1 ـ ذكريات الدراسة في ثانوية القاضي عياض:
كانت ثانوية القاضي عياض التي كان يعمل بها ثلة من خيرة الأساتذة ، ويقوم بالإشراف الإداري والتربوي عليها رجال فضلاء ، يعرفون بالغيرة الوطنية ، ويعملون ـ بكل تفان وروح المسؤولية ـ على حثنا ـ نحن التلاميذ ـ على الجد في التحصيل ، والانضباط في السلوك. وقد عرفت هذه المؤسسة أثناء دراستي فيها أنشطة ثقافية من مستوى رفيع ، منها على الخصوص إقامة أمسيتين شعريتين باذختين : الأولى خصصت للشاعر الكبير نزار قباني ، وأذكر أن الذي تولى تقديم الشاعر إلى الجمهور الغفير من الأساتذة والتلاميذ والتلميذات الذي امتلأ به مسرح الثانوية عن آخره ، هو الصحافي اللامع المرحوم مصطفى الصباغ. وقد أنشد الشاعر أثناءها مجموعة من قصائده الجميلة ، كان من أحدثها وأروعها قصيدته “غرناطة “:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا // ما أطيب اللقيا بغير ميعـــــادِ
ساءلتها هل أنتِ اسبانيــــــةٌ ؟ // قالت : وفي غرناطةٍ ميلادي
غرناطةٌ وصحتْ قرون سبعةٌ // في تينكَ العينين دون رقــادِ
أما الأمسية الثانية ، فقد كانت للشاعر الإسلامي المعروف بهاء الدين الأميري ، وقد أتحف الجمهور بقصيدة إنسانية مؤثرة بعنوان ” أب ” ، والمعروف أن هذه القصيدة كانت مثار إعجاب الكاتب الكبير عباس محمود العقاد. بالإضافة إلى هذه التظاهرات الكبيرة التي كان مسرحها ثانويتنا، كانت ثمة نشاطات أخرى يقيمها التلاميذ خلال السنة تحت إشراف أساتذتهم ، أذكر منها إصدار مجلات حائطية يتنافس في إنجازها تلاميذ بعض الأقسام ، وأذكر أن مجلة قسمنا كانت بعنوان شاعري هو ” همسات الأفنان ” سهرنا على إخراجها والكتابة فيها كل في المجال الأدبي الذي يعشقه الطفولة ، كما أذكر من هذه الأنشطة الطلابية تنظيم سهرات رمضانية تعرض فيها مسرحيات اجتماعية كوميدية ، كانت إحداها من تأليف أحد زملائنا المولعين بالمسرح الكوميدي . في هذا الجو الثقافي والتربوي عشنا سنوات دراستنا في هذه الثانوية المعطاء التي توجت بحصول أغلبنا على شهادة البكالوريا المزدوجة في السنة الدراسية ( 1966) . أما الأساتذة الذين كان لهم تأثير على مسار حياتنا الدراسية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، فهم الأساتذة الفضلاء : أحمد الإدريسي ـ محمد السوسي ـ عبدالهادي الحسيسن. وسأتحدث هنا عن الأستاذ أحمد الإدريسي على أن نخصص أحاديث أخرى لأساتذتنا الآخرين الذين لا يمكن أن يمحو النسيان أفضالهم علينا. فوجئنا ـ نحن تلاميذ السنة الثانية ثانوي ( السلك الأول ) ـ بدخول أستاذ جديد للغة العربية ،أنيق المظهر، وسيم الوجه ، يتميز بعينين خضراوين. قدم من التعليم الابتدائي في إطار عملية الانتداب بعد رحيل الأساتذة المصريين فجأة لظروف سياسية. إنه الأستاذ العصامي أحمد الإدريسي اللغوي الحافظ لمتن الألفية كـ”الماء” كما يقال . الأديب المتذوق لمختلف فنون القول الذي كان يتميز بذكاء خارق ، وحافظة قوية ( عرفت فيما بعد أنه كان يحفظ أشعار صديقه الشاعر أحمد المجاطي عن ظهر قلب ) ، كانت دروس النحو التي يلقيها مستشهداً دائما بأبيات من الألفية نزهة لغوية ، وكان شرحه لنصوص شعرية جميلة كانت ضمن مقرر المحفوظات متعة فنية ، نذوق في حصتها لذة النص الأدبي ، كأن أفواهنا الصغيرة تتلذذ بطعم حلوى أو قطعة شيكولاطة لذيذة المساغ. أذكر من تلك النصوص الشعرية على سبيل المثال : ” أعجبت بي ” لمهيار الديلمي ـ ” فخر” للشريف الرضي ـ ” تعب كلها الحياة ” للمعري ـ ” عيد بأية حال عدت ياعيد ” للمتنبي ـ ” وصف الجبل ” لابن خفاجة .. وكان الأستاذ الإدريسي يضع يدنا على مناطق الجمال الشعري ، وليس فقط على الجانب المضموني. وأذكر أنه كان يحثنا على حفظها. وبفضل ذلك ظلت تلك النصوص من محفوظاتنا إلى الآن. أليس الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر ؟ أما درس الإنشاء ، فكان مجالاً لإبراز المواهب الأدبية. وفي حصة التصحيح كان يفاجئ أحدنا ، فيأمره بقراءة موضوعه. وكان لا يبخل عليه بالثناء والتشجيع ، تحفيزاً للآخرين على الكتابة.
2 ـ ذكريات مع كبار الكتاب والشعراء العرب :
في هذه المرحلة كنت قد قرأت كتب المنفلوطي وأغلب مؤلفات جبران خليل جبران ، أذكر منها خاصة ” الأرواح المتمردة ” والأجنحة المتكسرة ” و ” الموسيقى ” في كتاب واحد طبعة دار الهلال ( الخضراء ) . في هذه السلسلة الغراء ، قرأت روائع لأشهر كتاب مصر أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : ” في الطريق ” للمازني ؛ ” مدرسة الشيطان ” و ” يوميات نائب في الأرياف ” لتوفيق الحكيم قبل أن أتعرف على مسرحه الذهني والاجتماعي ؛ ” ثائرون ” و ” كليوباترة في خان الخليلي ” لمحمود تيمور. أما في سلسلة ” اقرأ ” ، فقد تسنى لي قراءة ” المعذبون في الأرض ” لطه حسين ؛ ” قنديل أم هاشم ” ليحيى حقي ، ” من النافذة ” للمازني ؛ ” من ذكريان الفن والقضاء ” للحكيم. ولا أنسى أن أذكر ” الأيام ” و ” دعاء الكروان ” لطه حسين. بالإضافة إلى السلسلتين المذكورتين ، كانت تصل من أرض الكنانة سلاسل شهرية أخرى كنت أقتني بعض إصداراتها أهمها ” الكتاب الفضي ” و”الكتاب الذهبي ” و ” كتابي ” لحلمي مراد. وما زلت أحتفظ من سلسلة الكتاب الفضي بمسرحية ” رحلة إلى الغد ” لتوفيق الحكيم ، وهي من الأعمال الرائدة في مجال أدب الخيال العلمي في أدبنا العربي. والجدير بالإشارة هنا ، أن هذه السلاسل كانت زهيدة الثمن ، لذلك كنا نتمكن من اقتنائها بالفرنكات القليلة التي تنفحنا بها عائلتنا بعد قضاء بعض حوائجها من السوق. وكنت أنا أقسمها بين الدخول إلى السينما وشراء الكتب. وبخصوص الشعر، لا أنسى أنني قرأت ديواني ” الجداول ” و ” الخمائل ” لإيليا أبي ماضي، فأعجبت أيما إعجاب بلغته وخياله المجنح. ولا بد من الإشارة هنا إلى قراءات سابقة كان لها الفضل في بث الولع في نفسي بالمطالعة حتى أمست عادة يصعب الفكاك منها ، أهمها : قراءة ” بدائع الزهور ووقائع الدهور ” لابن إياس في طبعة شعبية مختصرة ، وكتاب ” ألف ليلة وليلة ” ، وروايات أرسين لوبين البوليسية لموريس لوبلان.
في المرحلة الثانوية اكتشفت أديب تطوان المبدع محمد الصباغ ، فاقتنيت ديوانيه الأولين ” أنا والقمر” و ” شجرة النار” في طبعتهما الأولى ، وأذكر أنني التقيت به صحبة الصديق عبدا لقادر الإدريسي ، وسلمت عليه في خجل في أحد اللقاءات الأدبية بمنصة مسرح ثانوية القاضي عياض. وكانت تبهرني عناوين كتبه التي أراها خلف واجهات مكتبات تطوان في الساقية الفوقية ، أو عند مكتبة الناصر الزاهرة ، مثل” شلال الأسود ” ـ ” اللهاث الجريح ” ـ ” فوارة الظمأ “.
في هذه المرحلة نفسها انكببت على قراءة شعر نزار قباني في دواوينه : ” أنت لي ” ـ ” قصائد من نزار” ـ ” حبيبتي ” ـ ” طفولة نهد ” ، كما تعرفت في هذه الفترة على الشعر الحر من خلال مجلتي “الآداب ” و ” الأديب “. وخلالها أيضاً، قرأت لنجيب محفوظ ، وكان أول عمل روائي قرأته له هو ” اللص والكلاب “.
3 ـ ذكرى سينما ” فيكتوريا ” بحي باريو مالقا :
كم مرة ارتدتها ، وأنا طفل ، رغم بعدها عن مقر سكنى العائلة بحي المصلى القريب من باب العقلة. كانت رحلتي إليها ذهابا سهلة قصيرة ، ينسيني بعد الطريق الى حي الباريو البعيد ، تلهفي وشوقي إلى الفيلم الذي سأشاهده ، و غالباً ما يكون فيلم مغامرات للممثل الوسيم الشهير إيرُّوفلين ، أو فيلم كوبوي لكَاري كوبر أو فيلم من أفلام طرزان .. أما في العودة بعد مشاهدة الفيلم ، فكم كانت الرحلة طويلة ومملة وشاقة على طفل واهن القوى ، زاد من وهنها سغب البطن الذي لم يكن ليحس به صاحبه وهو منغمر في أحداث الفيلم المشوقة . ولا تنقضي انعطافات حي الباريو من ” فيكتوريا ” إلى مدرسة سيدي علي بركة حتى يغفر الله الذنوب. ثم يبقى شوط شارع محمد الخامس ، فالفدان ثم الملاح حيث يشتري الطفل المنهك جوعا ، 10 فرنكات المتبقية له من الحمص المقلي المملح، يملأ به جيبه ، ويستعين به على متابعة السير ، مرورا بدروب السويقة ، نزولا من أدراج باب العقلة الحجرية ، مهرولا في مشيته عند الطريق المنحدر قليلا ، ابتداء من جدار المدرسة الأهلية يمينا مرورا بحذاء ( قشلة العسكر )، إلى سكة الحديد ، حيث ينعطف الطفل يمينا ليقصد البيت في ممر فوق السكة التي يمر بها القطار إلى مدينة سبتة. وغالبا ما يصل الطفل وقد حل الظلام ، وبدأت الأشباح الغريبة تخرج من بين شقوق القصب ، ومن المخابىء المظلمة تحته ، فيستمد بعض الشجاعة ورباطة الجأش من أبطال الأفلام التي شاهدها، و يسرع الخطو رافعا رأسه متحديا أقوى جن يمكن أن يصادفه. والحقيقة أنه كان لا يحمد الله على سلامته إلا بعد اجتياز صراط الجن الذي كثيرا ما تحدث عنه أطفال الجيران، بل حتى الفتيان الأشداء منهم.، و مع ذلك فقد كانت تلك الرحلة إلى سينما ” فيكتوريا ” العتيدة بالباريو ، تتكرر كلما تيسرت الفرنكات ووقت الفراغ من الدراسة.
عبدالجبار العلمي