل مهام المكتب، وما أكثرها.
وبعد خمس سنوات تم الاستغناء عن الكتابة الإقليمية، فأضيفت إلي أعباء أخرى كاستقبال جميع الوافدين على الكتابة الراغبين في مقابلة النائب، من مسؤولين تربويين ورؤساء المؤسسات والمصالح وممثلي النقابات، أو موظفين وأساتذة… وكان علي الاستماع إليهم قبل توجيههم نحو الوجهة ذات الاختصاص.
علاوة على ما سبق، كان علي بعد أن أصبحت رئيسا للكتابة الخاصة أن أحرر الرسائل والرد على المراسلات والشكايات الواردة على الكتابة، ثم توزيع العمل على الراقنات التابعة لها، وتصحيح كل ما يتم رقنه…
وللحقيقة فقد استفدت كثيرا من عملي بالكتابة الخاصة، وكسبت تجربة تربوية وإدارية بفضل التواصل المستمر مع كثير من الفعاليات في مجال التربية والتعليم والإدارة.
بم تحسون اليوم بعد هذه الرحلة المهنية المديدة؟
إحساسي بعد هذه المسيرة الطويلة (41 سنة و3 أشهر) من الكد والجد والعطاء، وتلقين أجيال، وكسب ود وصداقة آلاف المعلمين والأساتذة والمفتشين والموظفين، هو أنني أعتبر نفسي من أسعد الناس، خصوصا بعد أن وفقني الله ومنحني الصحة والعافية بعد كل هذه السنين، ووفقني لكسب محبة واحترام كل الذين التقيت بهم على كلمة سواء.
ما نصيحتكم لمدرسي اليوم؟
نصيحتي لمدرسي اليوم أن يؤمنوا بسمو مهنة التدريس وشرفها، وبأجرها العظيم على كل معلومة يلقنونها للأطفال، وأدعوهم إلى التحلي بالصبر والأخلاق النبيلة، والإخلاص في العمل، حتى يكونوا قدوة حسنة لتلامذتهم. وليجعلوا نصب أعينهم أن ما يبذلونه نحوهم من خير وجهد، سيظل عالقا في أذهانهم وسيذكرونه مدى حياتهم.
ما المواصفات التي تراها ضرورية لمن أراد تحمل مسؤولية الإدارة التربوية؟
من أراد أن يتحمل مسؤولية الإدارة التربوية عليه أن يعد نفسه إعدادا قبليا، وأن يتزود بما يكفي من المعلومات المتعلقة بتسيير الإدارة، وأن يعمل بالجد والنزاهة، ويتحلى بالصبر والتسامح، وأن يهتم بالمذكرات التوجيهية والتنظيمية الواردة من الوزارة، ويعيد قراءتها مرات، ويتقيد بمضمونها، وأن يوطد العلاقات مع أفراد الطاقم التربوي والإداري ويشاورهم في الأمر، إن هو أراد النجاح في مهمته.
كلمة ختامية.
إن مهنة التدريس وتسيير الإدارة التربوية مهنة شاقة ومتعبة؛ لكنها شريفة ونظيفة. وهي تحتاج إلى الكفاءة، والرغبة في المزيد من المعرفة والتكوين من أجل تأدية الرسالة على وجهها. فمن مارسها بنجاح وإخلاص نال رضا الله ورضا نفسه، وعاش سعيدا.
وأساس النجاح، في نظري، هو التواضع والصدق والعدل والاهتمام بالغير واحترامه.
د. محمد محمد المعلمي