تقديم:
هذه باقة نضرة، ومجموعة عطرة، من رسائل متبادلة بين الأديب الدبلوماسي الشريف التهامي أفيلال رحمه الله أيام دراسته بمدينة غرناطة نهاية الأربعينيات، وبداية الخمسينيات، مع والده وعمّه، تكشف لنا جوانب مهمّة من مظاهر حياة اجتماعية وثقافية التي كانت تربط غرناطة ببنتها تطوان..
–22-
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله
ولدنا البارّ السيد التهامي رعاك الله ورضي عنك وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد، وصل كتابك الأخير الذي أفدتم فيه اشمئزازكم من الإجراء الذي قوبلتم به ممّن ذكرتم، وظهور علامة الفشل في المحاولة التي أرشدتم إليها هنا وقمتم بها هناك.
أما رسائلك الأخرى التي سبقت وقلتم إنكم شرحتم فيها تفاصيل ما قمتم به فلم تصل، ولعلها ضاعت في البريد.
والمهم الآن هو إفادتكم أننا لما استشعرنا بقلقكم وكدنا أن نصدق في وقوعكم في شرك مناورة من هنا وهناك، أنهينا علتنا للفقيه الصدر، لأنه الرّكن الأخير الذي بقي لنا أن نركن ونلتجأ إليه، فوعد أنه ينهي ذلك للنائب الثقافي الذي من حسن الحظ كان على وعد سابق منه للحضور لديه في نفس اليوم، فلما شافهه بما جرى وسعادة الصدر مُلم من رسالتك بالواقع التفصيلي، أعلمَه بأنّك طالب متلاعب بغرناطة لا تتقيد ببنود البيت المغربي، وغير مُقبل على دراستك بجد وحزم، ولم تؤد امتحاناً قط كان النجاح فيه حليفك، لا بتفوق ولا بأي درجة من درجات النجاح، وبجانب هذا لا تحترم زملاءك الطلبة ولا تحسن معهم السلوك والعشرة، شأن طلاب العلم الذين تجمعهم الغربة وتضمهم إليها المدرسة بعيدين عن ديارهم، وأنه لأجل ذلك لا لغيره تقرر فصلك عن ذاك البيت نهائياً.
وبحسن مجاملة الصدر وأدبه جزاه الله وبعد التي واللتيا وقع الإغضاء عن كل هذه السوابق والتجاوز عنها، وأصدر النائب إذنه بعودتك لمركزك على أن تغير من موقفك من ذاك البيت، وأن تطبع نفسك بطابع طالب العلم لا أقل ولا أكثر، وبعدما أحرزنا على هذه النتيجة المُرة أبرقنا لك بأثرها وبعثنا لك بالكتب.
هذا ما جرى وقد كان كل هذا صدمة عنيفة أصابتنا في الصميم اعتبرناها أمانة كبرى لا لك فقط بل لنا جميعاً، ولم تكن هذه الصدفة من النائب ولا من المدير ولا من أحد غير النائب والمدير، بل منك ومنك فقط لأنك الذي كنت الداعي لها والمتسبب فيها، ولسنا نتهم أحداً ممن وسمتهم بنصب العداء لك، هذه المكيدة التي لولا لطف الله لحطمت من مستقبلك، فلدينا من الأدلة ما يثبت لنا ما قاله هؤلاء فيك ونسبوه لك، ويبرؤهم منه، فهؤلاء أصدقاؤك العديدون الذين لهم بك الصلة الوثيقة والزمالة في الدراسة كثيراً ما تحدثوا في الخفاء بأنك في دراستك غير قائم باللازم لا تتعاهد دروسك لا بالمطالعة ولا بالمراجعة، وإن كل ما تميل إليه هو الراحة وإشباع النفس بالمتعة من رياضة ونحوها، ولنا أيضاً ما يسند هذا فإن أيام الرخصة التي تقيمها هنا وأيامها نصف العام أي نصف العمر تجعلها كلها بلا استثناء أيام راحة ودعة لا تلتفت فيها قط لمراجعة كتاب أو مطالعة مثلة، كأن ما حصلته من علم بغرناطة جعلته في كنز تحت جدار وقفلت عليه بمفاتيح من حديد، فلا يتفلت منه أبداً.
إن أيام الرخصة المقررة إذا كنت تجمعها شُرعت لمراجعة الطالب ما حصله في العام الماضي، ولإعداده ما سيحصله في العام الآتي، أو ليجتهد فيجعل محصول العامين في عام واحد فيقفز إلى قمة الغاية برهة، أو ليقوم برحلات تعد من باب الدراسة التطبيقية، وهي أصعب من الدراسة النظرية.
هذه هي الغاية من أيام الرخص سواء كانت سنوية أو شهرية، وهي التي يجري عليها من يعرف لوقته القيمة، وتكون نهايته من التعليم وهو ابن 22 عاماً، وإذا كان الأمر كما وصفنا ولا يمكنك أن تجادل فيه بحال، فأنا لا أحب أن يتكرر هذا منك، كما لا أُحب أن يتكرر ذاك من أولي الأمر، وليس كل مرة تسلم الجرة، ولسنا ممن يتحمل الضيم والإبانة، فلتجهد ولتعمل ما في استطاعتك وعامل أولي الأمر بما يليق بهم، وزملاءَك الطلبة بما يستحقونه من احترام وتقدير حتى تجد أمامك الناصر والصديق والأنيس والرفيق، ونحن سنجرب في هذا العام ونرى، ونرجو الله أن نرى خيراً وعلى المودة والسلام.
في 8 صفر الخير عام 1372 أكتوبر سنة 1952
والدك عبد السلام وفقه الله
-23-
الحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمد وآله
الولَد البارّ الأنجب، السيّد التهامي رعاك الله ورضي عنك، والسلام عليك ورحمة الله.
وبعد، وصل كتابك بشرح حال المدرسة التي انتقلتم إليها، وما تشتمل عليه من موافق الحياة ونُظم السكن، ووسائل التثقيف النظريّة والعلمية، وإنها وايم الله لغاية ما يحرزه طالبا لعلم الصّحيح، المجتهد في التحيل، العاضّ على المعرفة بالنواجذ، ولاسيما من رمت به يد الشهوة والعصبية إلى حيث ألقت رحلها أمّ قشعم، واضطهد في سبيل المعرفة أوّلاً وثانياً، وقد أطلّ على ساحة النّجاح، وأشرف على ميدان النّهاية، فلتجهد ما وسعتك الطاقة في التحصيل، وفي نُكران الذّات، لأنّ أيّام هذه كما قلت لك ونقوله: هي أيّام اتّجار ومغامرة في باب السّباق وادّخار، لا أيّام راحة واختيار، فلا تغرّنّك مباهج حضارة الغير، التي ما أدركوها إلاّ بعد الكدّ في تحضير نفوسهم، وتربية نِشائهم، فكانت حضارة المدرسة مبنية على أسس علم الأخلاق أوّلاً، وعلم التّربية والصّحّة ثانياً، فكان الازدواج بين الساكن والسّكَن حاصلاً لامحالة، وليتكم تشاركون في تلكم المحاضرات التي أشرتم إليها، وفي المجلّة التي تحرّر بها وتدلوا بدلوكم في الدّلاء، فلا تكونون من المتفرّجين فحسب، فإنّ ذلك لما يعين على التدريب والتشجيع في مواقف الخطابة ومواطن التدليل والاحتجاح لدى الحاجة، وعلى كلّ حال إنّا ندعو لك بالعون والهداية، وإنّ الدعاء بظهر الغيب لمستجاب، والكلّ بخير، والسلام.
في 25 رجب الفرد الحرام عام 1374 ق مارس سنة 1955.
والدك: عبد السلام لطف الله به آمين
د. يونس السباح