شكل تراث فقه النوازل مجالا أثيرا للمؤرخين في سعيهم للبحث في تفاصيل تحولات الواقع، وأشكال تدبير هذه التحولات، وطرق الحرص الجماعي على القبض بطرفي الخيط الناظم للانسجام الضروري بين واقع الحال من جهة ، وبين مقتضيات الشريعة الإسلامية من جهة ثانية. والحقيقة، إن الانفتاح على التراث النوازلي يعود إلى الجهد الكبير الذي قام به رواد الاستكشاف العلمي الكولونيالي لبلادنا، من خلال توجيههم الانتباه نحو ذخائر هذا المنجم الوثائقي الذي لا ينضب، ومن خلال حرصهم على تجميع متون الفتاوى وتحقيقها وتنظيم الاشتغال عليها. ويمكن أن نشير في هذا الباب –على سبيل المثال لا الحصر- إلى الذخائر الهائلة التي نشرها مؤرخو الاستعمار مثلما هو الحال مع هنري دي كاستري وميشو بلير وليفي بروفنصال،… مما نجد آثاره الباقية في دوريات النصف الأول من القرن الماضي، مثل “مجلة العالم الإسلامي”، و”هسبريس”، و”الأرشيفات المغربية”،…
لم يكن الانشغال بنفض الغبار عن التراث النوازلي هاجسا كولونياليا فحسب، لكنه كان مغربيا كذلك، من خلال التصانيف العديدة التي خلفها رواد القرون الماضية، الأمر الذي تعزز بعد حصول البلاد على الاستقلال، مع أعمال مؤرخي المغرب المعاصر الذين انفتحوا على الموضوع، بعد أن أعادوا تثمين قيمه المعرفية والعلمية والتاريخية، تحقيقا للمتون، وتجديدا للقراءات، وتوظيفا لمناهج البحث الكوديكولوجي، واستثمارا للنتائج العامة في الدراسات القطاعية والمونوغرافية المتخصصة، مثلما هو الحال مع أعمال الأساتذة أحمد التوفيق، ومحمد المنوني، ومحمد حجي،… ولم يكتف الباحثون والمؤرخون المغاربة، بربط عطاء هذا الحقل بالمركز وبهواجس السلطة، بل انتقلوا إلى الأقاصي وإلى الهامش، حيث الإيقاع العميق لنبض الحياة اليومية، وحيث يعيش المجتمع إيقاعه الاعتيادي في تساكن بين عقائد الناس وبين أشكال تطويعهم لحاجياتهم الملحة في تدبير العلاقات المتداخلة، فيما بينهم، وفيما بينهم وبين محيطهم، وفيما بينهم وبين سكينتهم الروحية المؤطرة بمقتضيات الشريعة الإسلامية.
في إطار الانفتاح على هذا التوجه العلمي الأصيل، يندرج صدور كتاب “من التراث النوازلي بالقصر الكبير وباديته: جواب عن مسألة العقوبة بالمال عند تعذر استيفاء الحدود الشرعية” للفقيه أبي حامد محمد العربي بن يوسف الفاسي المتوفى سنة 1052ه، بتقديم وتحقيق للدكتور سلمان الصمدي، وذلك ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير سنة 2021، في ما مجموعه 79 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول، إن نشر العمل الأصلي للكتاب، وتعميم تداوله بين الباحثين والمؤرخين، يشكل إضافة هامة لجهود توسيع المظان التاريخية الخاصة بمرحلة انتقال تاريخي حاسم عرفه المغرب في سياق تداعيات وفاة السلطان أحمد المنصور السعدي سنة 1603م وانفجار صراع مدمر بين أبنائه زيدان وأبي فارس ومحمد الشيخ المامون، وهو الصراع الذي أدخل البلاد في جو من الفوضى والاضطراب وانعدام الأمن وغياب الاستقرار وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بانتشار الغلاء والجوع والجفاف والكوارث الطبيعية، وهي الأزمة التي عبر عنها المؤرخ أحمد بوشرب بأسلوب دقيق عندما وصفها ب”أزمة ضمير المجتمع المغربي” خلال العصر الحديث.
من مظاهر هذه الأزمة، توجه المجتمع نحو إيجاد حلول لتدبير معاشه اليومي في ظل حالة الفوضى العارمة والسقوط المدوي للسلطة المركزية، في خطوة لتجاوز سلط المركز المادية والرمزية والتدبيرية. وقد حددت الفتوى موضوع هذا التأليف، نوعية الرؤى المحلية التي أضحت تتجاوز المركز ونخبه، وتبحث لنفسها عن أشكال تجاوز منغلقات واقعها المعيش. يقول السؤال موضوع الفتوى: “المسؤول من ساداتنا أئمة المسلمين، أعلام الملة والدين، أبقاهم الله تعالى، والتوفيق إلى نهج الصواب في مواقع الاضطراب يحدوهم، ونور الهداية في البداية والنهاية يصحبهم ولا يعدوهم، الجواب عن مسألة دعت الضرورة إليها، ووقفت الاستطاعة في المصالح العامة عليها، وهي أن القبائل في هذا الزمان –الذي لا سلطان فيه- ركبت رؤوسها، وعظم فسادها، ومن قطع منهم طريقا، أو نهب مالا، أو غير ذلك من أنواع الفساد، لا يمكن زجره –إن أمكن- إلا بالعقوبة في البدن، تعرض لوقوع ما هو أنكر وأعظم، فهل ترتكب العقوبة المالية للضرورة أو لا؟ جوابا شافيا، ولكم الأجر، فقد مست الحاجة إلى تعرف الوجه في ذلك، والله يديم الانتفاع بكم على العموم، ويبقيكم مصابيح يهتدى بها في مشكلات المعلوم والمفهوم، آمين” (ص. 29).
وبغض النظر عن البعد الشرعي الفقهي المحدد لمضامين الكتاب، فالمؤكد أن الأمر يتعلق بشهادة تاريخية عن مرحلة معينة بمنطقة شمال غرب المغرب، بعد استفحال الأزمات البنيوية للدولة السعدية وتفكك أوصالها. ترصد الفتوى انعكاسات الأزمة على واقع قبائل منطقة الهبط، إلى جانب المهام المحورية التي أضحت لنخب الجهات والأقاصي في تأطير الحياة المحلية بعد انهيار سلطة المخزن المركزي. وبهذه الصفة، ينتقل الكتاب من مستوى النقاش الفقهي التخصصي، إلى مستوى التحول إلى مصدر للتوثيق لظواهر مجتمعية ظلت منفلتة من بين متون الإسطوغرافيات التاريخية التقليدية. وتترسخ القيمة المعرفية لهذا المنحى، إذا استحضرنا النفس التنقيبي الذي نهجه المؤلف في بناء فتواه، خاصة مع انفتاحه على تآليف عصره في مجالاتها المتنوعة، مثل المتون الفقهية وشروحها، وكتب الأحكام السلطانية، وكتب النوازل والقضاء، وكتب السنة النبوية، وكتب أصول الدين والعقائد، وكتب التاريخ، وكتب المناقب، وتآليف الفتاوى،…
ونضيف إلى كل ذلك، أن قيمة الكتاب ترتبط بالجهد الذي بذله الأستاذ سلمان الصمدي في العملية المركبة للتحقيق. ولا شك أن هذا الجهد قد تطلب الكثير من الصبر ومن الأناة لفك منغلقات النص وفق رؤية علمية منهجية دقيقة، حدد الأستاذ الصمدي معالمها عندما قال: “كان من طريقتي في تحقيق الجواب: إقامة نصه وتصحيح حروفه اعتمادا على النسخة (ح)، ثم مقابلتها بسائر النسخ، وإثبات الفروق المؤثرة في الهوامش، ثم تنظيم النص بتفقيره، وتحليته بعلامات الترقيم،… ثم تخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار، وتوثيق النقول،… والتعريف ببعض الأعلام محيلا على مظان تراجمهم… جاعلا قصدي الأول سلامة النص وجودته، ثم قدمت للجواب بمقدمة ضمنتها الإطار التاريخي الذي ورد فيه الجواب، وحديثا هن أهميته، ومن تناول موضوعه سوى المؤلف، ووصفا للنسخ…” (ص ص. 16-17).
وبذلك، نجح الأستاذ سلمان الصمدي في تقديم نص ثري، بلغة راقية، وبمضامين مفيدة، وبمنهجية علمية أصيلة تساهم في الكشف عن إحدى المتون المرجعية في دراسة أوضاع قبائل الهبط بشمال المغرب خلال العصر الحديث. وفي ذلك تعزيز للجهد الأكاديمي الوطني المشتغل على التراث النوازلي وعلى آفاقه العلمية الرحبة والممتدة.
أسامة الزكاري