من الشعراء من يأسرك حديثهم، وتصطحبك مروياتهم الشعرية فتشعرك بأنك مقبل على تتبع حكاية لها بداياتها ومفاجآتها ونهاياتها التي تطبع في الإحساس صورا ومواقف لا تنسى. ومن هؤلاء الشعراء محمد البقالي الذي يكتب بوعي فني يستحضر وظيفة الشعر الجمالية من زاوية التشبع بمبدإ الحكمة والسمو. وهذا ما عبر عنه الشاعر صراحة بقوله في صفحة الغلاف الخلفي لديوان كنز الحكيم، بأن الشاعر وليد مجتمع جغرافي وحضاري، يدرك أن عليه رسالة يجب تأديتها هي رفع الحجاب عن صور التنافر مما طريقه القلب، وحب ينمو ويتضخم حتى يشمل كل شيء.
يسري الوله بالجمال في الديوان من أوله إلى آخره. وهذا ما نلاحظه منذ البداية، فالإهداء يملك نفسا شاعريا ينساب عبر كلمات كلها عرفان وإكرام لمن هو حقيق بأن يكرم.
نتعقب بعد هذا مقدمة الشاعر عبد الكريم الطبال الذي استوحى فلسفة الشاعر مما آنسه من كلمات تتعدى أثر التعبير لتبلغ مقام الفعل..
لا تغن للأمطار لكن أمطر !
هكذا بدا الشاعر مصرا على أن يجود بنبره الشجي، ويحكي عن الأشجار التي تأتي عقب الخريف. اختفى حتى خُيل أنه أخلد إلى الصمت بلا رجعة، ثم ما فتئ أن عاد بالكنز الدفين.. رجع بكنز يحمل عبء الدمع. فلعلنا نزعم على هذا الأساس أن يكون صنيع الذات الشاعرة صنيعا رومانسيا. نتوقع هذا ولا نطمئن مطلقا إلى مقايسة أدبنا المغربي بالمقاييس النقدية التي ترعرعت في بيئات وبنيات مفارقة. أجل، إن القواسم المشتركة بين الآداب كثيرة، لكن لنا أن نتوقع تداخل الأزمنة الشعرية والأنماط الفنية في تجربة محمد البقالي.
ننظر بعد هذا في قصيدة ميلاد، التي نعد تصدرها للديوان أمرا بالغ الدلالة. بل إن عنوان القصيدة يتفشى في الحنين والرنين. يتجسد اللحن صورة مثبتة شاخصة تأبى أن تتوارى وتتحجب عن مرأى القارئ الذي يقبل على تلمس الصورة وتعقلها، ثم الالتفات إلى سيرورة الأفعال التي انبثقت عنها. فلا إشراق يولد، ولا نضارة تغشى وجه الأشياء، ولا ترانيم تسمع، ما لم يتأت في الوجود معاد الحلم ومبسط الظل السعيد في ربى الفردوس التي تهيئ مراسيم ولادة خارقة. أما المولود الذي ينتظر، فلا يملك سحنة زرادشتية أو أوديسية أو سيزيفية.
لن يعجلنا لهف الكلام ونبض الشعر حتى ننسب للمولود أبا غير أبيه أو نبحث عن أم غير الأم التي وضعته أو أرضعته، أو بالأحرى لن نعطيه أوصافا غير التي اصطبغت بها مشيمته وتلونت في الأزل بها صورته الأولى.. فتعاقب الظلال لا يعني أبدا أن المولود يندمغ فيها ثم يفجؤه الفصام، وينقاد إلى المحو والفراغ. فمن الجلي أن الصورة الشعرية تتشكل من قرائنها وتتبنين من دلائلها المتعددة المتراوحة الناسخة المنسوخة. ومن ثم فالصدى الأسطوري الأول هو إحدى العلامات الدالة على عليات التغيير والنسخ؛ فأن يروي الشاعر الحالم أساطير القدامى، فهذا لا يدل على أن الذات تبحث عن معادل أسطوري أو بطل ينوب عنها، وإنما هي رحلة التزاور في أعماق الكينونة. يؤانس البقالي الأسطورة ولا يسقط في حبائلها، إذ المعول عليه حسب عرفه الفني أن يلوي عطفه نحو تصوير بديع ينتقل بالقارئ في سلاسة وانسيابية إلى التعبير عن جمالية الحوار بين وردة وأختها.. ثم يهيج الطير لرنات الحنين ويكبر الشوق لمعرفة سر الناي الحزين. كل شيء يبدو مترابطا ومتسقا في زمن الشاعر، فبعد رحلة الكشف والإشراق هذه، نعود للتيقن من هوية صوت الناي الحالم. فهل هو أورفوس نضو الجولان الذي هام بحثا عن هواه أوريديس؟
على هذا المنوال تتأسس الحقيقة الشعرية في أبعادها الخيالية وتتكشف حقيقة مركبة مفارقة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. لكن أي نوع من الخيال هذا الذي يرسو به السفين.. كيف ترسو معاني القصيد؟
هل هو الخيال النابع من عفو الخواطر وصفو المشاعر، هل هو انطباع في القلب، أم تشكيل تنضاف إليه ميزة التركيب وقوة التعديل؟
الحقيقة أن الخيال إن هو إلا نشاط العقل، فلا غرابة أن يكون للحكمة مقامها الذي لا ينكر. فلا غنى عن الحكيم، فهو مكون أساس لمقصدية القصيدة، بخاصة والديوان بعامة. إن صوت الحكمة بهذا المعنى، هو ما يجعل للنغم الشجي مساغا..
ربما كان رئيا عبقريا
بث نجواه دعاء قدسيا[1]
يرتسم في فلك النص خطان، أو لعلنا نستبصر في سماء التخييل طرزين اثنين، أحدهما متلبس سريع التحول والزوال، وثانيهما ثابت موصول بعالم العيان. وبين الظن واليقين تتسع الهوات بين المستلهمين والسامرين، ويتدارك الحق المبصرون الذين يعرفون برؤاهم الفراسية أن في الكون مخاضا لا يبين. ومن أجل ذلك يُسخَّر الهدهد الذي لا تخذله قواه، بعد إذ سمحت له غريزته الكشفية أن يغوص في بحر الأزمان السرمدية، فتراه يرف جذلا آتيا بالرؤيا المحملة بتباشير الولادة الزكية.
لم تكن إذن ولادة زرادشتية كما قلت. لم تنشأ على شاكلة الإنسان القوي من أعلى على شاكلة مذهب نيتشه. كما لا ينمو الخلق الجديد نماء تطوريا ارتقائيا من أسفل بحسب ما تقول بعض نظريات علوم الأحياء، وإنما يولد الإنسان مكسوا بالنور. يأتي كائنا نضرا كوثري الورد.
جنح الشاعر إذن إلى التفصيل والتخصيص من أجل الحديث عن إنسانه الجديد، فعرض خصائص ولوازم التأمت جميعها لتكون عنوان صفة جوهرية؛ هي الصفة التي شهدت بها طبقة أصفياء الوجود من الكائنات الخيالية المغردة الشجية الزكية التي نجملها في عبارة شهود الحال. هي وحدها الكفيلة برفع الستر والحجب عن هيئة المولود الجديد.. تأتي لتقول إنه شاعر.
لأجل ذلك، يبقى هذا النص مفتاحا للديوان كله. ويظل العمل محكم البناء. فلا تروض معانيه ولا تُستجلى أسراره إلا بالخطو في مسرى الحكماء ومسرب المستبصرين.
لقد جاء الحكيم في وقته ليقول كلمته المدوية وينتصر للجمال والبهاء. وبقيت حكمته منطمسة عن الأفهام ردحا من الزمن. سعى إلى قبرها الغلاة السحرة، الذين صنعوا كذبتهم وألبوا النفوس. وخدعوا العقول من أجل تصديقها. أتى ليعيد للجمال سره بعد أن لعبت المرايا الخادعة بعقول الأنام..
يا ليتنا كنا اجتنبنا هاتيك المرايا
لم نوقظ الغيلان فينا والسعالي
لم نحدث النشاز في ترنيمة الجمال[2]
ذلك هو سر المأساة الإنسانية أمام المرايا الساخرة، التي تفضح ولا تهادن !
سيان سرنا جانبا إلى الوراء
صورنا ترقص كظل الشمعدان
وهي كجحدر، مكردم، كز، قبيح[3]
فعلى هذه الوتيرة يسترسل الشاعر الحكيم في نقده العميق، قائلا :
وكم سطيح بيننا قد ضل عنه سعيه،
أفكاره، مسطحة
أعماله، مسطحة
آماله، مسطحة
حياته، ملساءُ كالوهم حطيئةُ المدى
نَزورُ همة، ضعيفةُ الرؤى[4]
تكتب القصيدة إذن بلغة الشوق والالتياع، بفيض الإحساس، ونفاذ البصيرة، وكد الروية. تكتب باقتدار موسيقي وبراعة في التنويع العروضي من أجل جلب الخير للإنسان الجديد، في زمن صار أحوج ما يكون ليرى ذاته في ميزان الصفاء.
فالمستخلص من هذه القراءة إذن، هو هذا الرجاء الذي تلتف الضمائر عليه، بل هو ما هفت إليه روح الشاعر، أو على الأصح ما انتهى إليه حين واءم بين جمال التصوير وقوة التصديق..
يا صاحبي !
عجل بنا نستوضح الحقيقة
من قبل أن يغمرنا الظل الكبير
هيا نحيي موعد الفجر الوليد
فسوف تصفو يوما ما مرايانا[5]
ويومها نجلو حقيقة الإنسان فينا والملاك[6]
الهوامش:
[1] ـ الديوان. 4.
[2] ـ نفسه. 36.
[3] ـ نفسه. 34.
[4] ـ نفسه. 34 – 35.
[6] ـ نفسه. 38.
د. الحسن الغشتول