بالكثير منة عناصر الثبات، وبالكثير من جرعات الإخلاص في البحث، وبالكثير من العشق للذاكرة الجماعية لمدينة تطوان، وقبل ذلك، بالكثير من عناصر الوعي بأهمية العودة للنبش في التراث الوثائقي لعائلات مدينة تطوان، يعود الأستاذ الطيب أجزول لكتابة صفحات مديدة عن عائلة زوزيو، باعتبارها واحدة من بين أعرق العائلات التي أنجبتها مدينة تطوان. ولقد أجمل نتائج هذا الجهد الذي لا شك وأنه تطلب منه الكثير من الأناة ومن الصبر والتدقيق، بإصدار عمله الجديد تحت عنوان “من عائلات تطوان- عائلة زوزيو من خلال الوثائق المخزنية والعائلية”، وذلك سنة 2021، بتقديم للأستاذ عبد الرحمان زوزيو، في ما مجموعه 196 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والعمل الجديد، استمرار للتجربة الأولى التي خاضها المؤلف عند إصداره لكتابه الأول الذي رأىأتتتأى النور تحت عنوان “من تاريخ المجتمع التطواني- وثائق عائلية للقرن 18/ القرن 20″، وهو الكتاب الذي فتح المؤلف -من خلاله- مجالا رحبا للتأصيل لشروط إنضاج البحث المونوغرافي المجهري المتخصص في رصد البنى المجتمعية المحلية من خلال سير عائلاتها ودور أعلام هذه العائلات في رسم معالم التاريخ المحلي العام لمدينة تطوان.
لقد قيل الشيء الكثير عن إسهامات أسر مدينة تطوان في إكساب المدينة هويتها الثقافية المميزة، ومسارها السياسي التحرري الفريد، وعطائها الحضاري الذي اشتهرت به. وقد برزت -في هذا السياق- أعمال رائدة ساهمت في وضع لبنات البحث والتقصي، مثلما هو الحال مع أعمال أحمد الرهوني ومحمد داود ومحمد ابن عزوز حكيم. ومع ذلك، فقد ظل الموضوع في حاجة إلى مزيد من البحث ومن التدقيق، بحثا في التفاصيل المنسية وفي الجزئيات المرتبطة بعوادي الزمن والإنسان. ولعل هذا ما أدركه المؤلف وهو يضع مؤلفه الجديد، عندما قال في كلمته التقديمية: “يكتسي البحث في التاريخ المحلي أهمية قصوى في عملية إعادة كتابة التاريخ الوطني، وذلك لما توفره الدراسة المونوغرافية من إمكانية التحري حول الأحداث والوقائع والتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها حاضرة من حواضر البلاد. ولا شك أن جانبا هاما من هذا البحث يمر عبر استثمار المعلومات الهامة التي توفرها الوثائق المحلية العائلية، مما يتطلب التعرف على العائلات الكبرى التي قد تتوفر على إرث وثائقي هام…” (ص. 7).
وبخصوص تخصيص موضوع كتابه لعائلة زوزيو، يقول المؤلف: “تعد عائلة زوزيو من بين العائلات التطوانية المعروفة، وهي، ككل العائلات الكبرى، بحكم كثرة فروعها، وتعدد العائلات المصاهرة لها، يصعب التعرف على مختلف أفرادها، وضبط الأسر المشكلة لها. وما يزيد من هذه الصعوبات، أن أسماء بعض أفرادها تتكرر عدة مرات، من جيل إلى آخر، وأحيانا، تتكرر داخل نفس الجيل… ومن هنا كانت الرغبة في إعداد هذا الكتاب، لعله يضيف إلى الخزانة التاريخية بتطوان مرجعا يساهم في تبديد كل هذه الصعوبات. وفي نفس الوقت، يمكن من التعرف على عدد من الوثائق المخزنية، والمخطوطات العائلية، ومن الكشف عن كل العائلات المصاهرة لآل زوزيو…” ( ص ص. 7-8).
ولإنجاز هذا العمل التنقيبي الهام، سعى المؤلف إلى تجميع كل ما يرتبط بعائلة زوزيو من وثائق ومخطوطات عائلية، عبر الاتصال بمكونات العائلة وبكل التقاطعات المرتبطة بفعل المصاهرة الممتد في الزمن. وفي كل ذلك، ظل المؤلف يسترشد بأمهات تصانيف تاريخ مدينة تطوان، وعلى رأسها تلك التي خلفها أحمد الرهوني ومحمد داود ومحمد ابن عزوز حكيم. وفي هذا السياق، كان واضحا ابتعاد المؤلف عن استثمار المرويات الشفاهية المتوارثة عبر السماع بين صفوف الناس، لما لذلك من مهاوي يمكن أن تؤدي إلى الانحراف في المقصد وفي التدوين وفي الاستثمار، حسب ما نبه المؤلف -نفسه- إلى ذلك في كلمته التقديمية. ولعل من عناصر القوة في هذا العمل، إصرار المؤلف على اعتبار عمله مجهودا فرديا قد يطاله التقصير أو النقص، مما يشكل سمات أي دراسة علمية نزيهة تتوخى الصدق والمصداقية.
ولتغطية جوانب هذا النبش، قام المؤلف بتوزيع مضامين الكتاب بين أربعة فصول متراتبة، اهتم في أولاها بالتعريف بعائلة زوزيو استنادا إلى الوثائق والمصادر التاريخية، وانتقل في ثانيها للتعريف بالمناصب المخزنية التي تولاها أفراد من عائلة زوزيو، وخصص الفصل الثالث للتعريف بالعائلات المصاهرة لآل زوزيو، وختم كتابه بتخصيص الفصل الرابع لتقديم حصيلة ثرية من الوثائق والمخطوطات المخزنية والعائلية الخاصة بعائلة آل زوزيو. ويمكن القول إن هذا الفصل الأخير يقدم مادة دسمة يمكن أن تشكل -بمفردها- موضوع أطاريح جامعية متخصصة، خاصة وأن الأمر لا يتعلق بتعريف تقني بالأسماء وبالأنساب وبروابط المصاهرة، بقدر ما أنه يشمل كل التقاطعات المجتمعية التي وجد أفراد عائلة زوزيو أنفسهم في خضمها كفاعلين وكمؤثرين وكموجهين للأحداث الكبرى التي عرفتها مدينة تطوان ومعها مجموع المنطقة الخليفية خلال عهد الاستعمار.
لم يكتف الأستاذ أجزول بنشر النصوص الأصلية للوثائق، بل حرص على إعادة رقنها بطريقة حديثة، تسهيلا لعمل الباحثين والمؤرخين. كما أن العمل احتوى على العديد من الصور الفوتوغرافية والخطاطات التفصيلية والجداول التوضيحية والمعطيات الموازية، لتقديم التوضيحات الضرورية حول الأصول وحول الأسماء وحول الأعلام وحول الامتدادات المرتبطة بفعل المصاهرة. وفي كل هذه المستويات، ظل الأستاذ الطيب أجزول حريصا على ربط سير أعلام آل زوزيو بمجمل مظاهر عطائهم داخل بيئتهم المحلية بمدينة تطوان خلال عهد الاستعمار، مثل المناصب المخزنية والوظائف الخليفية والأدوار المجتمعية، مما يشكل فحصا مجهريا ضروريا لتمهيد الأرضية لكل دراسة تاريخية أكاديمية تسعى للاستماع إلى نبض التحول داخل المجتمع المحلي من خلال رموزه ونخبه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
أتصور، لو أن كل عائلات مدينة تطوان اختارت تعميم وثائقها الأسرية والمخزنية عبر إخراجها من ظلام الأرصدة الرطبة. وأتصور لو أن النخب المحلية أعادت الاعتبار لأرصدة آبائها وأجدادها الوثائقية. وأتصور لو أن الباحثين والمؤرخين المعاصرين عادوا لتنظيم أولوياتهم في الدراسات المجهرية الفاحصة لإبدالات واقع مدينة تطوان “الذي كان”. لا شك أن ذلك سيعيد قراءة بياضات المدونات الرسمية والتصانيف التاريخية الكلاسيكية. وبديهي أن الكتابة التاريخية العلمية المعاصرة تكتسب من القوة المنهجية ومن العدة النقدية ومن الصرامة العلمية، ما يجعلها قادرة على بلورة آليات متقدمة في الكتابة المونوغرافية التي تعطي الأولوية لتفاصيل “اليومي” ولجزئيات سير الفاعلين داخل وسطهم المحلي الضيق، بانعكاسات ذلك على وقع الحياة العامة، وبامتدادات ذلك على مستوى صناعة التحولات الكبرى بعموم البلاد.
أسامة الزكاري