- الباطوس: الكتلة الجماهيرية المُجيشة
إن الباطوس، بالنسبة إلى الخطيب، هو الرجوع إلى عواطف المتلقي لإقناعه.
1.الهــــدف: من الإقناع إلى التطويع
إن المتلقي، في البلاغة الكلاسيكية، يؤخذ بعين الاعتبار من الناحية الإقناعية، بينما في البلاغة المتطرفة يؤخذ من ناحية أنه يجب تطويعه. ففي الحالة الأولى، يستخدم الباطوس لغاية مزدوجة: من جانب أول، خلق ظروف مناسبة للحجاج ـ ذلك أن الخطيب يروم استرضاء المتلقي، وجعله مصغيا ومهتما، ومن جانب آخر، إيجاد مقدمات للحجاج ـ فالخطيب ينطلق من آراء الجمهور ليسحبه تدريجيا إلى آرائه. أما البلاغة المتطرفة، فلا تهتم بإيجاد إطار مناسب للحجاج ولكنها تهتم بخلق متلق مناسب لتستطيع من خلاله القفز على الحجاج. إنه في العادة، يأخذ الخطيب المتلقي بعين الاعتبار فيعمل على ضبط خطابه حسبه؛ بينما هنا، يقوم على ضبط الجمهور حسب الخطاب، وتهيئته ليكون دائما مستقبلا له.
إن المتلقي لم يعد محسوبا بوصفه مواطنا يجب إقناعه وإنما أصبح مادة للتطويع. يتم محو الفكرة التي تعتبر أن الأفراد هم كائنات واعية وعقلية، وتوضع في مكانها أنهم دمىً سوف نقوم بتحريكها. فنترك مجال الفكر لمجال الفعل الذي تعتمد كفاءته دائما على الآلية في التنفيذ.
في المظاهرات الحاشدة، ذات جو هندسي، مفعم بالصوت والأنوار يكون الباطوس مشاركا. فهو مصمم بطريقة تمحو كل وعي ذهني عند الجمهور، ويؤجج العواطف البدائية لدى الإنسان. إن المتلقي، في هذه الحالة، يُحَجَّم إلى الحالة الآلية ( الروبوتية) الطيِّعة، والانفعالات المتوقعة مسبقا. «إذا تقدمتُ أمام الجمهور بحجج معقولة، لن يفهموها؛ لكن عندما أوقظ فيهم الأحاسيس التي تناسبهم، يلبون فورا الأوامر التي أعطيهم إياها. فلا وجود، إذن، للتفكير في تجمع جماهيري.»([1])
لكي يتم تطويع المتلقي يجب وضعه في حالة من التنويم المغناطيسي مناسبة للإيحاء. فهذه الحالة، كما يفسرها فرويد، تتضمن استثارة « فكرة غير مدروسة، من حيث مصدرها، في دماغ شخص آخر، لكنها تكون مقبولة تماما وكأنها قد تكونت بصفة عفوية في هذا العقل»([2]). وفي حالة الإيحاء « كل يعتقد أنه المحْدِثُ للشيء في حين أنه ليس إلا نتيجة له، ويعتقد أنه الصوت بينما هو مجرد صدى؛ كل يتوهم أنه المالك الخاص لكل ما يتقاسمه مع الآخرين».([3])
إننا نتوفر على استعداد عقلي قبلي للخضوع إلى التنويم المغناطيسي. « إن قابلية الإيحاء التنويمي توجد في حالة اليقظة، لكننا لا نأخذها بعين الاعتبار، لأن النقد والعقل يبطلانها.»([4]) وفي حالة التنويم، تكون هذه القابلية في أوجها: « يكون الخيال هو المهيمن، والانطباعات التي تصل إلى الحواس تُقبل بدون رقابة ويحولها الدماغ إلى أفعال، وأحاسيس، وحركات، وصور.»([5]) إن شخصا مُنَوَّما « يخضع كليا للأوامر التي تُعطى له ، وينفذ الأفعال التي يُطلب منه تنفيذها، ويردد الكلمات التي يُطلب منه ترديدها، دون أن يكون له أدنى شعور بما يفعل أو يقول. (…) يصبح الإنسان مجرد إنسان آلي نفساني يتحرك بتحكم خارجي.»([6])
إن ما يحصل في دماغ الحشد الجماهيري مثل الذي يحصل في دماغ الشخص المنوَّم مغناطيسيا، « تصبح كل فكرة فعلا، وتصبح كل صورة مستحضرة لديهم حقيقة، فلا يستطيعون التفريق بين العالم الحقيقي والعالم الوهمي الموحى لهم به.»([7])
2.الفعل المنعكس الشــرطي: مجتمعات الحشد الجماهيري
أ) ظهور مجتمعات الحشد الجماهيري
كيف أصبح مثل هذا الإخضاع للفعل المنعكس الشرطي ممكنا؟ ومن المحتمل أن يعود ذلك إلى هشاشة الكائن البشري التي أثارها ظهور مجتمعات الحشد الجماهيري. إن العوامل التاريخية معروفة: كالتقدم الصناعي، والإنتاج التيلوري القائم على العمل المتسلسل، والهجرة القروية، والتمدن، والتمركز الديموغرافي. لقد تم تسليط الضوء على نتائجها الاجتماعية والنفسية بشكل واضح: كالاجتثاث من الجذور، وتذويب الطوائف، وضياع القيم التقليدية، والتساوي في الشكل، والفراغ الناتج عن ذلك. وإذا أضفنا إلى كل هذا الأزمات السياسية والاقتصادية لما بعد الحرب، نفهم حينها أن الفرد قد أصبح طريدة سهلة للمفترسين الفاشيين.
ب) تحريك الجماهير
لقد ولدت الدعاية الحديثة من رحم الاكتشافات العلمية في ميدان علم النفس وعلم الاجتماع.
إن خاصية الكتلة الجماهيرية مقارنة بجميع التجمعات البشرية الأخرى يمكن ضبطها انطلاقا من مفهوم الفضاء، حيث إن تجمعا كلاسيكيا للأفراد يدبرون من خلاله فيما بينهم فضاء للتعبير، والحوار، والتعارف. بينما في الكتلة الجماهيرية يندثر الفضاء: ويبقى مجرد تلاصق لأفراد مجهولين يعيشون تواجدهم الجماعي فوق رقعة تتشارك فيها العواطف فقط. حيث لا مجال لتبادل القضايا وإنما يكون لديهم قلب ينبض بالإيقاع نفسه. كما أن الأصوات المتنافرة تفسح المجال للمشاعر المتناغمة. والكتلة الجماهيرية، في آخر الأمر، هي انصهار الذات في الوحدة الجماعية، واختصار للتنوع في الوحدة.
إن تجمعات الكتل الجماهيرية ترفع تأثيرات المحاكاة، والتطابق، وانتقال العدوى بين الكائنات. حين يغرق شخص ما وسط الجماهير تضعف مناعته النفسية ويصبح متحمسا جدا، وتهتز رجاحته، وتصبح انفعالاته سهلة الاستثارة. فيفقد شخصيته ويخضع للوضع الجماعي، ويفضل اتباع الرأي العام على أن يأخذ لنفسه فكرة مغايرة. ويصبح تقييمه غير خاضع لتفكيره الخاص ولا إلى تضارب الخطاب مع الواقع ولكنه يتبع بسلبية تفاعل الجماهير، وإن كانت غير واقعية.
كان هيتلر يستغل تأثير انتقال العدوى إلى أقصى حد: « كان حين يرجع من مشغَله الصغير، أو من المصنع الكبير حيث يحس بضآلته، كان يدخل لأول مرة في اجتماع شعبي كبير، وحين كان يرى نفسه محاطا بآلاف الأشخاص الذين يحملون نفس الفكر؛ أو، حين، كان الأمر يخص شخصا متذبذبا، كان يحس بنفسه منجذبا بقوة الإيحاء الجماعي وحماس ثلاثة أو أربعة آلاف شخص؛ ولما كان النجاح جليا وآلاف الموافقات تؤكد حسن تأسيس المذهب الجديد، فإنهم لأول مرة، يوقظون فيه شكوكا في صدقية المفاهيم القديمة، وحينها يسقط في ما نسميه التأثير العجيب للإيحاء الجماهيري. فالإرادة والمطامح، ولكن أيضا قوة آلاف الناس تتجمع في كل واحد منهم. إن الشخص الذي يدخل في اجتماع كهذا وهو متردد ومتذبذب يغادره مبتهجا: لقد أصبح عضوا في جماعة.»([8])
[1]– Hitler, cité par Hermann Rauschning, in Hitler m’adit. Confidences du Führer sur son plan de conquête du monde, traduit par Albert Lehman, Paris, dition « France », 1939, p. 251
هيتلر، ذكره هيرمان راوشنينغ، في: قال لي هيتلر. أسرار الفوهرر حول خطته لغزو العالم، ترجمه ألبير ليمان، باريس، طبعة “فرنسا”، 1939، ص. 251 .
[2]-Freud, cité par Serge Moscovici, in L’âge des foules. Un traité historique de psychologie des masses, Paris, Fayard, 1981, p. 31/ فرويد، ذكره سيرج موسكوفيتشي، في عصر الحشود. معاهدة تاريخية لسيكولوجيا الجماهير، باريس، فايار، 1981، ص. 31 .
[3]– Serge Moscovici, op. cit., p. 31 / سيرج موسكوفيتشي، مرجع مذكور، ص. 31
[4]-Ibed., p. 122 / المرجع نفسه، ص. 122
[5]– H. Bernheim, cité par Serge Moscovici, op. cit., p. 122 / هـ. بيرنهايم، ذكره سيرج موسكوفيتشي، مرجع مذكور،ص. 122
[6]– Serge Moscovici, op. cit., p. 118 et 123./سيرج موسكوفيتشي، مرجع سابق. ص. 118 و 123 .
[7]– H. Bernheim, De la suggestion, cité par Moscovici, op. cit., p. 121// هـ. بيرنهايم، الإيحاء، ذكره موسكوفيتشي، مرجع مذكور، ص. 121.
[8]– Hitler, Mein Kampf, traduit par J. Gaudefroy-Demombynes et A. Calmettes, Paris, Nouvelles Editions Latines, 1979, p. 476-477/ هيتلر، كفاحي ترجمه ج.غودفروي-دوكومبين و أ. كالميط، باريس، المنشورات اللاتينسة الجديدة، 1979، ص.476-477.
د. عبد الواحد التهامي العلمي