التعامل مع الواقع
ولأن الإديولوجية، تعرض القوانين التي تنظم حياة الناس، فهي، بطريقة ما، أكثر واقعية من الواقع نفسه. و تكون مهمة البلاغة الشمولية ضبط وتماثل الحقيقة بالإيديولوجيا، وتنبثق من شرعية الأنظمة نفسها التي تطالب بها لتبيين التوافق بين هذه وتلك، فهي تشتمل على ترسانة مهيبة من التقنيات.
أ ) الروابط الشفوية الخالصة
بداية، فهي تستعمل مفردات شفوية خالصة للربط بين الواقع والإيديولوجيا.
إن اللغة الخشبية السوفييتية على سبيل المثال، كانت تستعمل كلمة “انعكاس” reflet لعرض كل ظاهرة وكأنها إشهار لحقيقة إيديولوجية، وهكذا كان يُقال إن التنظيم السياسي كان يعكس مصالح الطبقة المسيطرة أو إن المركزية السياسية تظهر وكأنها انعكاس لوحدة اقتصادية طبيعية.([1]) واختزلت كل حقيقة إلى انعكاس للإيديولوجيا.
ب) الفصل المغلوط
إن البلاغة المتطرفة تلجأ، بعد ذلك، إلى استغلال سيء لفصل لا أساس له.
ج) إخفاء الوقائع
لا يتردد الديماغوجيون الشموليون في إخفاء الوقائع أو على العكس، في إعطاء أهمية قصوى لبعض منها، بتعميم غير مناسب. ويتخذ الإخفاء أشكالا مختلفة.
1/ فالأولى تتضمن، طبعا، إخفاء الأحداث بصفة خاصة وببساطة التي لا تندرج في إطار الإيديولوجيا: كالحوادث، والكوارث الطبيعية، والنتائج الاقتصادية السيئة، إلخ. وإذا كان الديماغوجي لا يستطيع التستر عليها بشكل تام، فإنه يقوم بالتمويه ليفرغها من محتواها القابل للانفجار. والمريح أكثر، إذن، هو إرسالها إلى المعسكر المضاد.
أمثلة:
ـ نددت صحيفة سوفييتية باحتجاز مزعوم لأشخاص سليمي العقل في مستشفيات إيطالية وأمريكية للأمراض النفسية ردّاً على الحملات التي كانت تسمُ الممارسات التي يمارسها النظام الشيوعي في هذا المجال.
ـ في سنة 1935، أثناء حملات التطهير ضد الساميين والتي شكلت فضيحة لدى الرأي العام الخارجي، عمل غيبلز Goebbels([2]) على إطلاق حملة في الصحافة الألمانية ضد اضطهاد الإنجليز للإيرلنديين الكاثوليك.
2/ قد يلجأ الديماغوجي، كذلك إلى الكذب أو الغموض. في الحالة الأولى، يثبت قليلا من الحقيقة ليدرج كثيرا من الأشياء المغلوطة([3]). وفي الحالة الثانية، سيستشهد بواقعة ثابتة لكنه سيدع المضمون غامضا لينفرد وحده بمنحه معنى ما. فمثل هذا التصريح: « إن الإنتاج قد زاد بنسبة 30% » قد يعني الكل وعكسه: فهو ليس ارتفاعا قويا إذا ما انطلقنا من الصفر، لكنه سيكون كذلك إذا كان الإنتاج مُهما من قبل.
د) التعميم المفرط
تَبْرع البلاغة الشمولية في التعميمات المفرِطة. فهي تُحَوِّلُ بعض الوقائع الدقيقة إلى إشهار لظواهر عامة. ففي أخبار عن الغرب، لا تحتفظ الصحافة السوفييتية إلا ببعض التفاصيل التهويلية ـ مثل التسريحات العمالية الضخمة، ومثل الرجل الـمُـسن الذي مات بسبب البرد، إلخ.ـ ما كان يُعَدُّ انعكاسا لحالة الدول الرأسمالية العامة. وبفضل مثل هذه التعميمات، فإن الدعاية الشمولية خلقت عالما استطاع أن ينافس العالم الواقعي.
3 .«استدلال» غير قابل للتزييف
في هذا العالم غير الواقعي ، يتحرك الخطاب دون خضوعه لإكراه العقلنة. وتتحول اللغة لدرء أي وعي بالكذبة الإيديولوجية و لجعل الاعتراض مستحيلا. فمحو الواقع وتطويع اللغة يمنحان للاستدلال طابعا غير قابل للتزييف.
- محو الواقع
يفقد الواقع قيمته الحقيقية. ذلك لما تقوم به البلاغة المتطرفة من تطويع للوقائع، بلا خجل، فتختارها، وتحرفها، وتخفيها، وتعمل على تنويع استغلالها حسب متطلبات الإيديولوجيا. فهي لا تريد أن تشرح الحقيقة ولكنها تمليها. فالدكتاتوريون يظهرون لامبالاة، بل كراهية شديدة للوقائع، وكل تصريحات هيتلر، تقريبا، تفتقر إلى حقيقة يمكن التثبت من صحتها. أما بالنسبة إلى ستالين، فإنه كان يلجأ إلى إجراء مراجعات دورية للتاريخ الروسي. وبينما كانت المحاصيل الزراعية ضعيفة جدا في أوكرانيا في عامي 1945 و 1946 ، كانت الإذاعات تصرح بأن المحصول كان جيدا، وأن الكلخوزيينkolkhoziens( الفلاحون المنتمون للتعاونيات الفلاحية في العهد السوفييتي، حيث الأرض ملك للدولة، ووسائل الإنتاج والمباني ملك للجماعة) قد قُلِّدوا بأوسمة تكريما لهم على عملهم الشاق. ويستشف من هذا أن البلاغة الشمولية تبدع روايات بقيمة الحقيقة، وكانت إحداها، وهي الأقوى، تلك التي اختلقها النازيون حول المؤامرة اليهودية العالمية.
إذا كان تبديل الواقع يخضع للهوى، فإن شروط التحقق من صحة الخطاب قد أُتلِفت. إن معيار الاستدلال، شبه الحقيقي، قد توارى خلف رواية إيديولوجية تسمح بتأكيد كل شيء، وتصبح كل حجة غير قابلة للتزييف: إنه لأمر سخيف اليوم، أن نكتفي بالادعاء بأن المستقبل سيكشف استحقاقاتها.
إن قوانين الطبيعة والتاريخ أكثر صدقا من الواقع نفسه؛ وحيث إن تطبيقها حتمي على المدى البعيد، فإن كل هزيمة وكل فشل ليسا إلا مؤقتين ومنضبطين.
لقد وجدت هذه التلاعبات بالواقع صدى لدى الجماهير المُغَرَّر بها والتي تريد الهروب من الحقيقة التي لم يتحملوا مكوناتها الفجائية أو غير المفهومة، والتي كانت تخضع نفسها للإقناع، ليس بالوقائع، وإن كانت مختلقة، وإنما لانسجام النظام الذي كانت موضوعة فيه.
- تطويع اللغة
تهدف البلاغة الشمولية إلى القضاء على كل جدال ممكن بإعادة تشكيل اللغة، وعليه، فإن تطويع الوقائع يعرض شيئا اصطناعيا. وتعمل الأنظمة الشمولية، إذن، كل ما في وسعها لتحوير اللغة بشكل يغيب تماما كل سؤال وكل تساؤل وكل شك. ننظر نموذجين أساسيْن من التطويع: التسميات وتفقير المعجم.
كانت اللغة الخشبية السوفييتية تلجأ إلى التبديل الجوهري العام، حيث تضحي بالفعل لصالح الاسم، لأن الأفعال تدرج فكرة الزمن؛ بينما اللغة الخشبية تهوى اللازمانية والضبابية، مما يبين ندرة الأفعال الزمنية فيها.
على كل، فالبنية فعل-فاعل- محمول تعبر عن حكم و تحمل بذلك على المعارضة. انتبهوا إلى هذه العبارة:« إن الرأسمالية متعددة الجنسيات قامعة للحركة التقدمية في باطاغونيا([4])»(le capitalisme multinational oppresseur du mouvement progressiste en Patagonie) والعبارة المشابهة لها:« إن الرأسمالية متعددة الجنسيات تضطهد الحركة التقدمية في باطاغونيا »(le capitalisme multinational opprime le mouvement progressiste en Patagonie)الثانية سهلة للرد/ للاعتراض عليها من الأولى التي تأتي فيها الفكرة ملتصقة باسم الموصوف، والمحمول محتجَز في المادة الاسمية والعبارة منغلقة على نفسها. ويقود التبديل الجوهري إلى خلق كتلِ كلماتٍ جامدة لا تتجزأ تفرض نفسها وكأنها إلزامية/(حتمية)، تعمل على إخفاء فكرة المعنى المبني، وبذلك يكون القصد في غير متناول لعبة العقل والمعارضة/ المناقضة. إن هذا الخطاب المنغلق، والمتمرس وراء معناه المفروض، يحظُر كل إجابة و كل تبادل.
يمكن دراسة إفقار المفردات اللغوية من خلال الإنْغْسوك ( لغة أقيانيا)، الدولة الشمولية التي وصفها أورويلOrwell في روايته التوقعية 1984. حيث أُبدِعت مفردات التحدث الجديد (Newspeak )، من كلمات مختزَلة و اختصارات.
تقوم الإنغسوك بتكوين كلمات جديدة néologismes بتزاوج كلمات أو مقاطع من كلمات معروفة good think (pensée orthodoxe)( تفكير قويم/مستقيم) وتعطي goodthinker–erbon penseur : (مفكر جيد)،-ed : bonne pensée ( فُكِّر جيدا)، -wise : bon pensant (يفكَّر بشكل جيد). تهدف هذه الكلمات المُولَّدة إلى مسح سلسلة من المفردات و حصر/ إيقاف التفكير. مثلا crimethink(pensée crime)(تفكير إجرامي) تغطي كل المفردات المرتبة تحت مفاهيم الحرية والمساواة والحقوق الفردية؛ Oldthink: (تفكير قديم) يعبر ويمسح كل المفردات التي تستدعى التفكير العقلاني والهادف؛Ownlife(égovie) : (حياة الأنا) تعمل الشيء نفسه مع كل ما يعني الفردانية والبعد عن المركزية.
إن كل منظمة أو معهد أو مذهب أصبح معلوما/ موصوفا بكلمة سهلة النطق، ومكونة من عدد صغير من المقاطع التذكيرية/الاستحضارية. مثال: télédepتيليديپ لـِ مصلحة البرامج المتلفزة (le département des programmes télévisés).
إن الاختصارات لا توظف ربحا للوقت فقط، وإنما هي أداة للسلطة: باختصار الكلمة، نمحو جل التجميعات التي يوَلِّدها ليجمد معناها. والاختزال يقلص ما يصفه إلى واقع واسع النطاق، لا جدال فيه، وقمعي في أساسه. وباختصار، فإن الفكر يهجر الخطاب. يصبح كل شيء محددا، ولا يبقى ما يُفكَّر فيه. وتحافظ الكلمة على نفسها بنفسها، «تلف الأشياء على هواها إلى ما لا نهاية»([5]) وبما أنها لم تخضع لقياس التفكير، فإنها تنتفخ وتتضخم إلى ما لا نهاية. فيتولَّد باتوس لزِج.
[1]– Exemple cité par Françoise Thom, La langue de bois, Paris, Julliard, 1987, p. 41
– مثال ذكرته فرانسواز طوم، لغة الخشب، باريس، جوليار، 1987، ص. 41.
[2]– Joseph Paul Goebbels (1897-1945). Homme politique allemand. Ministre de la Propagande de l’Allemagne nazie.جوزيف بول غيبلز (1897-1945) سياسي ألماني، وزير الدعاية لألمانيا النازية
[3]– CF. l’annexe au chap.8 sur les paralogismes = ذكر في ملحق الفصل 8 حول القياسات المغالِطة
[4]Patagonie- باطاغونيا = منطقة تقع جنوبي أمريكا الجنوبية تتقاسمها الشيلي والأرجنتين، مساحتها 800.000 كلم2
[5]– Françoise Thom, La langue de bois, op. cit., p. 56/ فرانسواز طوم، اللغة الخشبية، مرجع سابق، ص. 56
د. عبد الواحد التهامي العلمي