تقديم:
هذه باقة نضرة، ومجموعة عطرة، من رسائل متبادلة بين الأديب الدبلوماسي الشريف التهامي أفيلال رحمه الله أيام دراسته بمدينة غرناطة نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، مع والده وعمّه، تكشف لنا جوانب مهمّة من مظاهر حياة اجتماعية وثقافية التي كانت تربط غرناطة ببنتها تطوان..
-5-
الحمد لله
عوض الولد البار الطلب الأنجب، مولاي التهامي رعاك الله وحرس صحتك.
وبعد، وصلني في 2 شهرنا الحالي كتابك المؤرخ ب 24 الماضي أكتوبر وقد أزعجني حقا مفاده رغم كون المصاب لا قيمة له، وقد رأيت قياماً بحق هذا الواجب أن أستشير مع الأخ عمر سرّيّاً فأفضى إليّ بأن الواجب هو أن تتلقفوا هذا المصران الزائد المتفتق الآن بحزام، وتواصلوا دراستكم إلى آخر هذه السنة الميلادية، حيث تقدموا لدينا، وحينئذ تجرون العملية الجراحية البسيطة أمام الأهل، وهذا إن لم يكن في تأخيرها لهذا الوقت ضرر متزايد، ولا ضرر في هذا قطعاً، فإن كان فيه ضرر لم يكن بد من التعجيل بها، -وهذا شيء تسألون عنه الطّبيب المشير عليكم أوّلاً- وحينئذ لا بد من إعلام الوالد ليأذنكم فيها تقيمونها هناك، أو يأذنكم بالحضور لتقيمونها هنا بين أظهرنا.
ويظهر لي أن تتلقوا هذا النازل بهذه الرعاية المؤقتة وتسترسلوا في الدراسة لآخر السنة الميلادية كما قلنا، فتربحوا هذه القراءة ويربح الوالد هذا الانزعاج الذي قد يؤلمه، وقد يدعوكم للحضور بطريق الاستعجال، وبعد حضوركم بعد شهر ونصف تقريباً تكون العملية باطمئنان نفس وأمام الأهل والأحباب، وتكون الراحة بعدها تامّة، ولا أظن أنه يترتب على هذا التأخير شيء، فغالب الناس قديماً وحديثاً يصابون به ولا يبالون بشأنه، لأنه مع الوقاية لا يؤثّر، نعم؛ من الناس من يبادر لرتقه، ومنهم من يغضّ عنه الطرف، ولست ممن يحب التغاضي عنه، بل ممن يسارع للقضاء عليه بالرتق، ولكن بطريق هذا العجل الذي تريد أنت، فتتوقف عن الدراسة احتياطاً لما عسى أن ينشأ عن الحركة، وتطلب الإذن العاجل لإجراء العملية التي قد تساعَدون عليها من جهتي الوالد والعمّ، ثم إن جزمت بالتعجيل فلا بد أن تعلمني لنأخذ برأي الوالد ليأذنك في العملية أو في الحضور، وإنّي في انتظار جوابك، ولا أدري موجب تأخير رسالتك عشرة أيّام عن تاريخها والسلام.
في 3 نونبر سنة 1951م الموافق ل 2 صفر عام 1371هـ.
عمّك: البشير
-6-
الحمد لله وحده
وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله
الولد البارّ الطّالب الأنجب، السّيّد التّهامي، السلام عليك ورحمة الله.
وبعد، فقد وصل كتابك مفيداً سلامتك وعافيتك، وذاك غاية ما نأمل، ونرجو أن نسمعه ونتلوه في رسائلكم، مع ما يفيدنا عن كدّكم واجتهادكم في دروس المعرفة، وقد غفلنا عن إعلامكم بنعي زوجة الخال، لأنّنا لم نره بالنسبة لكم كطالب علم يهمه ما يتلقى في بلاد الغربة من مواد يشقّ لها طريق حياة مستقبله شيئاً تهتمّون له، أو ينفعكم في موضوع مهمّتكم، فطالب العلم ينبغي أن لا يشوّش عليه بأمثال ذلك، وطالب العلم لا ينبغي له أن يعيش عيشة المراسم والإجراءات العادية، أو يحيى حياة التّرف …لذلك في غرض كذا، هذا يدعه للمتفرّغين الذين قضوا وأتمّوا واجباتهم، هذا وإنّه للآن لم يتلقوا عن زبيدة خبراً بالإعلام بالخروج من القاهرة، وقد كانت أعلمت في رسالة أنّها ربّما تخرج يوم من 17 ابراير الجاري، وربّك يفعل ما يشاء ويختار، بعد الإتمام من كتابة هذه الرسالة ورد تلغراف من القاهرة بخروج زبيدة يوم تاريخه ليلة الخميس 23 فبراير.
والكلّ بخير، والسيّد مَحمّد مدينة بعدما كان أنهى لي قضية امتناع زوجته من حضورها عنّي هذه مدّة، ولم أدر ماذا أنهت إليه قضيّته منها، والكل بخير، وعلى المودّة والسلام.
في 23 ابراير سنة 1950. جمادى 1 عام 1369هـ.
عبد السلام أفيلال
-7-
الحمد لله وحده
وصلى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه
الولد البارّ الأنجب، السيّد التّهامي السّلام عليكم ورحمة الله.
وبعد، وصل كتابك المؤرّخ بـ 5 مارس الحالي، وأهمّ ما أفاد التحاقك بمدرسة الاستعداد للامتحان، ومراجعة مادّتي الحقوق والجبر، تأهّباً للامتحان القادم بحول الله، وإنّها لفكرة حسنة ويا حبّذا لو كانت هذه المدرسة …على حدّ تعبيرك مؤبّدة ملحقة بالمدرسة الرّسميّة، لأنّ من الخسارة على الغريب المنقطع للدراسة، عطلة شطر كامل من النّهار يقضيه بين جدران المدرسة في انتظار غروب الشّمس ليأوي إلى مرقد النّوم، أمّا زبيدة فقد وصلت لطنجة قرب زوال نهار الخميس بل الإثنين الماضي، ولتطوان عشيّة اليوم التّالي، وقد ذهبت العائلة لمقابلتها صبيحة يوم العزوم، وكانت المرسى مليئة بذوي قرابة القادمين، فالحمد لله على السّلامة.
أمّا اعتدال جوّ غرناطة في هذه الأيّام فضروري، وأيّ شيء في الدّنيا لا يعتدل بدخول فصل الربيع وهو الفصل الذي تحسن فيه الطّبيعة للكون، وتسدي إليه من المعروف ما تحيى به النّفوس الحيّة والجامدة، ويهيأ فيه للمخلوق ما يقتاته ما بين السّنة، أمّا إحسانه للأحلام والأدمغة والحافظة والمفكرة فشيء لا يغني الوقت للإفاضة إليك فيه، لأنّي إذا شرعتُ فيه أعالجه لك لا تغني هذه الورقة ولا أخواتها من الملصقات معها، ولكن الذي يهمّني من عوامل هذه الأيام أن تصقل من فكرتك وتزيد في نشاطك، وتدفع بك إلى مزيد الإمعان والنّظر..
أمّا أثارات فصل الربيع من اخضرار واحمرار واصفرار جوّه، يقضي عليها الصيف بنار شمسه المحرقة، فلا تجد إلاّ يابسة، أو جوّاً مكفهرّاً، ووجوهاً عابسة، تلك هي الطبيعة، وتلك عادة الله فيها، (ولن تجد لسنّة الله تبديلاً).
أمّا ما تحصله في هذا الفصل إذا أعرضت عن جماله الفتّان، وسحره القاتل، فسوف لا يُبيده الصيف ولا الخريف، فاعرف لأيّام دراستك قيمتها، وعُدّ بين أصابعك سِنيّ وجودك وسنيّ دراستك، وقابل ما بينها وبين ما حصّلته من معرفة وثقافة، وحاسب نفسك قبل أن تحاسَب، وطالبها بواجباتها قبل أن تُطالب، وربّنا لا غيره يوفّقك ويهديك ويرشدك إلى ما فيه صلاحك ديناً ودنيا، فما الخير إلاّ خيره، لا ربّ غيره.
وقد توقّفتُ عن توجيه المجلاّت إليك، لأنّها لا تكون في صالحك الآن مع كثرة مواد الدّراسة، وإن هي إلاّ من لغو الحديث الذي لا ينفع، وإن كانت بالنسبة لغيرك من الحوامض أو الفواكه التي لا يستغني عنها كلّ مترفّه في مطعمه وغذاه.
قد كلّمتك تيلفونياً بالإدارة نهار الأربعاء السّابق، وما تبيّنتُ شيئاً جيّداً من كلماتك التي تلاعب الأثير بها، وبعد الغد سنعيد مكالمتك بحول الله، أما شفرات الحلاقة التي سلّطها الشّيطان على الوجوه والأذقان فتصلكم بحول الله، وقد فهمت من خطابكم التيلفوني أنّكم تبعثون بمثال …وهو حسن، ولا تتأخّروا عن طلب ما ترونه واجباً، والله يرضى عنك، والسلام.
في 25 جمادى 1 عام 1369هـ، 15 مارس سمة 1950.
عبد السلام أفيلال
د. يونس السباح