بطاقة شخصية:
محمد العمراوي مفتش تربوي ممتاز للتعليم الثانوي، متقاعد في نطاق المغادرة الطوعية سنة 2005. درست مادتي التربية وعلم النفس في مراكز التكوين التربوي بمراكش والدار البيضاء وتطوان، وعملت مفتشا للتعليم الثانوي بنيابة تطوان، ثم اضطلعت بمهمة إعداد مواضيع امتحانات البكالوريا بالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة ـ تطوان. وشغلت مهمة مدير مساعد بالأكاديمية ذاتها.
سهرت على إعداد وتقديم برنامج تربوي بإذاعة تطوان تحت عنوان (آفاق تربوية)، وقمت بمهمة مراسل صحفي معتمد من لدن إذاعة وتلفزيون(أبو ظبي)، وأنجزت عدة دراسات لفائدة مركز زايد للتنسيق والمتابعة بدولة الإمارات العربية المتحدة الذي طبع ونشر منها الكتب التالية: سبتة ومليلية والجزر/ الهجرة السرية في المغرب/ الاتحاد الأوربي، خطوات نحو تحقيق الحلم/ حلف شمال الأطلسي.
كيف كانت النشأة الأولى؟
كانت في مدينة الناضور، ضمن أسرة محافظة، متوسطة الدخل، متعددة الأفراد، ذات حضور اجتماعي محترم في الحي الشعبي الذي كنا نقطنه؛ وكان ذلك الحضور بسبب الرتبة العسكرية التي كان يحملها والدي في سلك الجيش الإسباني رغم بساطتها، إلا في الأوساط الشعبية كانت ذات شأن. وهناك سبب آخر لذلك الحضور، أدركته لاحقا بعد وقوفي على جانب آخر في حياة والدي رحمه الله؛ وهو وجه النضال من أجل تحرير الوطن من ربقة الاستعمار، فقد كان منخرطا في أتون الكفاح الوطني السري، عبر مد رجال المقاومة بمختلف أنواع الدعم المادي والمعنوي. وأذكر أن الوالد كلما تحدث عن هذا الجانب من سيرته في جلساتنا العائلية، إلا وتدخلت أمي لتبرز دورها هي الأخرى في دعم المجاهدين بطلب من والدي، عبر إعداد الطعام لهم كلما طرقوا باب بيتنا، وتوفير الملاذ الأمن لهم.
في كنف هذه الأسرة إذن، نشأت وترعرعت وتماهيت مع قيمها الدينية والأخلاقية والوطنية. وفتحت عيني على أسلوب تربوي كرسه والدي بتأثير من عمله العسكري تميز بالحزم والجدية والصرامة التي لا تخلو أحيانا من الشدة والقسوة.
ماذا يمثل لك اليوم الأول في المدرسة؟ كيف قضيته؟
لا أتذكر الشيء الكثير عن اليوم الأول في المدرسة، ولكن أدرك أنه لم يشكل صدمة في حياتي الطفولية، بفعل ما يطلق عليه في علم النفس التربوي بـ”الفطام الاجتماعي” الناجم عن انسلاخ الطفل عن رحم الأسرة الدافئ والمحدود، إلى فضاء المدرسة الواسع الذي يوحي للطفل بالضياع وانفلات الأمن النفسي، وذلك لأن ولوجي عالم المدرسة تم التمهيد له، عن غير وعي تربوي مسبق، بمرحلة الكتاب التي لم تستمر معي طويلا، ولم تمثل لي في تلك المرحلة المبكرة، إلا أياما من الصخب واللغط وصياح الأطفال في كل أركان القاعة الصغيرة التي تكوم في زاوية منها رجل مسن لا يكاد يبارح مكانه، يأمر وينهى، ويتردد عليه الصبية لاستظهار ما حفظوه من آيات القرآن الكريم، فيأمر بعضهم بمحو لوحهم، ويرد آخرين إلى أماكنهم بعد نهرهم. لست أتذكر إن كنت من الذين يمحون ألواحهم أو من الذين يردون على أعقابهم. كل ما أنذكره أن ألفاظ بعض السور القصيرة علقت بذاكرتي دون فهم لمعانيها؛ بل إن بعض الألفاظ كانت تعلق بالذاكرة مشوهة شكلا ومضمونا، فعبارة “تبت يدا…” كنت أتصورها كلمة واحدة لا أعرف لها معنى، ولفظة “ألهاكم…” كنا نعتبرها مرادفة للضرب و”الفلقة”.
المهم أن الكتاب ونادي حزب الاستقلال الذي كان، في مدينتنا، يقدم بعض الدروس الأولية للأطفال الذين كنت منهم، شكلا ـ معا ـ مرحلة وسيطة بين فضاء الأسرة وفضاء المدرسة، مما خفف من وطأة الانتقال المفاجئ، لذلك لم أجر إلى المدرسة جرا في اليوم الأول؛ بل كنت سعيدا بوزرتي البيضاء الجديدة، وأدواتي المدرسية التي أخذت مكانها ضمن ممتلكاتي الخاصة، ومع ذلك قضيت ذاك اليوم متوجسا ومتربصا ومنتظرا مجيء والدي ليردني إلى حضن أمي.
ما أجمل الذكريات عن المرحلة الابتدائية؟ والمرحلة الثانوية؟
في المرحلة الابتدائية عشت حدثا تاريخيا شكل أجمل ذكرياتي عن هذه المرحلة؛ الأمر يتعلق باستقلال المغرب الذي أجج الحماس الوطني وألهب مشاعر الأخوة والتضامن بين كل الناس، وزرع في قلوبهم الأمل والتطلع إلى أنوار المستقبل وإشراقاته الواعدة. فقد كان الناس ينظرون إلينا، نحن الصغار الأبرياء، كبراعم ستتفتح مع بزوغ العهد الجديد؛ عهد الحرية والاستقلال والغد الزاهر.. التقط حزب الاستقلال هذه النظرة فجند مجموعة منا، وألبسنا زيا موحدا أشبه ما يكون بزي الكشفية. وكلفنا، في غمرة بهجة الاحتفالات بالاستقلال، بمهمة نضالية تمثلت في جمع التبرعات لفائدة العمل الوطني، عن طريق غرز دبابيس صغيرة تحمل في رؤوسها شريطين صغيرين أحدهما أحمر والآخر أخضر في معطف كل من نصادفه من الناس، وذلك في جهة الصدر تحديدا لتكون بمثابة وسام وطني رمزي. قمت مع زملائي المجندين بهذا العمل طيلة اليوم، يغمرني إحساس عميق بالانتماء إلى المجهود الوطني. وفي طريق العودة إلى المنزل، كانت نظرات الناس ترمقني بحنو واحترام وأنا بذلك الزي المميز، وكأنني جندي صغير عاد مظفرا من ساحة الجهاد والتحرير. وفي المنزل تنازل والدي عن صرامته المعهودة، وربت على كتفي، وداعب شعري، ولم أكن أعلم ما يدور في خلده وهو يتأمل هيأتي العسكرية المصغرة.
أما في المرحلة الثانوية التي قضيتها في تطوان، فأجمل ذكرياتي عنها يوم قدمت لي إدارة المدرسة الأهلية جائزة الرتبة الثانية على صعيد المؤسسة في حفل نهاية إحدى السنوات الدراسية.
من هم أبرز الأساتذة الذين ما زلت تحتفظ بذكريات جميلة عنهم؟
الأستاذ الذي استحوذ على إعجابي وتقديري وانجذابي إلى شخصيته هو الأستاذ المرحوم السيد محمد البهاوي السوسي الذي كان يدرسنا مادتي التاريخ والجغرافيا في ثانوية القاضي عياض؛ فقد كان أسلوبه الهادئ في التدريس، وطريقته المنتظمة في الشرح والسرد، وحسن استخدامه للسبورة… بمثابة قوة جاذبة تشدنا إلى أجواء الدرس.
بعد نيل البكالوريا من ثانوية القاضي عياض، إلى أين كانت الوجهة؟ وكيف قضيت مرحلة الدراسة الجامعية؟ وما أبرز ذكرياتها؟
بعد حصولي على البكالوريا تابعت دراستي الجامعية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس. وقد كانت هذه الحقبة أخصب وأغنى حقبة في حياتي حيث عرفت فيها طفرة نوعية في طبيعة التجارب والعلاقات الإنسانية، وانفتاحا واسعا على آفاق جديدة أبرزها آفاق الوعي السياسي والنضال الطلابي؛ خاصة وأن مطلع السبعينات عرف أقوى الإضرابات والمظاهرات الطلابية، مما أدى إلى إغلاق الكلية خلال السنة الجامعية 1972/1973. وشكل هذا الحدث أبرز ذكرياتي الجامعية، إذ لا أنسى مداهمة قوات الأمن للحي الجامعي ليلا، واقتحامها العنيف أبواب الغرف، وأمرنا بالخروج والمغادرة بفظاظة وخشونة. وبعد إخراجنا وتجميعنا في نادي الحي، تلي علينا بلاغ إغلاق الجامعة وأمرنا بمغادرة فاس فورا على متن الحافلات التي جيء بها، والتي كانت مصطفة داخل الحي الجامعي. وهكذا وجدنا أنفسنا في طريقنا إلى ديارنا، تاركين وراءنا دراستنا وحماسنا ونشاطنا الجامعي. هذا الحدث صادف، بالنسبة لي، السنة الأخيرة من الدراسة الجامعية؛ أي سنة التخرج. وظلت المسألة معلقة والمصير مجهولا إلى أواخر السنة الدراسية حيث أذيع بلاغ يعلن عن فتح الكليات في تواريخ معينة لإجراء الامتحانات لمن شاء من الطلبة اجتيازها. ونظرا لقصر المدة الفاصلة بين البلاغ المذكور وتواريخ الامتحانات، فقد كنا نسابق الزمن ونكثف الجهود لمراجعة واستيعاب المقررات الدراسية من جهة، ولإنجاز البحث المطلوب من جهة أخرى. وشاء الله أن تكلل جهودي بالتوفيق فتخرجت من الكلية في ذات السنة الجامعية التي كانت شبه بيضاء.
أين كان أول تعيينكم في سلك التدريس؟ كيف كان شعوركم وأنتم تتسلمون قرار تعيينكم بعيدا عن مسقط الرأس؟
بعد التخرج عينت في مدينة مراكش لتدريس مادتي التربية وعلم النفس في المركز الجهوي للتكوين التربوي C.R.P.P . وهو المركز الذي كان يستقبل المعلمين المؤقتين والعرفاء قصد تكوينهم لمدة سنة، وذلك في إطار العمل على تسوية وضعيتهم الإدارية. أما الشعور الذي انتابني عند تسلمي قرار التعيين، فهو شعور من يقدم على تجربة جديدة تقتضي الالتزام وتحمل المسؤولية والكد من أجل إثبات الذات.
غدوتم ـ لاحقا ـ مفتشا تربويا. كيف عشتم هذه المرحلة؟ وما أبرز ذكرياتكم عنها؟
مرحلة مزاولة مهام التفتيش التربوي جاءت بعد سنتين من التكوين في المركز الوطني لتكوين المفتشين، وخلال هذا التكوين اغتنت مداركنا التربوية، وتفتحت على آفاق رحبة وجديدة في حقول البيداغوجيا والديداكتيك وتقنيات البحث التربوي ومفاهيم الإشراف التربوي، مما ولد لدي ولدى جميع الزملاء في التكوين، الرغبة الأكيدة في تغيير أساليب التفتيش التربوي عند مزاولة المهمة بما يخدم جانب التنشيط والتأطير التربويين، ويعطي للمراقبة التربوية بعدها الوظيفي المدعم لأداء الأستاذ ومردوديته. وبالفعل فقد عرف التفتيش التربوي بفضل أفواج المتخرجين من المركز انعطافا نوعيا بحيث لم يعد سيفا مسلطا على رقاب الأساتذة؛ بل أضحى مجنا يحميهم ويؤمن خطواتهم في مسيرة التربية والتعليم.
وأهم ذكرياتي عن هذه المرحلة تتمثل في الملتقيات التربوية التي كانت تنظم على صعيد نيابة تطوان، كملتقيات التكوين والاستئناس في التربية السكانية وملتقيات الدعم والتقوية، وغيرها من الملتقيات التي كنا نستغلها لإبراز المنحى الجديد لرسالة التفتيش التربوي، خاصة وأننا كنا نجد في المفتش المنسق الأستاذ محمد أحرميم كل التفهم والمساندة.
زامنتم لحظة إحداث أكاديميات وزارة التربية الوطنية سنة 1987م. كيف كان استقبال قرار إحداثها في صفوف المفتشين؟
إحداث الأكاديميات، كان يعني ترسيخ اللامركزية في الشأن التربوي وهذا يعني، بالنسبة للمفتشين، أولى خطوات الإصلاح في المسار التربوي. وحيث إن الجيل الجديد من المفتشين التربويين كان من أكثر العاملين في الحقل التربوي تطلعا إلى التغيير والتجديد التربويين، فقد وجد في أدبيات مشروع الأكاديميات بعض ما يستجيب لطموحاتهم.
في خضم تلك التحولات أسندت لكم عدة مهام على صعيد الأكاديمية. كيف كانت التجربة؟
بعد إحداث الأكاديميات، أسندت إلي مهمة الإشراف على إعداد مواضيع امتحانات البكالوريا في مادة اللغة العربية. لذلك شكلت فريقا من خيرة مفتشي المادة، كانوا مثالا في الجدية والالتزام والكفاءة العلمية، مما أدى إلى الارتقاء بمستوى أساليب التقويم في مادة اللغة العربية، وجعل مواضيع امتحانات البكالوريا في هذه المادة بأكاديمية تطوان تحظى بالتقدير والإعجاب في ملتقيات التقويم التي كانت تعقد على الصعيد الوطني بشكل دوري.
وفيما بعد، أسندت إلي مهمة المدير المساعد بنفس الأكاديمية. وهذه التجربة، وإن أفادتني في إثراء خبرتي في مجال الإدارة التربوية، إلا أنها كانت محبطة للهمة والعزيمة بسبب الفساد الإداري الذي استشرى في هذه الأكاديمية، وصعوبة تكيفي مع هذا الواقع الموبوء.
ساهمتم خلال ذلك في إصدار مجلة (البحث التربوي) ماذا كانت تمثل لكم تلك المبادرة؟
لعل من أهم مميزات نظام الأكاديميات، ما عرفه البحث التربوي من ثراء وتنوع، حيث كانت كل منسقية تكلف بإعداد بحوث في مواضيع محددة تطرح خلال ملتقيات التقويم المذكورة. وعندما اضطلعت بمهمة المدير المساعد بالأكاديمية، كنت أقف على هذه البحوث، فوجدت أن لها من القيمة المنهجية والمعرفية ما يجعلها قمينة بالطبع والنشر، فلمعت في ذهني فكرة إصدار مجلة تربوية تجمع بين دفتيها هذه البحوث لتصل إلى كل الفاعلين في الحقل التربوي.
تم قبول الفكرة، خاصة وأن الأكاديمية كانت تتوفر على الورق ووسائل الطبع، فانطلقت في التنفيذ ساهرا على كل العمليات المتعلقة بها، بدءا بصياغة أهدافها وتصنيف أبوابها وفصولها وتحديد شكلها الفني إلى تجميع مادتها وكتابة افتتاحيتها.. وحرصت على أن تكون هذه المجلة بوابة لإشعاع تربوي يتخطى أسوار الأكاديمية ليصل إلى كل المهتمين بالشأن التربوي داخل تراب الأكاديمية وخارجه.
انتخبكم زملاؤكم المفتشون كاتبا لفرع الجمعية المغربية لمفتشي العليم الثانوي بتطوان. كيف عشتم تلك التجربة؟
فكرة العمل الجمعوي في المجال التربوي حملتها معي من المركز الوطني لتكوين المفتشين؛ فهناك طرحت فكرة إحداث جمعية تضم المفتشين المتخرجين من المركز. وكنت ضمن المجموعة التي سهرت على صياغة قانونها الداخلي. وعندما كنا على أعتاب التخرج من المركز، سمعنا بوجود تحرك خارجي من أجل إحداث جمعية تضم مفتشي التعليم الثانوي بمختلف مشاربهم ووضعياتهم الإدارية. لذا تم الاستغناء عن الفكرة الأولى، وتحمسنا للطرح الثاني لكونه يخدم وحدة المفتشين. وفي الجمع العام التأسيسي للجمعية المغربية لمفتشي التعليم الثانوي كنت من بين الحاضرين المساهمين بمقترحاتهم، والمدلين بأصواتهم لتشكيل أول مكتب إداري لهذه الجمعية. من لحظتها وأنا ملتزم بهذه الجمعية، وفاعل فيها، فمسألة اضطلاعي بمهمة كاتب فرع الجمعية بتطوان، هي استمرار لقناعتي بجدوى هذه الجمعية، والتزامي بأهدافها، وهي أيضا محاولة لإضفاء طابعي الشخصي على نشاط فرعها بتطوان. وأعتقد أن نقل نشاط فرع الجمعية إلى المحيط الخارجي من خلال تنظيم محاضرات في المجال التربوي بتنشيط أساتذة وباحثين مختصين، في قاعات عامة، كان مجهودا شخصيا أضيف إلى جهود زملائي الآخرين الذين سهروا بدورهم على تدبير شؤون هذا النوع.
ماذا تقترحون لتطوير أداء التفتيش التربوي؟
التفتيش التربوي، عنصر فاعل ضمن مجموع العناصر الأخرى المكونة للمنظومة التربوية، وتطوير أدائه لا يمكن أن يتم دون تطوير العناصر الأخرى ودون استحضار السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلاد. لذا فإن تناول مسألة تطوير أداء المفتشين خارج السياق العام، هو تناول سطحي يندرج ضمن أدبيات ونظريات منمقة سرعان ما تسقط أوراقها عند الممارسة الميدانية.
اليوم، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه في تعليمنا بشهادة تقرير البنك الدولي المخجل والمحبط، بات من الضروري إعادة النظر في هذا القطاع الحيوي، دون الوقوع في مزالق الإصلاحات السابقة الموغلة في الطوباوية. وفي تقديري أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بالإدارة التربوية، بحيث تتم تنقيتها من شوائب الفساد العالقة بها، وإسناد المسؤوليات فيها إلى الشرفاء من ذوي الكفاءات المهنية والخصال الحميدة. كما ينبغي أن ينصب بالدرجة الأولى على قاعدة الهرم التعليمي؛ أي على المؤسسة التعليمية وعلى التلميذ بصفة خاصة، لأن هذا الأخير هو المنطلق وهو المبتغى، وهو معيار النجاح والفشل لأي منظومة تربوية، وعلى كفاءته ومردوديته تبنى تقارير المؤسسات الدولية. فهذه التقارير لا تبنى أبدا على فخامة مكاتب الوزارة، أو مكاتب مديري الأكاديميات التي أنفق عليها بإسراف مبالغ فيه على حساب بؤس المؤسسات التعليمية وافتقارها إلى أبسط الحاجات والمعدات.
إن المحك الذي تستند إليه الدراسات والتقارير الدولية لتصنيف الأمم في مجال التعليم، هو مخرجات هذا الأخير، أي المنتوج البشري ؛ أي التلميذ أولا وآخرا، ولا تستند أبدا إلى التقارير المنمقة التي يرفعها المسؤولون الجهويون إلى الوزارة ولا إلى مؤشرات الرفاهية التي تبدو على مكاتبهم الفخمة.
وإذا رجعنا إلى موقع هيأة التفتيش التربوي، فإننا سنجده في قلب المحك المعتمد المذكور؛ إذ إن دور هذه الهيأة يتمثل، أساسا، في عملية الأجرأة والتنفيذ الميداني لكل التعليمات والتوجيهات التربوية التي تحدد معالم النهج التربوي لبلوغ الأهداف المرسومة؛ فهو إذن يقوم بوظيفة الوسيط بين المرجعيات النظرية في التربية والتعليم وبين الممارسة التطبيقية، ويعمل على حماية هذه الممارسة من مزالق الانحراف عن المجرى الطبيعي الموصل إلى تحقيق الأهداف المرجوة. ولتأدية هذا الدور على الوجه السليم، يجب أن تكون أرضية العمل مشجعة وداعمة وحافزة، وأن يكون الجو التربوي العام غنيا بأكسجين التعبئة المشتركة.
ماذا تمثل لكم (المغادرة الطوعية)؟
المغادرة الطوعية، باعتبارها مبادرة قامت بها الحكومة، لا زلت إلى حد الآن لا أستطيع فهم كنهها ومراميها، مهما قيل عن خفض كتلة أجور الموظفين، لأن استغناء الدولة عن طاقات بشرية على مستوى عال من الخبرة والنضج والتخصص، وفي أوج عطائها ومردوديتها، لا يمكن فهمه أو تبريره بما وفرته الدولة من أجور، لأن ما يقدمه الأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعة والمؤطرون التربويون وأطر الإدارة والتدبير والاقتصاد من خدمات هو فوق كل توفير مادي مهما ارتفعت مؤشراته. ألا تتوقف التنمية على خدمات هذه الطاقات البشرية المتخصصة التي كلفت الدولة أموالا باهضة؟! كيف تستغني الدولة عن محصول جيد وطيب وهي من قامت بزرع بذوره؟!
أما بخصوص الدافعية إلى المغادرة الطوعية بالنسبة للموظفين، فلا أستطيع الجزم بعواملها نظرا لغياب أي دراسة استطلاعية في الموضوع. ويمكن أن أفترض أن الحاجة المادية للموظفين، وسوء التدبير الإداري وما ينجم عنه من احتقان ومشاحنات، كانا من بين أهم عوامل طلبات المغادرة.
القيمة التي تعتبرها نقطة الارتكاز في حياتك؟
عنوان القيمة التي أعتبرها نقطة الارتكاز في حياتي، هو البذل والعطاء والفوز بحب الآخرين وتقديرهم؛ فأعز ما أحتفظ به في رصيد نشاطي العلمي والمهني المتنوع من تعليم وتأطير وتدبير إداري، وإسهام في الملتقيات والندوات والمحاضرات، وتفتح على أنشطة خارجية في الإعلام والعمل الجمعوي، أعز ما أحتفظ به وأفتخر به، هو نلك الوقفة المبجلة أمام الطلبة، وهم مشدودون إلى الدرس الذي تعبت في إعداد مادته، وفي ترتيب خطواته وتحديد إجراءاته لأقدمه إليهم كباقة ورد تهز مشاعرهم وتثير إعجابهم. ولا أستطيع وصف درجة الغبطة والرضى التي كنت أحس بها عندما أغادر القسم وأنا على يقين بأن ما قدمته كان مفيدا وجيدا، وكان له وقع حسن في وجدان الطلبة.
تلك الوقفة لا يمكن تصنيفها ضمن مهام أداء الواجب المهني فقط؛ إذ فيها شيء آخر أبعد من ذلك، هو أشبه ما يكون بالسحر أو انجذاب الفراشة نحو النور، شيء لا يدرك كنهه إلا من خبر التعليم عن حب وإيمان. تلك الوقفة، إلى جانب العلاقات الإنسانية الطيبة التي اكتسبتها، والصداقات المتينة التي فزت بها، هي جوهرة حياتي المهنية التي أخبئها في شغاف قلبي.
كلمة ختامية.
“الثقافة هي ما يتبقى عندما ينسى المرء كل شيء”. هذا تعريف من بين التعاريف الكثيرة التي أطلقت على مفهوم “الثقافة”، وانطلاقا منه، فإن حياة الإنسان تمر بمراحل وأطوار متعددة، وتتخللها أعمال وأنشطة مختلفة وتتعرض لمواقف متباينة. وفي المحصلة، فإن ما يبقى منها عندما ينسى المرء كل شيء هو الجوهر وهو نقطة الارتكاز. لذا يتعين على المرء، وهو في خضم هذه الحياة، أن يعرف كيف يميز بين اللب والقشور، وبين الجوهر الذي يبقى والزيف الذي يفنى.
د. محمد محمد المعلمي