1-3 الاحتفال بالمولد النبوي الشريف:
استلهاما لظرف الزمان والمكان؛ زمانا بمناسبة حلول شهر الربيع النبوي ذكرى مولد خير البرية سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، ومكانا حاضرة تطوان وطريقة احتفال أهلها بهذه الذكرى من خلال بعض ما كتبه مؤرخو المدينة.. وستكون هذه الحلقات الثلاث على صفحات جريدة الشمال.
نبتدئها أولا بوصف ليلة المولد بمدينة تطوان كما وصفها الفقيه محمد المرير في كتابه “النعيم المقيم في ذكرى مدارس العلم ومجالس التعليم”، ونثنيها بما ورد في كتاب: “تعظيم المنة” للناصري و”المعيار المعرب” للونشريسي كما حققها الأستاذ إسماعيل الخطيب في كتابه. ثم نختمها بالثالثة مما اجتهد فيه بعض فقهاء المغرب من تحرير المقال في أصل هذا الاحتفال، والله من وراء القصد وإليه الرجوع سبحانه والمآل.
– وصف ليلة المولد بمدينة تطوان:
انطلق فقيه تطوان ومؤرخها محمد المرير في كتابه “النعيم المقيم” بوصف ما كان عليه الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بحضرة فاس في منازلهم ومساجدهم، معتمدا على عدد من المصادر التاريخية لحاضرة فاس، ومن ذلك ما نقله صاحب “مرآة المحاسن” إذ قال: وكان الشيخ أبو المحاسن يرخص في السماع للمولد الشريف، فيجتمع لذلك عنده خلق عظيم، ويحضر أهل السماع الذين يحفظون مقطعات الشيخ أبي الحسن الششتري وما يجري مجراها، ويُحكِمون صناعة تلحينها دون آلة.. على العادة في ذلك بحضرة فاس.. معتبرا ذلك من أعظم أفراح المسلمين وأعيادهم التي للسماع فيها أصل في الشرع أصيل كما تقرَّر في محله.. وذكر كذلك أن أول من أحدث هذا الاحتفال في المغرب، أبو يعقوب المريني الذي أصدر أمره بإقامة ليلة المولد في سائر القطر المغربي، وكان ذلك أثناء القرن السادس الهجري..
ووصف صاحب “مرآة المحاسن” ما كانوا يُعدُّونه من طعام في ذلك؛ حيث يطعمون في ذلك اليوم العصيدة من سميد القمح تؤكل بالسمن والعسل وثريد الدرمك بلحم الغنم ومع كل قصعة منه صحن من عسل ليؤكل به، وكثيرا ما يزاد معه الروز مطبوخا باللبن الحليب مأكولا بالسمن والعسل حتى يعم ذلك الناس.. يصنع ذلك في اليوم الثاني عشر.. وفي سابعه أيضا.
أما في حاضرتنا تطاون فذكر محمد المرير قوله: قلت: وهذا الوصف يطابق في الجملة ما أدركنا عليه الناس في مدينتنا تطوان؛ إلا في ابتداء الحفلة، إذ كان الشأن أن يجتمع الناس في الزاوية الريسونية تحت إشراف الأشراف من أحفاد صاحب الزاوية.. وحضور كبراء أصحاب سيدي عبد السلام (ابن ريسون) أهل المعرفة بفنون الطرب وذوي الأصوات الحسان الذين كانوا يحضرون مثل هذه الحفلات مع الشيخ سيدي عبد السلام..
وأشار إلى أن ابتداء حفلة الليلة المباركة كان بعد صلاة العشاء- كما لا زالت العادة جارية به إلى الآن- فيجتمع لذلك أعيان المدينة ونبلاؤها وفقهاؤها وعلماؤها من تلقاء أنفسهم دون استدعاء حتى تمتلئ الزاوية المذكورة.
وذكر من لباس الناس وتزينهم لهذه المناسبة قوله: والناس إذ ذاك في حلة بيضاء بهية، وأحوال شائقة سنية، والكل خاشع خاضع، فرح مبتهج بمولد هذا البدر الطالع.
أما عن طريقة إحياء هذه الليلة المباركة بالمديح والسماع فقال: ثم يبتدئ أصحاب الولي سيدي عيد السلام، وفيهم العارفون بالموازين التي تُطرِب السامعين، وترِقُّ لها قلوب المحبين المخلصين، فيقع الافتتاح بأول نصاب من “همزية” البوصيري المحب الصادق التي استوعبت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أخلاقه ومعجزاته قبل مولده وبعده، بلفظ بليغ رائق، والتي مطلعها:
كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماء
أنت مصباح كل فضل فما تصدر إلا عن ضوئك الأضواء
إلى أن قال:
ليلة المولد الذي كان للدين سرور بيومه وازدهاء
فهنيئا به لآمنة الفضل الذي شرفت به حواء
ثم تمادى في وصفه ومدحه إلى أن قال:
ليس من غاية لوصفك أبغيها وللقول غاية وانتهاء
فإذا أكملوا النصاب الأول، أفاضوا في ذكر القصائد المديحية؛ منها قصيدة المحب الفاني في محبة الرسول العدناني سيدي عبد الرحيم البرعي (ولعله من أهل القرن الخامس).. والقصيدة المختارة التي كانت تنشد في تلك الليلة في هذه الزاوية هي “الهائية” التي هي في الرقة واللطافة والبلاغة ما هيه.. ومطلعها:
قل للمطي اللواتي قد طال مسراها من بعد تقبيل يمناها ويسراها
إلى أن قال:
ذاك البشير النذير المستغاث به سر النبوة في الدنيا ومعناها
هذا محمد المحمود سيرته هذا أبر بني الدنيا وأوفاها
ثم ذكر محمد المرير كيف يواصل الوالهون بحب النبي من أهالي حاضرة تطوان تلاوة القصائد والمدائح طيلة هذه الليلة المباركة فقال: ثم تستمر الليلة في إنشاد غيرها من المدائح وتذيع بمقطعات الأشعار نور شمائله الساطع اللائح، ثم يختم بـ (حضرة) الولي الصالح سيدي محمد بن علي وهي تعد من أقسام النظم الملحون، والتي مطلعها:
أنا سيدي عندي طبيب ويعالجني بدواه
ثم بعد ذلك ينتشر عقد الجمع وأهل المحبة والصدق تجري عيون أعينهم بفائض الدمع، ثم تنشر أواني الطعام في وسط الزاوية للفقراء، ويذهب بعض الخاصة إلى دار الشرفاء.. هذا ما ألفينا عليه العمل في هذه الليلة المباركة، ولم تكن تقام ليلة أخرى في غيرها.. إلى أن ظهرت طريقة الشيخ التجاني.. ثم بعدها طريقة الشيخ الكتاني، فاشتغلت كل طريقة بليلتها، وخالفت الجماعة التي كانت عليها في صفتها ووقتها.. فصارت التجانية تقيمها لسبع عشرة مضت منه أو ثمان عشرة، وهما قولان حكاهما أصحاب السير.. وصارت الكتانية تقيمها سابع ربيع الأول بناء على ما رجحه شيخهم من أتباع ما رجحه العارف بالله سيدي عبد العزيز الدباغ، ونقله عن شيخه ابن مبارك.. أما أصحاب مولاي العربي الدرقاوي وهم الذين يقال لهم (درقاوة) فإن الزاوية الحراقية لم تكن تخص تلك الليلة بشيء من الاجتماعات ولا تخالف الجماعة في شيء من ذلك، إلى أن كانت الأيام الأخيرة فصارت تلك الزاوية تقيم هذه الليلة وتحييها بالأذكار لكن مع مزجها بالمحرَّم من الأوتار.. حسبما كانت تبلغنا أخباره، ويجب على أهل العلم والدين إنكاره..
أما عن نوعية الطعام المخصص بهذه المناسبة بحاضرة تطاون فإنه يشبه ما جرت العادة عليه بفاس، يقول محمد المرير: واستعمال هذا الطعام في هذا اليوم المبارك، لم يزل عليه عملنا في مدينة تطوان، وكان قبل هذا التاريخ يعتنى به غاية الاعتناء، فيُهيأ له السميد من القمح وتعدُّ له المعالق وغيرها في الأسواق وحوانيت البقالة، كذلك تعد الأواني الكبيرة والخوابي وغيرها في كل الأسواق والقاعات بالعسل. وقد أدركنا أن هذا الطعام في هذا المولد الكريم يستعمل عادة ويعدُّ من لوازم هذا اليوم المبارك وواجباته وبه يكون الفطور عند الغني والفقير.
أما أحمد الرهوني فذكر من عادات أهالي تطوان في هذه المناسبة في كتابه: “عمدة الراوين في تاريخ تطاوين” ما يلي: إذا استهل شهر المولد النبوي على المولود فيه أفضل الصلاة والسلام، صرخ النساء كلهن بالولاول في الدور والسطوح وغيرها، ثم هاجت وماجت البلد بالنقر في الدفوف والغناء بالترحيب بشهر الحبيب، وضربت المدافع إعلاما به.. ثم تصير تتلى الأمداح النبوية والقصائد المولدية في كل ضريح وزاوية بين العشاءين، ويشتغل العلماء بتدريس “الهمزية” و”البردة” وغيرهما من كتب السير. حتى إذا كانت ليلة الثاني عشر.. أنيرت المساجد والزوايا والضرائح، وخصوصا زاوية سيدي علي ابن ريسون وسيدي عبد الله الحاج وسيدي السعيدي وسيدي علي بركة وغيرهم، واشتغل المنشدون بقراءة “الهمزية” و”البردة” وقصائد المولد والحضرات.. أما بخصوص عادات الطعام وتنظيم أوقات الاحتفال وما تؤخذ له من تدابير فقال في ذلك: وتطعم في هذه الليلة عدة أطعمة، فإذا صلي الصبح أفطر الناس على العصيدة، ثم أصبحوا في عيدهم يتزاورون ويهنئ بعضهم بعضا، وتُعطَّل جميع الحرف والصناعات والتجارات، ويستمر الحال على ذلك ثمانية أيام، وفي اليوم السابع أو الثامن يحتفل في عدة زوايا بسابع المولد..
ومن أجل تثبيت هذه العادة في الاحتفاء بالمولد النبوي، ختم الفقيه المرير حديثه عن عادات المولد النبوي مستخلصا بعض عبره فقال: وبكل حال فكل ما يفعل في هذا المولد الشريف من أنواع التعظيم والتكريم، فغايته إظهار المسرات وتكثير المبرات بوجوه مسفرة ضاحكة، وقلوب مبهجة حامدة شاكرة، مستحضرة لمحاسن خلقه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، ممتلئة بكثرة الثناء على مولانا الكريم الذي خصَّنا بطلعة هذا البدر وإشراق ضيائه ونور هدايته..
إعداد الأستاذ: منتصر الخطيب/ تطوان