ركب سيارة الأجرة الكبيرة فاسترسل في جدال شبه عقيم مع سائقها الشاب، كان قبل ذلك قد دخل في مفاوضات معه على الثمن لم تخل من حدة وصلا على إثرها إلى حل وسط و إلى “لا ضرر و لا ضرار”.
وقع ذلك منذ أيام خلت، لكن دفوعات السائق الشاب التي اتكأت على التهاب ثمن المحروقات في عز الصيف لم تبرح مسامعه، البارحة ليست هي اليوم، قال له، نحن بالكاد نكسب قوت يومنا إن لم نكن حاليا نتعب فقط من أجل تغطية مصاريف السيارة المرهقة، أراد بدوره أن يفحمه بما له من اطلاع على أمور الشأن العام لكي ينهي الكلام حينما ذكره بالدعم الذي تقدمه الدولة لهم، ابتسم السائق في شبه استخفاف، ففهم قصده بسرعة بديهته، لكن لم يفهم إن كان ما يسمعه من خطاب الدولة صحيحا، أم أنه يخضع ،حسب المصلحة، لتنقيص أو تضخيم، أم أن العقوق يغشي الأبصار عن كل ما فعلت وتفعله الدولة…؟ .!
فوض أمره لله، ثم هزه ارتياب؛ ربما ما يوجد بحوزته من معلومات عن واقع الحال تغيب عنه عناصر حاسمة في معادلة العلاقة بين الدولة و رعاياها، اقتنع على كل حال أنه واحد من بين طالبي الخدمة و لاحول له ولا قوة و أن الزبون ذو الحاجة في الأخير هو من يؤدي الثمن أراد أو لم يرد…
في نفس اليوم بعد عودتهم سالمين غانمين من سفر العطلة، دخل إلى محل لبيع المأكولات السريعة الخفيفة، طلب ما يريده دون نسيان أي تفصيل يتعلق بالصلصات والبهارات…، أدى ما عليه من ثمن بعدما قدمت له المؤتمنة على الصندوق الفاتورة، لم ينتبه إلى أي شيء غير عاد، أخذ الزاد الذي أعد في دقائق و رجع مستشعرا خفة أداء الواجب، كانت الوجبة لذيدة كما أفصحوا له، أخذ الفاتورة و أعلن عن الثمن، استغربوا لعلمهم الجيد بأثمنة الأكلات السريعة لأن السعر زاد، أراد أن يخفف من الاستغراب بقوله كل شيء زاد، مضيفا أن الزبون أو المستهلك هو من يؤدي الثمن أراد أم لم يرد، قطع الفاتورة تقطيعا و وضع فتاتها في القمامة مفوضا أمره إلى الله…
بعد ذلك بأيام معدودات توالت الأحداث و توالى معها علمه بقائمة الزيادات الجديدة، كان أحيانا يصل إلى سمعه و أحيانا يصيخ السمع إلى تأففات و تأوهات آلام الزيادات ليس في الأمور الكبرى التي قد يستغني عنها المرء أو هو مستغن عنها بالضرورة، وإنما في الحاجيات الصغرى الضرورية لحفظ الكرامة والاستمرار في الحياة بالنسبة للسواد الأعظم من الناس…
كان مع ذلك يحاول جاهدا أن يبقى منطقيا و أن يقرأ الوضع في شموليته بالعقل، فما يتابعه عبر وسائل الإعلام المتعددة والمتنوعة يقنعه أن ما يعيشه بلده من تضخم ليس استثناء، بل إن التهاب الأسعار في بعض بلدان المعمور ارتفع إلى حد لا يطاق، و وجد معارضة شرسة -من كثير ممن صادفهم- لهذا المنطق و الواقعية غير المنطقية على اعتبار أن واقعنا لا يشبه بأي حال من الأحوال واقع البلدان الغنية و كذا الفقيرة؛ ولا مقارنة مع وجود الفارق…فالدول الغنية تتجه سياساتها لتضريب الشركات التي حققت أضخم الأرباح لكي تتحمل جزءا من العبء في ظل ما يعانيه السوق من تضخم، كما تتجه لتخفيف العبء عن المواطن بسياسة الاستهداف من خلال دعم الفئات الهشة أو المهددة بالهشاشة أو من خلال سياسة تسقيف ثمن المحروقات و الكهرباء…أما الدول الفقيرة، فوضعها لا يحسد عليه و أزماتها متجذرة في الزمن…
و لمتابعة مستجدات الدخول الاجتماعي و ما هو رسمي في بلده كان عليه، كالعادة، أن يلتجئ يوميا إلى وسائل الإعلام العمومية؛ وهكذا فقد تابع جولة الحوار الاجتماعي الجديدة و الزيادة في أجور القطاع الخاص التي قررت في سنة 2019 و كتب لها أن تنفذ في عهد الحكومة الحالية، و تابع قبل ذلك الرفع من قطرات حصيص الترقية في الوظيفة العمومية…،و أثار انتباهه بل أرعبه أن ما بدأته حكومة عبدالإله ابن كيران في الإصلاح المقياسي العنيف للصندوق المغربي للتقاعد، ولم يكد ينشف عرقه، سيستأنف قريبا و أن بروقه تشتعل في السماوات، و أن الحجرات و المكاتب ربما ستصبح مدافن لبعض مرتاديها كما قال له يوما أحد أصدقائه متحصنا بالسخرية السوداء…
كانت المذيعة في تلك الليلة تحث الناس في النشرة الرئيسية على استعمال وسائل النقل العمومية، وخاصة “الترامواي” الذي تستفرد به لحد الآن العاصمتان، مثنية على أفضال هذه الوسيلة الكهربائية الهادئة، و كان هو يعرف أن أغلب المدن والقرى ليس لها من النقل الجماعي العمومي ما يفي بالحاجة ويقي من الحرمان أو النقل السري و الزحام..، وكان يصل في نفس الوقت إلى سمعه ما يجري في بعض الدول الجارة من نقاش عمومي حول مسؤولية المواطن المستهلك والزبون في ترشيد استهلاكه) (Sobriété énergétiqueفي الوضع الحالي لأزمة الطاقة و الماء الحالية…
وفي مساء الغد وهو يقوم بمهمة التسوق اليومي، سمع ذاك الطفل يطالب أمه أن لا تنسى شراء الياغورت المفضل لديه، حيث أخبرها البائع أن ثمنه زاد بنصف درهم، فأجابته بتهكم و استسلام: كل شيء غلا فلماذا يبقى الياغورت مستثنى، مفوضة أمرها إلى الله، ودعا بدوره الله ،جهرا، أن يسود السلم و تتوقف الحرب كما الوباء فإن طالت، لا قدر الله، ستأكل نيرانها الأخضر واليابس….
عبدالحي مفتاح