(…) تتمة
- الحركة الجهادية بجبل الحبيب من التبعية لطنجة إلى التبعية لإمارة شفشاون (بعيد احتلال أصيلا إلى إخلائها 1471 – 1550م)
لم تمر سبع سنوات أو ثمان (1463 – 1471م) على المجاهد الجليل الشريف العلمي الحسن أبي جمعة رئيسا على المجاهدين بالجبل حتى استشهد، فبما أنه قوض مضاجعه في أصيلا خلال الشهور من احتلاله لها، كان لابد له من التخلص منه بطريقة أو أخرى، فأخد يكلب عليه الأعداء من بين بعض المأجورين من أهل جبل الحبيب، وحسب – صاحب مرآة المحاسن – أنه « (…) مات شهيدا قبل تمام ما شرع فيه بتدبير النصارى – دمرهم الله – مع أهل النفاق إذ ﺫاك من أهل الخروب [أهل جبل الحبيب]، وقد جاءهم في سبيل الجهاد، وبينما يتهجد بالليل في مسجد هنالك أضرموا عليه نارا، فمات رضوان الله عليه »[1]. وفي رواية أخرى أنه استشهد وفي يده بندقية سنة (876ه – 1471م) بعيد احتلال أصيلا بشهور.
فلم تمكنه الظروف التاريخية من استكمال مشروعه العسكري لبناء رباط جهادي متين بجبل الحبيب في وجه المحتل البرتغالي للثغور الشمالية.
- جبل الحبيب في مواجهة الاحتلال البرتغالي في ظل الإمارة الشفشاونية (1471م – 1550م).
باستشهاد أبي جمعة رحمه الله طويت المرحلة العسكرية الإسهامية التحريرية الاولى لجبل الحبيب تجاه ثغري سبتة والقصر الصغير، وشهورا تجاه أصيلا وطنجة، لينتقل بعدها إلى مرحلة ثانية استغرقت ثلاثا وتسعين سنة (1471- 1578م) من عمر مواجهته للوجود الايبري بالشمال الغربي المغربي، الفاصل بينهما أمور أربعة :
- سنة احتلال كل من أصيلا فطنجة عام 1471م.
- واستشهاد الحسن بن أبي جمعة العلمي الغروزمي رئيس الجهاد بجبل الحبيب مركز الجهاد الاول بالشمال الغربي المغربي والأخطر وقتها.
- وقيام الامارة الشفشاونية إثر استشهاده، وبالتالي تحول تبعية الجبل من طنجة السليبة إلى شفشاون والعمل بتعليماتها العسكرية، إد كان استشهاد أبي جمعة سببا لانتقال رئاسة الجهاد ومركزيته بالشمال الغربي المغربي بجبل الحبيب إلى رباط من رباطات شفشاون الراشدية أواخر سنة 876 ه – 1471م ليستمر شامخا إلى معركة وادي المخازن، وأحسب أن من دواعي هدا الانتقال تخوف علي بن راشد من خيانة بعض المأجورين ومحاولة الإيقاع به وبقواد الجهاد إدا ما بقي جبل الحبيب مركزا جهاديا كما كان عليه حاله مع أبي جمعة رضوان الله عليه، علاوة على قربه الجغرافي من العدو المتربص والطامح للتوسع نحو الداخل أكثر فأكثر، فكان لزاما على ابن راشد الانتقال بالمركز الجهادي إلى موقع آخر أأمن له وأحكم، وجعل جبل الحبيب وترغة رباطين جهاديين استراتجيين تابعين لشفشاون الراشدة خلفا لطنجة المحتلة، وليصبح الجبل – طوال حياة الإمارة – رباطا جهاديا استراتيجيا ضد أصيلا وطنجة المحتلتين، تنطلق من السرايا العسكرية بقيادة مقدم من مقدميه ضد أصيلا وطنجة والقصر الصغير وحتى سبتة.
- وسيزيد من توطيد المرحلة الثانية أكثر وترسيخ وجودها وتقوية مكانتها في وجه الغزو الايبري اعتلاء الدولة الوطاسية العرش المغربي وتوليتها مكانة عسكرية خاصة لمعسكر الخروب بجبل الحبيب للتصدي للغزو البرتغالي تجاه الداخل الشمالي المغربي، ومساعدته ماديا من قبل جامع القرويين وقتها وتكريم الوطاسيين لمقدمي الجبل وفرسانه تكريما كبيرا من أفراس وهدايا وأجزمة كما سبق وأن رأينا في مقالات سابقة.
بل يمكن القول أن الفصل بين المرحلتين يرجع إلى الفرق الواضح الطارئ على الحركة الجهادية بأقاليم الشمال الغربي المغربي من حيث التنظيم الذي عرفته خلال المرحلتين، حيث سينتقل جبل الحبيب في المرحلة الأولى مند احتلال سبتة 1415م فالقصر الصغير 1458م الى احتلال أصيلا فطنجة (1415 – 1471م) من رباط جهادي محلي فاعل في الحملات العسكرية المرينية مشارك في المواجهات التحريرية القبلية والإقليمية بقيادة حاكم طنجة أو رئيس مجاهدي الجبل تجاه سبتة والقصر الصغير من الوجود الايبري، إلى مرحلة جهادية ثانية (1471- 1578م) مركزا عسكريا بالشمال الغربي، لانطلاق غاراته وهجماته ضد الثغور الشمالية الخمسة المستولى عليها (سبتة، فالقصر الصغير، فأصيلا، فطنجة، فالعرائش)، وبتعاون وتنسيق بين الفينة والأخرى بين معسكرات كل من القصر الكبير، وأزجن (بالقرب من وزان)، وتطوان، وشفشاون، وترغة، انطلاقا من بتعليمات القائد الاعلى للحركة الجهادية بمعسكر جبل الحبيب أمير الإمارة الشفشاونية مدة 79 سنة، من احتلال أصيلا إلى إخلائها سنة 1550م، علاوة على 28 سنة من العهد السعدي من إخلاء البرتغاليين لأصيلا إلى معركة وادي المخازن الفاصلة بين الطرفين المغربي والبرتغالي (1550 – 1578م).
وما كان ليتأثر الجبل ويضعف بعد قيام الإمارة الشفشاونية ونقل المركز الجهادي منها إليها، وجعله رباطا من رباطاتها تابعا لنفوذها، بل أضحى أشد قوة وبسالة في وجه العدو بفضل فرسانه الشجعان ومحاربيه الجريئين، بل سيحتفظ الجبل – بقيادة الرواشد – بمكانة بارزة خلال هاته الفترة (1471 – 1550م) من تاريخ مقاومته، ليس رباطا عسكريا فقط، بل مركزا حربيا مرعبا بالشمال الغربي يعول عليه كثيرا في وجه الامتداد البرتغالي وصد هجماته وغاراته، فأضحى الجبل كان معروفا لدى الثغور المغربية المحتلة وناقلي أخبارها.
ويمكن تقسيم المرحلة العسكرية الثانية إلى أربع فترات عسكرية تاريخية مهمة حسب قيادة أمرائها الثلاث لرباط الخروب وهي : فترة علي بن راشد (1471 – 1512م)، وفترة ابنه المولى إبراهيم (1512 – 1539م)، وفترة محمد بن المولى إبراهيم (1539 – 1550م).
وأما الفترة الرابعة فتبدأ من إخلاء أصيلا، وبالتالي تبعية الجبل لأصيلا وتنفيذا للتعليمات العسكرية لعاملها عبد الوحد العروسي، وتقديم خدماته لأصيلا مدة 28 سنة ضد الوجود الايبري بباقي الثغور الشمالية المحتلة إلى حدود معركة المخازن 1578م، ليضعف الدور الهادي للجبل تجاه البرتغاليين بسدل الستار على الإمارة الشفشاونية.
- فمع الفترة الاولى : علي بن راشد سنوات (1471 – 1512م).
تصدر أحد أشهر الشرفاء العلميين الغروزميين ذكرا وأبعدهم صيتا لمهمة مواجهة الوجود البرتغالي خلفا لرئيس الحركة الجهادية بجبل الحبيب الشريف أبي جمعة، فأتم ما بدأه « (…) وقام مقامه فيما كان بسبيله من الجهاد والاستنفار له، وجمع الجموع، وتجييش الجيوش ابن عمه الأمير الجليل الفاضل الأصيل أبو الحسن علي بن موسى بن علي بن سعيد بن عبد الوهاب ابن علال ابن القطب أبي محمد عبد السلام ، فشرع في اختطاط شفشاون في العدوة الأخرى، فبنى قصبتها، وشيدها وأوطنها، ونزل الناس، فبنوا وصارت في عداد المدائن، إلى أن توفي سنة سبع عشرة وتسعمائة [917 ه – 1512م] »[2]، وحشد كتيبة من الفرسان تتبع مثله الشرفاء، ومن حصنها المنيع كان بنو راشد يوجهون إلى العدو ضرباتهم القوية، وهجماتهم المتوالية، وكانت لهم جولات موفقة في ميدان البطولة خلدت اسمهم إلى الأبد.
وبعث إليه محمد الشيخ سلطان فاس الوطاسي شرذمة من الفرسان ورماة السهام فتمكن بفضل مساعدتهم من الثبات للبرتغاليين، وكذلك استخدم جيشه هذا في إخضاع أهل الجبال واسترداد سيطرة الشرفاء. حيث إرتائ هؤلاء الشرفاء تأسيس رباط بشفشاون لجمع الفرسان من أبناء المناطق الجبلية المحيطة وتهيئتهم للغرض العسكري ذي طبيعة المقاومة أمام الزحف البرتغالي نحو الداخل.
والحق أن هده الشخصية الجهادية الفذة لعبت دورا جهاديا رياديا وقتها، حيث شن علي حروبا لا هوادة فيها على المحتل البرتغالي، ونظم الحملات الجهادية ضدهم في الثغور الشمالية، انطلاقا من رباط شفشاون، ورباط ترغة، ورباط الخروب بجبل الحبيب، إذ كان قائده الأعلى.
- تنظيمات جديدة على الحركة الجهادية بجبل الحبيب في ظل الإمارة الراشيدية عهد محمد الشيخ الملك الوطاسي الأول (1471- 1502م)
عرف الشمال الغربي المغربي تشييد مجموعة (وحدات) من الرباطات الجهادية إبان الاحتلال البرتغالي لأصيلا وطنجة، بالقصر الكبير، وتطوان، والعرائش، وأزجن، وترغة، وشفشاون، ولا يفسر ظهور هدا التكتل القبلي الجبلي في شكل مجموعات سوى الظروف الجديدة التي فرضها اتساع نفوذ الوجود البرتغالي بالمنطقة، وعمل قواد هده المدن بتكوين رباطات بالنفود الترابي التابع لهم، بإشراف عامل يعين عليه، حيث عين قائد القصر الكبير طلحة العروسي سلام سلام الغياتي عاملا على رباطي بني عروس وبني كرفط مطلع القرن الساس عشر، وعين الشيخ الزيان على قبيلة بني زكار.
ويهمنا من أقسام هاته المجموعات العسكرية (الوحدات) مجموعة شفشاون التي ضمت اليها قبائل غمارة، مضيفة اليها القبائل المستقرة على هضاب بني حسان وبني ليت وبني يدر وبني احمايد وجبل الحبيب، وقد استفاد جبل الحبيب من التنظيمات الجديدة التي طرأت على حركة الجهاد بالشمال الغربي المغربي في ظل القيادة الجهادية الشفشاونية لتصبح أراضي الجبل المقدمة الجهادية ضد أصيلا وطنجة، بل وأحيانا ضد برتغالي القصر الصغير والعرائش وسبتة.
وإن كان تكوين شفشاون – بقيادة علي بن راشد العلمي الشخصية الجهادية التي لعبت دور رياديا في هده الفترة – لهاته المراكز العسكرية البرية والبحرية – كترغة – جعل البرتغاليين يكثفون غاراتهم وحملاتهم نحو قرى بعض القبائل الشمالية، فإن قيام الإمارة الشفشاونية كان خيرا وبركة على رباط جبل الحبيب وحاميات الشمال الغربي المغربي الأخرى للقيام بمهمة الدفاع عن أنفسهم ومنع أطماع الاستعمار البرتغالي من الزحف داخل المغرب وبلوغ هدفهم باحتلاله كاملا، بل عملوا على استرجاع الثغور الشمالية المغربية المحتلة وتشديد الحصار عليها، فقد اتخذ علي بن راشد رباط الخروب[3] معسكرا هاما لانطلاق الحملات الجهادية ضد المحتل البرتغالي بأصيلا وطنجة، مما سيجعل الجبل يرتبط بصفة نهائية بقيادة شفشاون سنة 877ه – 1472م. فأضحى المركز الجهادي الجديد الناشئ خلفا لغروزيم، مما هو داخل في نطاق المرحلة الثانية للجبل للدفاع عن نفسه، وعن قبائل كل من بني عروس وبني مصور وبني يدر وبني احمايد وبني ومراس، وللوقوف في وجه المد البرتغالي وزحفه، وكانت حاميته تتكون من 40 رجلا تحت قيادة مقدم، بدأ الوجه الجديد لمقاومة الشمال الغربي المغربي خلل هده الفترة الثانية في اعتمادها على وحدة التكتل القبلي الجبلي وانتظامه في عدة مجموعات، وهي مجموعة شفشاون، والقصر الكبير، وأزجن، والعرائش، وسيعرف القصر الكبير نظام العمال مطلع القرن السادس عشر، بينما سيعرف جبل الحبيب نظام المقدمين ابتداء من 1502م كما سيأتي، كما ستعين عليه الإمارة الشفشاونية أول قائد سنة 1516م.
- أول المشاركات العسكرية المسطرة لجبل الحبيب ضد أصيلا في الكتابات البرتغالية، وﺫلك سنة 1484م.
كان على برتغالي أصيلا استتباب الأمن والسلام بالمدينة وضواحيها بقوة السلاح، فوضعت عشرات المدافع فوق أسوارها، وإلى حدود سنة 1484م « (…) لم يكن قبطان أصيلا (الكوند دو بوربا) يتوفر سوى على مائة من الخيالة »[4]، فعندما انطلقت نيران الحروب بين أصيلا وجيرانها جبل الحبيب والقصر الكبير خاصة « (…) سنة ألف وأربعمائة وأربعة وثمانين (…) كان [القبطان] يخوض بهم حروبا ضد المسلمين الدين كانوا رغم ﺫلك يهابونه لشجاعته »[5]، ورغم ﺫلك لم يمنعهم من شن هجومات على أصيلا سنة 1488م.
بل ثبتت مشاركة محاربي الجبل لتحرير طلحة العروسي قائد القصر الكبير من أسره بأصيلا بعد هجومه عليها سنة 1488م، حيث أن أعداد المجاهدين المسلمين « تكاثرت بعد أن أقبلت جموع كثيرة تم استنفارها بجبل حبيب، وبني ومراس، وبني عروس، وبني كرفط، وأهل سريف، ومن القصر الكبير… »[6].
يتبع ….(6)
هوامش :
[1] – مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، الإمام أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي الفهري (988ه – 1056م)، دراسة وتحقيق : الشريف محمد حمزة بن علي الكتاني، دار بن حزم، الطبعة الاولى للناشر 2008م، ص 344
[2] – مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، ص 344
[3] – سيضل رباط الخروب يقوم بوظيفة حماية المنطقة وقبائلها إلى أوائل القرن العشرين، وستشهد جباله معارك ضارية بين المقاومة المغربية والكتائب الاسبانية.
[4] – حوليات أصيلا، ( 1508 – 1535 ) مملكة فاس، من خلال شهادة برتغالي، تعريب الدكتور أحمد بوشرب، دار الثقافة، الطبعة الأولى 2007، الكتاب الأول، الملحق الثاني، ص 105
[5] – نفسه، الملحق الثاني، ص 105
[6] – نفسه، الملحق الثاني، ص 107 – 108
محمد أخديم