علاقة أبي القاسم العزفي مع دولة الموحدين في المغرب:
كان أبو القاسم العزفي يولي احتراما كبيرا للموحدين لهذا نجد الخليفة الموحدي عمر المرتضى في إحدى رسائله الديوانية الموجهة الى أبي القاسم يحليه فيها بقوله :”…وإنا كتبناه إليكم ،كتب الله لكم أحمد عاقبة وأجملها ،وأكنف كلاءة وأكلأها،وأن تعلموا أنا نعتد بولائكم الخالص،ونحفظ مالكم ولسانكم من السوابق والخصائص ،ونشكر نصائحكم التي مازلتم إياها تبذلون،وخدمتكم التي توالون وتصلون ،ونستمد منكم العلم الذي أنتم له مخلصون،والدين الذي على سنته القويم لاتعدلون ، والله يتولاكم بحفظه وصونه،ويجزل حظكم هذا بإنجاده وعونه”.
نستخلص من هذا النص أن أبا القاسم العزفي اتصف بصفات حميدة لدى الخليفة الموحدي “المرتضى”منها :ولاؤه وطاعته له، ثم إخلاصه للعلم ،وإقامته للعدل ،وفي نظرنا أن هذه الصفات هي التي حفظت له البقاء والوجود مدة من الزمن على رئاسة مدينة سبتة.وفي سنة 655هـ/1255م غدر القطراني بالموحدين وانحاز إلى المرينيين وساعد الأمير أبا يحيى بن عبد الحق المريني على دخول سجلماسة واحتلالها والقبض على واليها ،مقابل تعيينه واليا عليها ،وقد نفذ الأمير أبو يحيى وعده وعينه واليا وجعل معه شخصا من بني مرين مع جملة من الفرسان والرجال، ولكن يعد أن تعاظم أمره وكثر أتباعه وازدادت قوته،وجاء خبر موت الأمير أبي يحيى المريني سنة 656هـ/1256م،ثار القطراني على الدولة المرينية واستبد بسجلماسة وفي الوقت نفسه ،خاطب المرتضى الموحدي معتذرا له عما بدا منه من انحياز لبني مرين،ومتقدما له بطاعته وولائه لدولة الموحدين بشرط استقلاله في سجلماسة فوافقه المرتضى وأرسل له الفقيه أبا عمر بن حجاج قاضيا،وجمعا كبيرا من جنده،وسيدا من الموحدين يسكن في سجلماسة من غير استبداد. وقد استقبل القطراني القاضي ابن حجاج والجند ،وصرف السيد ومن كان معه من الموحدين ،وكان قد اتفق المرتضى مع القاضي ابن حجاج وقائد الجند على قتل القطراني بالحيلة،وقد تمكن قائد الجند من قتله ن وعندما هدأت أوضاع سجلماسة واستقرت ،كتب المرتضى بخبر القضاء على القطراني إلى أبي القاسم العزفي.
وفي سنة 658هـ/1258م،بعث الرئيس أبو القاسم العزفي برسالة إلى الخليفة الموحدي المرتضى ،وأهالي السواحل ،يحذرهم فيها من الاستعدادات البحرية لنصارى قشتالة وملكهم في وادي اشبيلية بهدف احتلال مدينة سلا،فمن صدق بتحذير العزفي خرج من المدينة،ومن تأخر ولم يصدق به قتل أو أسر بعد أن تمكن نصارى قشتالة من مداهمة المدينة والاستيلاء عليها،حيث قتلوا من وجدوا فيها من الرجال،وأسروا النساء والأطفال ،وخربوا المساجد والديار،وبعد أن وقع ما حذر منه العزفي ،وجه الخليفة الموحدي المرتضى كتابا إليه يشكره فيه على تحذيره من أمر النصارى،ويسأله أن يكون متيقظا من غدرهم ، وهذا بعض من فصول كتابه:
“وإنا كتبناه إليكم – كتب الله لكم أحمد عاقبة وأجملها وأكنف كلاءة وأكلأها ،وأن تعلموا أنا نعتد بولائكم الخالص،ونحفظ مالكم ولسلفكم من السوابق…وقد طرأ في مدينة سلا جبرها الله سبحانه واستنقذها ما قد اتصل بكم مما كنتم أبدا منه تحذرون وبه لعلمكم بزيادة العدو تنذرون…ووقع المحذور …وهو سبحانه يكافئ سعيكم على ما عرفتهم وحذرتهم لأهل السواحل وخوفتهم من فجأة العدو والمخاتل…وإنا لنشكر لكم ذلكم…”.
وأرسل أيضا الخليفة المرتضى كتاب شكر إلى الرئيس أبي القاسم العزفي تتمينا لما أبداه من جهد في تقديم النصيحة والحذر والتيقظ من الأعداء ،عندما كشف سنة 658هـ/1258م،عن محاولة النصارى إخراج المسلمين من مدينة “شريش” .
وأخذ الخليفة المرتضى برأي أبي القاسم العزفي بإقامة المولد النبوي والاحتفال به،وقبل هديته وهي عبارة عن تكملة مؤلفه الموسوم “الدر المنظم في مولد النبي المعظم”.
وفي سنة 647هـ،وهي السنة التي تم فيها تأسيس الإمارة ،أوفد الرئيس أبو القاسم العزفي القائد الرنداحي على رأس أسطول لمهاجمة السفن المسيحية. وتمكن هذا القائد من القيام بغارة قوية “بقادس” حيث قتل ثمانين من زعماء الروم، وفي سنة 653هـ/1255م قتل الرنداحي “بوادي اشبيلية”حيث كان يضع قطع من أسطوله تغير على ساحل المدينة. ومن أهم الأحداث أيضا خلال مرحلة حكم الرئيس أبي القاسم العزفي ، هو قيام ابن الأحمر سنة 659هـ/1261م باحتلال مدينة سبتة،فقد بعث بأسطوله إلى الجزيرة الخضراء تحت قيادة قائد ظافر،ومنها صاروا يقطعون المرافق الواصلة إليها ويضيقون عليها الخناق،لكنهم وجدوا بالمرصاد أسطول أبي القاسم العزفي القوي بقيادة القائد الرنداحي الذي كسر حصارهم واستولى على العديد من سفنهم كما قتل القائد ظافر وعلقت جتثه في البحر،على حجر السودان ،وطيف برأسه بسبتة ،ثم علق وسمي هذا العام عام ظافر.
- علاقة أبي القاسم العزفي مع دولة المرينيين في المغرب:
بعد أن تم للسلطان أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني (656هـ/1256م-685هـ/1258م) الاستيلاء على دولة الموحدين،بقيت سبتة وطنجة خارجتان عن حكمه وسلطته ،فقرر إخضاعهما قبل أن يبدأ بمهمة الجهاد في الأندلس،فتوجه لحصار طنجة التي كانت تحت حكم العزفيين وحاصرها مدة ثلاثة أشهر ومما ساعده على فتحها سهولة مسلكها ومساعدة بعض جنودها الذين رفعوا راية الاستسلام ونادوا بشعار بني مرين بسبب خلاف وقع بينهم،فاستغل الجند المريني الفرصة،وسارعوا إليهم وتمكنوا من اقتحام طنجة عنوة وإعطاء الأمان لأهلها وذلك في سنة 672هـ/1273م.
ولما فرغ أبو يوسف يعقوب من أمر طنجة ،أرسل ولده الأمير يوسف إلى سبتة فحاصرها،ولكنها صمدت،ثم وقعت معاهدة صلح بين الرئيس أبي القاسم العزفي والسلطان أبي يوسف المريني بشرط أن يحتفظ الأول بحكم سبتة واستقلال بني العزفي مقابل مبلغ مالي ،وهدية سنوية من الأخبية والسلاح والثياب. وليس هناك تفسير لهذا التساهل من الجانب المريني إلا العجز عن تطويق سبتة بحرا من جهة،والاطمئنان إلى حسن الإدارة العزفية وقيامها بمراقبة ناجعة للسواحل البوغازية من جهة أخرى.
ظل العزفيون مركزين اهتمامهم على الجهاد لاستيعابهم الأخطار المحدقة بالإسلام في الغرب الاسلامي ،فوضع الرئيس أبو القاسم العزفي يده بيد المرينيين في جهادهم ضد النصارى في الأندلس،مدفوعا بروح الغيرة الإسلامية لا بقصد التبعية للمرينيين . حيث زود أبو القاسم العزفي العاهل المريني بعشرين قطعة بحرية لاجتياز المضيق بخمسة الآف مقاتل من زناتة سنة 673هـ،وانطلق هذا الجيش من طنجة بقيادة الامير منديل ناجل أبي يوسف،وقام الجيش بغارات في منطقة “شريش”،قبل أن يقرر المغرب التدخل على أوسع نطاق في السنة التالية.
وخلال هذه السنة كان الأمير أبا طالب عبد الله العزفي نجل أبي القاسم صلة وصل بين والده والسلطان المريني الذي استقبله بفاس مرة مع وفد هام مرافق له*لتقديم البيعة والطاعة ومناقشة ترتيبات الجواز الى الأندلس.
وأصبح أبو القاسم العزفي على أقوى الصلات بأبي يوسف يعقوب فيكتب إلى بعض الملوك بلسانه كيغمراسن بن زيان ملك تلمسان ،وأبو عبد الله بن نصر أمير غرناطة ليعلمهم بالانتصارات المرينية. وكان السلطان يعقوب المريني كتب بمناسبة انتصاره على النصارى لبلاد العدوة وقرئ كتابه على المنابر ،فرد أبو القاسم العزفي بكتابة رسالة الى فقهاء المغرب وصلحائه يشرح هذا الانتصار على الطغاة النصارى.
وهذا نص مقتطف مما تضمنته الرسالة القاسمية الموجهة الى العاهل المريني وصلحاء مدينة فاس:
“المقام الكريم الذي أعز الله تعالى به ملة التوحيد وأعلاها،وسنى له من الفتوح الكبار ،والصنائع التي فيها أعظم عبرة لذي الاعتبار،… وصلى الله تعالى له عوائد النصر التي حياه منها أعظم الحياء ،وهنأه ما لزمنه الجديد السعيد ذخره من الفتوح التي توزعت أهل الكفر بين القتل والسباء …”.
ويبدو من هذا النص التاريخي أن أبا القاسم العزفي قد ساهم في الحروب التي نتجت عن هذا الجواز لأنه كان في الواقع القوة الوحيدة القادرة على مناصرة المسلمين في اسبانيا وشمال المغرب الاقصى.
كما أن كل استراتجية عسكرية وربما سياسية ،كان أبو القاسم يقدم على اتباعها والتخطيط لها يمكن تفسيرها برغبته غي الحيلولة دون أن تطأ أقدام النصارى- القشتاليين والقطلان وغيرهم- أرض المغرب.وبما أنه مسلم مخلص فإنه لم يتح للنصارى أدنى فرصة للاستحواذ على موطئ قدم في سبتة.
- منشات أبي القاسم العزفي العمرانية بسبتة:
لم تأخذ الأمور السياسية كل وقت الرئيس أبي القاسم،بل التفت أيضا إلى عمران المدينة ،وشارك فيه مشاركة فعلية الشيء الذي يدل على اهتمامه برعيته وحبه لمدينته.
فما هي هاته المآثر العمرانية ؟
بناؤه للسور المجانب للمنارة لحفظ المدينة من أي غزو أجنبي غادر.
▪ بناء جب بأسفل الميناء وحوض لسقاية الدواب،يقول الانصاري:”سقاية جب الميناء العظيم الهيكل المشهور الذي ابتناه الفقيه الرئيس محمد العزفي ،وخلده أثرا غريبا بعده رحمه الله تعالى صهريجان مشتركان يمد أحدهما الأخر قد أحكم الأسفل والأعلا منهما فرشا بألواح الصخر المنجور أتم أحكام وأكمله”.
▪ بناء صومعة مسجد مقبرة زكلو،أكبر مساجد سبتة بعد المسجد الاعظم.
بناؤه أعظم فندق في المدينة لتخزين القمح والحبوب ،يقول الأنصاري:”وهذا الفندق من بناء محمد “أبي القاسم” العزفي ومن آثاره الغريبة بسبتة، يحتوي على اثنين وخمسين مخزنا ما بين هري وبيت،تسع تلك المخازن من قفزان الزرع الآلاف العديدة التي لا تبلغ الحصر ،ومن ضخامته أن له بابين :
باب إلى صحنه والآخر الى الشوارع المحملة الدائرة بالطبقة الثانية لكون الأرض مرتفعة من تلك الجهة تدخل على البابين الجمال بأحمالها مع الارتفاع والاتساع الكبير ،فإذا أبصر الرائي ما يدخل منها على الباب الأعلا ودورانها في تلك الشوارع بأقتابها وغرائر الزرع المحملة عليها هاله ذلك وتعجب منه”.
▪ بناؤه لفرن بأعلى زقاق ابن يربوع*، متسع المساحة، كبير البيت، مع حسن البناء ونظافته.
- طبيعة نظام حكم الرئيس أبي القاسم العزفي:
كان لطبيعة نظام حكم الرئيس أبي القاسم بعض المزايا الحسنة المتعلقة بالسياسة الشرعية عند المسلمين ومنها:تطبيق نظام الشورى وإقامة مؤسسة رسوم الحسبة وتطبيقها.
وكان الرئيس رجلا صبورا ورعا ذا ايمان راسخ قوي ، وكل هذه الصفات ذللت سبل السلم وأجلة كتائب الحرب كما أن ثباته وحكمته جنبت مدينة سبتة أهوال فتنة يهلك فيها المغلوب و الغالب يقول ابن الرشيق المرسي:
كتائب الروع عن أمن كتائبه
وانظر إلى ورع الإيمان كيف جلت
بها يعز من الإسلام جانبه
وذللت سبلا للسلم سابلة
وكاد يزرى بصدق الظن كاذبه
من بعد أن كان للتمحيص مضطرب
في مثلها طاح مغلوب وغالبه
وأقبلت كغرابيب الدجى فتن
وخلال حكمه لم يتعرض لأي صعوبات تذكر ،بل كان محترما من قبل السلطة المركزية ،سواء منها السلطة الموحدية أو السلطة المرينية،و محترما كذلك من قبل جيرانه بني عبد الواد في تلمسان أو الحفصيين في تونس أو النصريين في غرناطة ،والدليل على ذلك الرسائل التي تبادلها مع هؤلاء الجيران وحفظتها لنا المصادر ،وتجنبه لإراقة الدماء أدت إلى تعزيز مكانته بين الناس ،وكان يسكن قصرا فخما لكنه لم يترك ثروته ومنصبه يفسدان أخلاقه ،بل ظل اهتمامه مركزا على الجهاد ومد يد العون والمساعدة للخلفاء المرينيين ضد النصارى في الأندلس ،فجنب المدينة أي غزو أو احتلال خارجي أيامه.
- صداقة العزفيين مع الأسر السبتية المشهورة:
لم تحتجن المصادر التي وصلتنا خصومات أو منافرات كانت بين العزفيين وغيرهم من البيوتات المعروفة بسبتة،بل العكس من ذلك صاهروهم وأقاموا معهم روابط دم وقرابة ،”ولما نزل بنو خلدون بسبتة صهر العزفي بأبنائه وبناته فاختلط بهم وكان له معهم صهر مذكور”، ونشير هنا إلى نص مقتطف من صداق نظمه الشاعر مالك بن المرحل لأسرتين متصاهرتين ،أسرة بني العزفي، وأسرة بني خلدون ،يقول الشاعر:
وَبَعدَ هَذَا الّذِي قَدَّمتُ مِنْ كَلِـــــــــــمٍ أَرْجُو بِهِ النَّجْحَ فِي ورْدٍ وَفِي صَدْرِ
فَإِنَّ عَالِمَنَـــا الأَهْـــــدَى وَفَاضِلَنـَــــا الأَتْقَى وَوَالِينَا المَوْعـُــودَ بِالظَّفَـــــرِ
بَحْرُ الهُدَى مُزْنَةَ الجُودِ الّذِي شَهِدَتْ لِظَرْفِهِ حَلْبَةُ الأَجْدَادِ بِالحَصْــــــــــرِ
أَعْنِي أَبَا القَاسِمِ المَقْسُومِ نَائِلـُــــــــــهُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ قِسْمَةَ المَطَــــرِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِمَامِ الصَّــــالِحِينَ أَبـِــــــي العَبَّاسَ أَحْمَدَ قُطبِ العِلْمِ وَالأَثَـــــــرِ
لَمَّا رَأَى نَجْلَهُ النَّدْبَ السَّرِيَّ أَبَــــــــا الوَفَـــــاءِ بَلَغَ مَا يَبْغِيهِ مِنْ وَطَـــــــرِ
….
فَاخْتَارَ صِهْراً كَرِيماً وَاسْتَخَارَ لَــــهُ مَوْلًى مَتَى يَسْتَخِـــرْهُ عَبْدُهُ يَخِــــــــرِ
فِي خِطْبَةٍ خَطَبَتْ فِيهَا الـسُّعُودُ عَلَى مَنَابِرِ العِــــزِّ فِي حَفْلٍ وَفِي حَضَـــــرِ
سَعِيدَةٌ صَحِبَ التَّوْفِـــيقَ خَاطِبَهـَـــا وَخَطْبَهَا بِاقْتِرَابِ الـيُمْنِ وَاليُسـْــــــــرِ
….
بِنْتُ الكِرَامِ التِّي عَزَّتْ بِمَنْصِبِهَــــا فِي آلِ خَلْدُونَ عِزَّا خَالِدَ الأَثـَـــــــــــرِ
مِنْ حَاضِرِي الحَضْرَمِيِّينَ الَّذِينَ لَهُمُ فِي المَجْـدِ وَالجُـودِ نَجْـمٌ غَيْرُ مُنْكَــــدِرِ
…..
وَاللهُ يَجْمَعُ هَــذَا العَقْـــدَ مُقْتَرِنــــــاً بِالآلِ وَالمَـالِ وَالنَّعْـمَاءِ وَالعُـمُـــــــــــرِ
يتبع
د. جميلة رزقي