توطئة:
من ذكريات الكاتب المشرقة ما كان يعيشه في حجرات الدروس من “أعراس”؛ أعراس يحييها تلامذته الذين ألحقوه بعالمهم، وجعلوا منه فردا من فرقتهم؛ يكتب كلماتهم، ويلحن أغانيهم؛ فيطربون، ويطرب لطربهم.
إنها الأعراس؛ “أعراس في حجرة الدروس”، وقد سطرت في “أوراق من ذكريات مشرقة” بعد أن اختيرت هذه الأخيرة بعناية من حياة الكاتب المهنية والشخصية؛ إنها ذكريات خطت وصفا، ورسمت تصويرا، وحكيت سردا؛ فتولد عن ذلك كله نص سردي احتفى فيه صاحبه بالجميل من الفضاءات، والنبيل من القيم، والمتين من الصداقات.
هذه الإضمامة من الأوراق لم تجمع، فقط، لتوثيق لحظات حميمة خوفا عليها من الامحاء والاندثار والنسيان، وإنما كذلك للدفاع عن تجربة وأسلوب في التربية والتعليم آمن به الكاتب/المدرس ــ وكثير من المدرسين ــ ومارسه وناضل من أجله. ولهذا جعل الكاتب من هؤلاء الأبطال ــ في شخصه ــ أمثالا تضرب في البذل والعطاء والتضحية.
الكاتب في سطور:
- الحبيب الدراوي عبد السلام إطار تربوي من مواليد 1947.
- تابع دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية بمدينة طنجة.
- والتحق بالمدرسة العليا للأساتذة (فرع فاس) سنة 1968؛ وتخرج منها أستاذا للأدب العربي عام 1972 حيث درس بالمدرسة العمومية ثم الخاصة بكل من تمارة والمضيق وتطوان إلى حدود سنة 2014.
- من إنتاجاته: أعراس في حجرة الدروس “أوراق من ذكريات مشرقة”، مطبعة الحمامة، تطوان، ط. مارس 2021.
عتبات النص:
قبل استكشاف المؤلف المعنون بـ”أعراس في حجرة الدروس” بناء ومحتوى، نشير إلى عتباته المحددة في العناصر التالية: العنوان الرئيس، والعنوان الفرعي، واسم الكاتب، وصورة الغلاف، والإهداء، والتوطئة.
ولا شك في أن هذه العتبات قد اختيرت لتصلنا بفصول هذا النص السردي، والتي سماها الكاتب “أوراقا”. فإذا كان العنوان الرئيس هو المؤشر الدال على محتويات هذا النص، فإن للعنوان الفرعي وظيفتين: الأولى توضيحية تكشف عن دلالات “الأعراس” إذ تحيل إلى الأنشطة التي كانت تقام في الفصل الدراسي، وما يترتب عليها من شعور بالفرحة والانشراح. ولقد استحالت تلك “الأعراس” إلى “ذكريات مشرقة”؛ علما بأن هناك مرادفات كثيرة تفيد معنى “الإشراق” من قبيل “الجميلة” و”السارة”. غير أن استعمال الكاتب لكلمة “مشرقة” اختيار بلاغي لكونها تتضمن المعاني السابقة (الجمال، السرور…)، وتتجاوزها إلى معنى آخر هو “الإضاءة” أو “الإنارة”. ف”الذكريات” التي يتحدث عنها الكاتب جميلة وسارة، إضافة إلى كونها “مضيئة” و”منيرة” للطريق التي سلكها الكاتب وهو يقود تلامذته من المهد إلى اللحد. وهو المعنى الذي تفيده كلمة “مشرقة” في سياقات كثيرة كقول الكاتب: «وهكذا تحول عيد ميلادي الثالث والسبعون إلى أنوار مشرقة، وشموع متوهجة انارت ليلتي…»[i].
والوظيفة الثانية تجنيسية إذ تنتمي “الأعراس” إلى “الذكريات”، والتي تشير ــ بدورها ــ إلى أدب شخصي نسميه “مذكرات”. ولم يكشف الكاتب من هذه الذكريات إلا عن المشرق منها لأسباب شخصية أو جمالية أو بيداغوجية أو إيديولوجية.
لقد أصر الكاتب على أن يتقاسم ذكرياته في الفصول الدراسية مع غيره؛ فلمن أهدى ذكرياته؟ ولمن حكاها؟
يقول الكاتب في “إهدائه”: «إلى كل من يشعل شمعة يضيء بنورها نفق العابرات والعابرين. إلى كل من يحمل فكرة يحاول أن يهد بها جدران الاستعباد والظلام..»[ii].
لقد أرسل الكاتب أوراقه إلى صنف من المتلقين خاص، ممن يناضلون من أجل الحرية والنور، ويحاربون الاستعباد والظلام، داعيا إياهم إلى أن يشاركوه في أعراسه؛ ولهذا خصهم في توطئته بنداء خاص سنبثه مباشرة في “التوقيت” والسياق المناسبين.
ومن أجل أن يفصل ما أورده في إهدائه مجملا، فإن الكاتب أتبع الإهداء بتوطئة خصصها للمتعلمين والمدرسين؛ وفيها تصوير جميل لدنيا المتعلمين: فهم البحر الزاخر، والخضم العظيم، واليم المتلاطم «فمن يجرؤ على الخوض في أعماقه… [؟]»[iii] من المدرسين إذا لم يكن الواحد منهم سباحا ماهرا يعلم علم اليقين أنه «يسبح في خضم عميق مضطرب قد يُغرق أمهر السباحين»[iv].
إن “التوطئة” التي صدر بها الكاتب نصه السردي هي، في نظرنا، بمثابة “البيان التربوي” الذي أفصح فيه الكاتب عن مشروعه البيداغوجي، والذي يأمل أن ينخرط المدرسون الجدد فيه، ويشاركوا في إنجازه بعدما اقتنع ــ من خلال تجربته الخاصة ــ بنجاعته وبقابليته للتطبيق.
ولن تكتمل الصورة، صورة العتبات إلا بالصورة الأخرى، صورة الغلاف. وهي الصورة التي تتقاسمها زرقتان: زرقة السماء، وزرقة ماء البحر؛ فإلى أعلى الصورة صعد العنوانان طباقا؛ بينما اختار الكاتب أن يتموقع ــ باسمه ــ في مكان استراتيجي، في أسفل الصفحة يسارا؛ وكأني بالكاتب يقف هناك، على شاطئ البحر ليتأمله بعد أن هدأ، وخرج منه سالما؛ فقد أدى الكاتب/المدرس مهمته بكل مسؤولية وتفان، وأصبح جديرا بأن يقف على الشاطئ، ويستمتع بسحره: زرقته ونوارسه وأفقه الممتد. إنه البحر الذي يذكره بعالم التلاميذ الساحر الزاخر «فعالم التلاميذ بحر زاخر، يجد فيه الغواص ما يغنيه ويكفيه من اللؤلؤ والمرجان»[v].
بناء النص: من المكونات إلى المضامين
اختار الكاتب، انطلاقا من منظوره الفني الخاص أن يجعل نصه السردي موزعا بين ثماني أوراق؛ وهي بمثابة الفصول التي تكونت منها مذكراته؛ ومجمل الأوراق يغطي مسيره التعليمي الذي امتد لاثنتين وأربعين سنة قضاها الكاتب ــ كما قال ــ في معترك حجرات الدرس[vi]. والملاحظ أن الكاتب وضع لكل ورقة عنوانا خاصا؛ وأغلب العناوين يحيل إلى فضاء من الفضاءات (إعدادية الغزالي، دار الشباب)، أو إلى قيمة من القيم (حب، وفاء)؛ أو إلى علامة من علاماتها (شمعة).
ضم الكاتب أوراقه محتفيا، وصفا وتصويرا، بمكوناتها الأساس: الشخصيات والأحداث والفضاءات؛ عوالم ثلاثة يتنقل الكاتب فيها من سحر التلاميذ إلى إشراق الأحداث مرورا بجمال الفضاءات: فضاء تمارة (إعدادية الغزالي ـ دار الشباب)، وفضاء المضيق (إعدادية ابن بطوطة)، وفضاء تطوان (المدارس الخاصة). فضاءات تتحول بين أنامل الكاتب إلى بساتين، والتلاميذ إلى أزهار وورود[vii].
أما الأحداث فلقد ترك الكاتب في كل محطة من مسيرته كلمة وبصمة: «اعترف لي بعض الآباء في أحاديثهم معي بأن أبناءهم تغيروا كثيرا»[viii]؛
أو أفصح عن لومة: «في فترة الاستراحة، قصدت الحارس العام، وبادرته قائلا: أنا من طلبت منهم عدم الوقوف… انت أحرجتني أمام تلامذتي… تجاهلتني وكأنني غير موجود، وكأني لست أستاذا لهؤلاء التلاميذ ومربيا ومرشدا لهم»؛
أو انتابته رجفة: «الرجفة الأولى حدثت لي حين تلقيت رسالة من إحدى تلميذاتي التي انتقلت إلى الثانوي… كيف جرؤوا عليها؟ وهي التلميذة التي كنت أخجل من معاتبتها، أو انتقادها لوقارها وسمو ونبل أخلاقها ورهافة حسها! جرحي عميق، قد يندمل يوما ولكنه لن يشفى!»[ix]؛
أو صدرت عنه ردة «قبل أن أنهي سنتي الثالثة بقليل … دعاني إليه صاحب المؤسسة، ونقل إلي ما ورد إليه على لسان أحد الآباء. يقول هذا الأب إني أهمل دروس القواعد، ولا أوليها أهمية!… هذه الواقعة جعلتني أقرر عدم العودة إلى هذه المؤسسة…»[x].
وفي كل المحطات والمراحل كان الكاتب يحرص على أن يوطد علاقته بالتلاميذ داخل فضاء المؤسسة التعليمية وخارجه. كما كان يسعى إلى أن تكون علاقته بزملائه من المدرسين والإداريين متوازنة «كانت علاقتي بزملائي الأساتذة والإداريين ممتازة… لم يفرقنا لا مذهب إيديولوجي، ولا انتماء حزبي أو نقابي… اشتركنا في تنظيم أنشطة ثقافية ورياضية واجتماعية»[xi]. أما أولياء أمور التلاميذ فقد أصبحوا من أصدقائه؛ أحبوه بصدق، وأظلوه بإنسانيتهم ونبل مشاعرهم[xii]. كما انخرط في العمل الجمعوي، وازدادت علاقته ببعض الجمعيات ــ مع توالي الأيام ــ تشعبا و”خصوبة”[xiii].
[i] ــ أعراس في حجرة الدروس “أوراق من ذكريات مشرقة”، الحبيب الدراوي عبد السلام، مطبعة الحمامة، تطوان، ط. مارس 2021، ص 86.
[ii] ــ نفسه، الإهداء.
[iii] ــ نفسه، التوطئة.
[iv] ــ نفسه، التوطئة.
[v] ــ نفسه، التوطئة.
[vi] ــ نفسه، ص 1.
[vii] ــ نفسه، ص 85.
[viii] ــ نفسه، ص 24.
[ix] ــ نفسه، ص 54 ــ 55.
[x] ــ نفسه، ص 67 ــ 68.
[xi] ــ نفسه، ص 9.
[xii] ــ نفسه، ص 21.
[xiii] ــ نفسه، ص 31.
(يتبع)
د. جسن بنيذاف