بطاقة شخصية:
* ولدت بناحية الحسيمة في 15. 10. 1946. ونشأت في مدينة الناظور التي قضيت بها طفولتي الأولى، ومنذ سنة 1958 وأنا مقيم بمدينة تطوان.
* حصلت على البكالوريا الأدبية سنة 1964 بثانوية القاضي عياض، ثم حصلت على ديبلوم اللغة العربية في يونيو 1966، وعلى الإجازة في أصول الدين في يونيو 1979، وحصلت على ديبلوم مفتش التعليم الثانوي تخصص التربية الإسلامية في يونيو 1987.
* عملت أستاذا للسلك الأول (الإعدادي)، ثم أستاذا للسلك الثاني (الثانوي)، ثم عملت مفتشا للتعليم الثانوي ومكلفا بإعداد مواضيع الامتحانات في آن واحد لموسمين دراسيين. ومنذ عام 1989 كلفت بالتنسيق الجهوي إلى أن غادرت الوظيفة العمومية في يونيو 2005 مغادرة طوعية.
التحقتم بالمدرسة في سن مبكرة. ما ذكرياتكم عن هذه المرحلة؛ وخاصة اليوم الأول في الفصل الدراسي؟
كان التحاقي بالمدرسة في سن مبكرة فعلا، حتى إني لا أذكر سوى مشاهد قليلة من ذلك الماضي السحيق. كانت مدرستي الأولى في قرية (فرخانة) المجاورة لمدينة مليلية المحتلة؛ وهي تبعد عن مدينة الناظور، حيث كانت إقامة أسرتي منذ مجيئنا إليها من الحسيمة في دجنبر 1946، بحوالي 25 كيلومترا. ويبدو أن والدي قد سئم الذهاب كل صباح إلى فرخانة والعودة منها مساء، فقرر أن نقيم فيها جميعا.
لا أذكر من يوم التحاقي بمدرستي الأولى هذه، سوى مشهد تواجدي في بهو صغير مع ثلة من التلاميذ، كنت أصغرهم سنا، ونحن نجلس جنبا إلى جنب على كنبة خشبية دون ظهر، وأمامنا سبورة مسنودة مكتوب عليها أحرف الهجاء. وأذكر أنني ضقت بمجلسي لسبب من الأسباب، فالتحقت بأخوي الكبيرين اللذين كانا على مرمى بصري في فصل مجاور، وهما يتوسطان جمعا من التلاميذ يفترشون الحصير، وبين يدي كل منهم لوح لحفظ القرآن. وحينما كنت أعود إلى البيت رفقة أخوي، كنت ألفت نظر عمال الطريق، لصغر سني أو لحسن هندامي، فيستوقفونني لأعرض عليهم بعض ما حفظت من سور القرآن الكريم.
لم يطب لنا المقام في (فرخانة) فعدنا إلى الناظور بعد عام واحد، وعاد والدي إلى رحلته اليومية بين الناظور وفرخانة.
وفي الناظور تابعت دراستي بمدرسة سيدي علي الحمام أو (مدرسة قلعية) التي كانت مدرسة حديثة، فالأقسام كثيرة ومجهزة، والمعلمون كثر مغاربة وإسبان، وقاعة واسعة للأكل بجوار مطبخ حديدي يشتغل فيه طباخون مهرة. وأذكر جيدا العناية الفائقة التي كان يتلقاها التلاميذ، من حيث الصحة العامة، وتوفير اللوازم المدرسية، وتخصيص الجوائز للمتفوقين منهم آخر السنة وفي عيد الكتاب، وتنظيم الرحلات والمسابقات الرياضية.
وإلى جانب ذلك كانت المدرسة تقدم الفطور والغداء و(العصرونة) للتلاميذ. وأذكر أن مدير المدرسة كان إسبانيا اسمه Don Manuel colera وكان كبير السن، مشهورا بصرامته وعبوسه، وكان شديد الحرص على الحضور في المدرسة في جل الأوقات، وفي جميع المرافق؛ كنت أشاهده في الساحة وفي ممرات المدرسة، وفي الفصول والإدارة والمطبخ، وعند مدخل المؤسسة، يراقب سلوك التلاميذ ويعاقب بصرامة من يخرق القوانين. ولكبر سنه كان فمه فارغا من الأسنان، وكان يصر على تذوق الطعام قبل تقديمه للتلاميذ. وحينما يكون ضمن الوجبة (حمص) كنا نلاحظه ـ نحن الصغار ـ وهو يعاني أشد المعاناة في مضغه، ويحرك فكه الأسفل بشكل مثير للضحك.
وقد تتلمذت في هذه المؤسسة على معلمين كثر كان أقربهم إلى نفسي الأستاذان العزيزان المرحومان: السيد أحمد السباعي، والسيد عبدالوهاب العمراني.
تعتبرون اليوم من قدماء تلاميذ ثانوية القاضي عياض العتيدة. ما أبرز المحطات التي عشتموها في هذه المؤسسة؟ ومن هم الأساتذة الذين نالوا إعجابكم؟ لماذا؟
في يناير 1958 انتقلت أسرتي إلى مدينة تطوان حيث الأهل جميعا، فالتحقت بمدرسة سيدي علي بركة، وتابعت دراستي بالقسم الرابع (قسم الشهادة). وبعد نجاحي التحقت بثانوية القاضي عياض، وذلك في أكتوبر من نفس السنة. ودامت دراستي بها ست سنوات، شهدت فيها الثانوية أوج ازدهارها بما كان يقام فيها من محاضرات وندوات ومسرحيات من المستوى الرفيع.
وتتلمذت خلال تلك السنوات على عدد كبير من الأساتذة، مغاربة ومصريين وإسبان وفرنسيين، إلا أن معظمهم كان من المصريين. وقد ترك كل منهم أثره في تكويني، غير أن أقربهم إلى نفسي وأحبهم إلى قلبي أستاذان هما:
الأستاذ فايز الذي كان يدرسنا التاريخ والجغرافية، وكان أنيقا يفوح بالعطر الممزوج برائحة السجائر الرفيعة التي لم تكن تفارق فمه. وكان محبوبا لدى التلاميذ لبراعته في عرض الأحداث التاريخية، وخاصة تلك المتعلقة بتاريخ المغرب في العصر الوسيط. وربما كان أكثر ما حببه إلينا، أنه كان ينهي حصته دائما بنكتة خفيفة يخرج إثرها من القسم وقد تركه مفعما بالبهجة والحبور.
والأستاذ أحمد صقر، أستاذ الأدب الذي كانت تبهرني شخصيته القوية والهادئة، وكانت تأسرني لغته الفصيحة وحسن قراءته للشعر العربي. وما زلت أذكر أنني نلت عنده أعلى ما نلت من الدرجات في مادة الإنشاء الأدبي. كما لا أنسى ملاحظاته التي شجعتني على مواصلة الاجتهاد. وكان فوق ذلك أبرز نجوم الندوات الثقافية التي كان يزهر بها مسرح القاضي عياض كل أسبوع تقريبا، إلى جانب محمد أمين وعبد السلام الهراس وعبد الله التمسماني وآخرين.
بعد الحصول على البكالوريا إلى أين كانت الوجهة؟ لماذا؟
بعد حصولي على البكالوريا، كانت وجهتي مدينة فاس حيث كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وكان وراء اختياري لمدينة فاس جملة أهداف:
أولها، أن فاس كانت في نظري ونظر الأهل مدينة العلم، وكنت آنذاك شغوفا بالعلم، حريصا على الاستزادة منه.
ثانيها، أن فاس كانت قبلة عدد من الطلبة الذين رأيتهم يحاطون بكثير من التقدير والاحترام، وكنت أرجو لنفسي الحظوة والتقدير.
ثالثها، أني أردت الخلو للدرس والتحصيل، ولا يتأتى لي ذلك إلا بالابتعاد عن التزاماتي تجاه الأهل ومواعيد الأصدقاء.
رابعها، نزوع طبيعي نحو الاستقلال وتحمل مسؤولية نفسي، بعيدا عن الرعاية الأبوية الفائقة التي كنت مشمولا بها باعتباري أصغر أفراد الأسرة.
انخرطتم في سلك التربية والتعليم في ميعة الشباب. كيف كانت العلاقة بالتلاميذ والطاقم التربوي والإداري؟
كان تحملي لمسؤولية التربية والتعليم في سن مبكرة جدا، وكان إقبالي عليها بهمة وعزيمة نادرتين. ففي أكتوبر سنة 1966 التحقت بثانوية أبي يعقوب البادسي بالحسيمة. وحينما تقدمت إلى مديرها (المرحوم أحمد أبو خالد) لم يميزني عن التلاميذ المترددين على مكاتب الإدارة لقضاء مآربهم، حتى أخبرته بصفتي، فاصطحبني إلى مكتبه حيث سلمني جدول الحصص ومقررات المستويات الدراسية المسندة إلي، ثم قدم لي وصفا موجزا وعاما للمؤسسة، وعبر عن استعداد الإدارة للتعاون معي في كل ما يعود بالنفع على التلاميذ.
وفي اليوم الثاني كنت على أتم الاستعداد للشروع في العمل، وملء جنبي الاعتزاز بالمسؤولية الملقاة على عاتقي، والإيمان المطلق بجسامة المأمورية ودورها في صنع الرجال الذين سيرفعون هامة أمتي عاليا بين الأمم.
وكانت العلاقة بيني وبين تلاميذي في الثانوية علاقة محبة واحترام، لا زلنا نذكرها جميعا كأجمل لحظات العمر. وأعتقد أن هذه العلاقة الطيبة كانت مبنية على دعائم ثابتة أذكر منها:
- حبي لعملي وإخلاصي في أدائه، وتقديري للأمانة التي أحملها.
- اجتهادي بالليل والنهار ليكون عملي متقنا، إرضاء لنفسي ولتلاميذي.
- تقديري لتلاميذي واحترامي لكرامتهم وإحاطتي إياهم بالعطف والمحبة، والتزامي الصدق والموضوعية في تقدير درجاتهم، والتمسك بالعدل والمساواة في التعامل معهم، وتجنبي للألفاظ المهينة أو النابية حتى في حالات الغضب.
- دفعهم صوب التعاون والتوادد، والاستمتاع بحياتهم المدرسية.
- حرصي الشديد على مساعدتهم من أجل الرفع من مستوياتهم عبر إعارتهم كتبا متنوعة من مكتبتي الخاصة؛ هذا فضلا عن تخصيصي لهم حصصا للدعم والتقوية خارج جدول الحصص الرسمي، وساعات لقراءة الشعر. كما كنت أشجعهم على كتابة الشعر والقصة القصيرة والخاطرة، وأدعوهم للانخراط في أنشطة أخرى مثل: المجلة الحائطية والرحلات المدرسية والخرجات الخاصة أيام العطل الأسبوعية.
أما علاقتي بالإداريين فكانت علاقة تفاهم وتعاون وانسجام، لأننا جميعا متفقون ومقتنعون بأن مدار عملنا ومركز اهتمامنا إنما هو التلميذ، فالجميع يسعى لتوفير للشروط الملائمة لتنميته وإسعاده والرفع من مستواه المعرفي والأخلاقي.
ارتقيتم ـ لاحقا ـ إلى إطار التفتيش التربوي حيث تقلدتم مختلف مهامه. كيف كانت التجربة؟ وما أبرز الخلاصات؟
تطلب انتقالي من التدريس إلى التفتيش تكوينا دام سنتين بالمركز الوطني لتكوين مفتشي التعليم بالرباط، ذلك لأن التفتيش بمهامه الكثيرة والمتنوعة يحتاج إلى التسلح بكفاءات ومهارات إضافية تتطلبها طبيعة هذه المهام وخصوصيتها.
وتجربتي في التفتيش أدع الحكم، في الحقيقة، لها أو عليها لغيري. أما من وجهة نظري، فهي تجربة موفقة؛ فقد مكنتني الزيارات الصفية من فهم أعمق لآليات العملية التعليمية وتقنياتها، كما سمحت لي بالاطلاع على تجارب الأساتذة الآخرين، والتي كانت متنوعة وقيمة جدا في بعض الأحيان.
وأحسب أني قد أفدت واستفدت، سواء من خلال زياراتي الصفية التي لم تدم طويلا، أو من خلال الأبحاث والدراسات والتقارير التركيبية التي كنت أرفعها إلى لجنة التنسيق المركزية بالرباط.
أما بالنسبة للخلاصات فأجملها في الآتي:
- أدعو إلى بناء علاقات تواصلية سليمة مع هيئة التدريس، مطبوعة بالود والتعاون والاحترام وتقدير المجهودات. وأعتقد أن ذلك سيسهل مهمة التأطير التي تفترض في المستهدفين حسن الاستعداد والقبول (الأهبة).
- ما زال الخطاب التربوي غير موحد لدى المفتشين، وتقييمهم لعمل المدرسين يختلف من مفتش لآخر مما يخلق البلبلة أثناء ممارستهم ويؤثر سلبا على مردوديتهم؛ الأمر الذي يستدعي تنظيم حلقات وجلسات دورية، بل أسبوعية لتنسيق العمل بينهم وتوضيح مفاهيم المصطلحات التربوية المتداولة وتحديد مرادهم من المدرسين، ومدارسة القضايا الكثيرة المتعلقة بالمادة وما أكثرها.
- إن عددا كبيرا من السادة المفتشين ما زالوا يفضلون العمل الانفرادي المنعزل؛ علما بأن التعاون والتشارك والتنسيق أمور ضرورية لتبادل الخبرات وتحسين فعل التفتيش، وتحقيق الفعالية المهنية المطلوبة التي من شأنها الإسهام بدورها في تحسين الأداء العلمي والتربوي للمدرسين؛ خاصة وأن قطاع التفتيش لم يستفد من أي تكوين حقيقي أثناء الخدمة على مدى عقدين أو أكثر.
عناوين كتب طالعتها وتود مطالعتها مرة أخرى.
لا بد من الإشارة في البدء إلى أن اهتمامي في المرحلة الراهنة من عمري يميل بشكل كلي تقريبا إلى الكتب الدينية. ومن ثم فإن مطالعاتي تنصب في الغالب على كتب بعض الدعاة والعلماء المسلمين.
أما الكتب التي طالعتها وأود مطالعتها من جديد، لوفرة معارفها أو تلبيتها لحاجاتي النفسية والعاطفية، أو لما أجد في قراءتها من متعة رفيعة، فهي كثيرة أرجو أن يكون في العمر بقية كافية لإعادة مطالعتها من جديد. أذكر من هذه الكتب: حضارة العرب لجوستاف لوبون/ رسالة الغفران لأبي العلاء المعري/ المنقذ من الضلال والإحياء للإمام الغزالي/ البخلاء والبيان والتبيين للجاحظ/ إيقاظ الهمم في شرح الحكم للشيخ أحمد بن عجيبة. أما كتابا (رسالة المسترشدين) للمحاسبي، و(صيد الخاطر) لابن الجوزي، إضافة إلى متن (الحكم العطائية) فقد قرأتها مرات عديدة وأصبحت اليوم لا يطيب لي النوم قبل أن أقرأ من أحدها بعض الصفحات.
من هم أقرب المفكرين إلى النفس في مجال التخصص؟
من أقرب المفكرين والعلماء إلى نفسي في مجال تخصصي أذكر سيد قطب الذي انشغلت بكتبه في بعض مراحل حياتي، فقرأت أغلبها مثل: التصوير الفني في القرآن/ الإسلام ومشكلات الحضارة/ السلام العالمي والإسلام/ معالم في الطريق. وقرأت فصولا قليلة من تفسيره، وأتمنى لو تسنح لي الفرصة لقراءته كاملا.
وكذلك الشيخ يوسف القرضاوي من خلال بعض كتبه مثل: الحلال والحرام في الإسلام/ الخصائص العامة للإسلام/ بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين…
والمفكر مالك بن نبي الذي تعرفت عليه قديما من خلال كتابين هما: مشكلة الثقافة بترجمة عبد الصبور شاهين والصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وهو أول محاولة له للكتابة بالعربية.
كيف تحس بعد انتهائك من أداء رسالتك التربوية؟
لم يكن تقاعدي مفاجأة، فقد كنت أعد له نفسي من قبل. والحق أن أي شيء لم يتغير ولله الحمد، فلقب الأستاذية ظل يلازمني، ومكانتي بين الأهل والأصدقاء والجيران لم تتغير. والحق كذلك أني سعيد بتقاعدي، مرتاح لبلوغي هذه المرحلة وأنا لا أزال أحتفظ، بفضل الله، بقدر طيب من الصحة والعافية، مرتاح لأني على يقين باستيفائي لما علي من واجبات. فقد أمضيت في العمل أربعين سنة، قضيت نصفها تقريبا في التدريس ونصفها الآخر في التفتيش، ولم أدخر جهدا في الحالتين من أجل تطوير أدائي وتحسين مردوديتي. ومن حقي بعد هذا العمر الالتزام الصارم بقوانين الوظيفة ومتطلباتها، أن أخلد إلى نفسي وأتحرر من قيودها فأقرأ ما أحب قراءته، وأستمتع بخرجاتي الرياضية في الوقت الذي أراه مناسبا، وأزور الأهل وأعود المرضى وأجلس إلى الأولاد حسب حاجاتهم وأنظم حياتي كما أحب لا كم ا يتطلب العمل مني.
وأشعر أن رسالتي قد أديتها كاملة، وفق الأحوال والظروف التي أحاطت بعملي من تاريخ تعييني إلى اليوم؛ وهي رسالة التضامن والتعاون، ورسالة الإخلاص في العمل والمعاملة، والوفاء للوطن.
د. محمد محمد المعلمي