صدر كتاب “معارك الثورة الريفية” للأستاذ محمد ابن عزوز حكيم سنة 1983، عن “مؤسسة عبد الخالق الطريس للثقافة والفكر”، وذلك في ما مجموعه 308 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويعتبر الكتاب -في حدود علمنا المتواضع- أول مرجع تاريخي مغربي احتوى على جداول تفصيلية للمواجهات العسكرية التي دارت بين مجاهدي الريف والقوى الاستعمارية الإسبانية والفرنسية، وذلك خلال الفترة الممتدة من فاتح يونيو 1921 إلى يوم 23 ماي 1926. وإذا كان هذا العمل لا يسعى إلى تحليل الخصوصيات الاجتماعية، ولا إلى توضيح السياقات العامة التي أفرزت المؤسسات الإدارية والسياسية التي أنشأها الريفيون خلال ثورتهم الشهيرة، فإنه -في المقابل- يقدم معلومات إحصائية هامة عن مجمل المعارك التي جرت أثناء الثورة الريفية الكبرى بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي والتي بلغت أعدادها 575 معركة. في هذا الإطار، ركز الأستاذ ابن عزوز حكيم في تقديمه لهذه المعارك، على ضبط تاريخ وقوع كل معركة على حدى، وعلى تحديد مكان وقوعها، وعلى تتبع ملابساتها، وعلى حصر نتائجها بالنسبة للطرفين الريفي والاستعماري. وقد اعتمد في ذلك على رصيد بيبليوغرافي إسباني غزير، وأساسا على وثائق دفينة استقاها المؤلف من الربائد السرية لوزارة الدفاع الإسبانية بمدريد، ومن الربائد السرية لوزارة الخارجية الإسبانية بنفس المدينة، ومن الربائد السرية للإقامة العامة الإسبانية بتطوان في عهد الحماية، ومن الربائد السرية للقيادة العامة للجيش الإسباني بمليلية. وبفضل ذلك، نجح الأستاذ ابن عزوز حكيم في تجميع معلومات قيمة ظلت مشتتة هنا وهناك، وكذا في ترتيبها وفق تسلسل سياقاتها الكرونولوجية بشكل ساهم في سد ثغرة أساسية كانت تكتنف مجال الدراسات التاريخية الوطنية التي اهتمت بالتوثيق العلمي لوقائع الثورة الريفية.
يتوزع الكتاب بين مقدمة أوضح فيها المؤلف الأسباب التاريخية العميقة التي كانت من وراء اندلاع شرارة الحرب بالريف، وبين تسعة فصول متتالية من حيث ترتيب الوقائع وتسلسلها الزمني، إلى جانب مجموعة من الفهارس والخرائط التوضيحية. انطلق المؤلف، في الفصل الأول، من رصد وضعية منطقة الريف بعد الاستشهاد البطولي للمقاوم الشريف محمد أمزيان يوم 15 ماي من سنة 1912، حيث تشتت المقاومون وتوقفت الحرب، مما مهد المجال أمام الجيش الإسباني الغازي للقيام بعدة عمليات متتالية لاحتلال المنطقة، وذلك منذ يوم 14 أكتوبر من سنة 1913. وفي الفصل الثاني، انتقل المؤلف للتعريف ب”معارك النصر المبين” التي حققها ثوار الريف وذلك منذ اندلاع الثورة يوم فاتح يونيو من سنة 1921، بعد أن قرر زعيمها محمد بن عبد الكريم الخطابي التصدي للزحف العسكري الإسباني نحو خليج النكور انطلاقا من مدينة مليلية. وفي الفصل الثالث، انتقل المؤلف للتعريف بالمعارك التي جرت حول مدينة مليلية خلال الفترة الممتدة بين 26 يوليوز و30 شتنبر من سنة 1921. أما في الفصل الرابع، فقد اهتم الأستاذ ابن عزوز حكيم بتتبع مسار المواجهات الريفية الإسبانية التي دارت بالجبهة الشرقية والغربية من أكتوبر إلى نهاية شهر دجنبر من سنة 1921. وفي الفصل الخامس، تتبع المؤلف المعارك التي غطت سنوات 1922 و1923 و1924، في حين اهتم في الفصل السادس بتتبع ظروف فتح الجبهة الجنوبية ضد فرنسا، مع رصد المواجهات العسكرية التي غطت الفترة الممتدة من 13 أبريل إلى 30 ماي من سنة 1925. وفي نفس السياق كذلك، تابع المؤلف في الفصل السابع التوثيق لمعارك الجبهة الجنوبية، وذلك من خلال تغطية الفترة الممتدة من فاتح يونيو إلى 21 غشت من سنة 1925. أما في الفصل الثامن، فتوسع الأستاذ ابن عزوز حكيم في مقاربة ظروف إنزال القوات الإسبانية بخليج النكور وفتح الجبهة الوسطى، وذلك كنتيجة لتبلور التنسيق بين أطراف الحلف الاستعماري المناهض للثورة الريفية على مستوى جبهاتها المتعددة. وقد تتبع المؤلف -في هذا الإطار- مجموع المواجهات التي خاضها الريفيون من فاتح شتنبر من سنة 1925 إلى نهاية دجنبر من نفس السنة. أما في الفصل التاسع والأخير، فتناول المؤلف بالوصف والترتيب جل المعارك التي كانت كل الجبهات الأربع مسرحا لها خلال سنة 1926، وهي المعارك التي انتهت بالانتصار الفرنسي الإسباني وباستسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي عند نهاية شهر ماي من نفس السنة. وختم المؤلف عمله بتقديم لائحة وثائقه ومصادره ومراجعه الأساسية، كما قدم فهرسا ترتيبيا حسب التسلسل الأبجدي المغربي لكل المعارك التي ذُكرت في الكتاب مع تحديد صفحاتها، ثم قدم ترتيبا آخر للقبائل التي جرت بها المعارك وفق نفس طريقة ترتيب الفهرس الأول، إلى جانب فهرس طوبوغرافي للأماكن التي جرت بها المعارك وفهرس للخرائط المرافقة. وقد ساهمت كل هذه الفهارس في توضيح المعطيات التي يقدمها الكتاب وفي تيسير سبل الاطلاع والضبط والتدقيق بالنسبة للباحثين.
وبذلك، نجح الأستاذ محمد ابن عزوز حكيم في تقديم مادة أساسية للتوثيق لحرب الريف التحريرية، بشكل أصبحت -معه- الوقائع جلية ومتراتبة في إطار يراعي التسلسل المنطقي للأحداث التي عرفتها منطقة الريف ومعها مجموع البلاد، وذلك في إطار علاقات المغرب بالقوى الاستعمارية الفرنسية والإسبانية خلال العقود الأولى من القرن 20. ولعل من أهم ما يمكن الاستدلال به على أهمية المجهود الذي قام به المؤلف في ترتيب مواد كتابه، اعتماده -أولا- على تقارير سرية وعلى خرائط عسكرية دفينة، وحرصه -ثانيا- على تدقيق المعطيات الخاصة بالأعلام البشرية وبضبط عناصر التوطين الجغرافي، وتحديده -ثالثا- للإمكانيات البشرية والقتالية لكل طرف من الأطراف المتصارعة، واهتمامه -رابعا- بضبط التواريخ، وجمعه -خامسا- لإحصائيات دقيقة تهم خسائر أو غنائم هذا الطرف أو ذاك، وتركيزه -سادسا- على إدراج ومناقشة الروايات الإسبانية الواردة إما في التقارير السرية أو في المصنفات المطبوعة. وبذلك، ساهم الأستاذ محمد ابن عزوز حكيم في الكشف عن المعطيات الأساسية التي تشكل مداخل منهجية ومعرفية لا يمكن القفز عليها عند كل محاولات استقراء وفهم حيثيات أكبر حرب تحريرية قادها المغاربة الريفيون خلال الربع الأول من القرن 20.
أسامة الزكاري