تحت سماء مدينة أصيلة، وبين ربوعها الفنية، ولدت وترعرعت الفنانة التشكيلية سوسن المليحي،حيث نشأت في حضن المدينة الدافئ، ونسيم هوائها العليل، و هدير محيطها الأطلسي،وجمال طبيعتها الفاتن، واستكانت إلى هدوء سكانها البسطاء، وتشبعت بثقافتها الفنية فسبحت عيونها في بحر جدارياتها، ونهلت من معين موسمها الثقافي الدولي كل سنة، ورضعت من ورشاتها بمرسم قصر الثقافة.
في صخب هذه االأجواء الثقافية الفنية، تفثقت هوايتها وأفرغت ما في جعلتها من غور الفن وخباياه، كيف لا وهي تنتمي إلى عائلة آل المليحي المشهود لها بتاريخ فني،فكان من الطبيعي وسط هذه الأجواء والإنتماء إلى المحيط الفني الذي تسوده الريشة واختلاف الألوان والأشكال، أن ترد الفن من هذا الينبوع لتكون سوسن المليحي فنانة بالسليقة،إلا أنها سقلت موهبتها بتكوينها أكادميا بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان ،والإحتكاك بالعديد من الفنانين من مختلف بلدان العالم خلال مشاركتها بورشات فنية بمرسم أصيلة الثقافي الدولي،وتكويناتها وبحثها وتنقيبها المستمر في المجال الفني.
انساقت الفنانة التشكيلية سوسن المليحي في تجاه الفن التجريدي المعاصر،مطوعة المادة والتقنية بأسلوب حداثي مختلف.
بزغ عالمها الفني إلى الوجود بمشاركتها في من معارض فنية فردية وجماعية، وورشات وتكوينات وتنشيط ورشات تربوية، واشتغاها على عدة منشآت و أعمال تركيبية ضخمة.
تميزت لوحات الفنانة سوسن المليحي بلمستها الأنوثية المتفردة المصبوغة بالصوف ا لمختلفة الألوان وبالورق الطبيعي المدور والملون أحيانا بألوان مفتوحة وأحيانا أخرى بألوان ناصعة زاهية مبهجة تغذي العين كما تغذي القلب بالإضافة إلى مواد وتقنيات جديدة كالحياكة واستعمال عود الشجر الطبيعي والخيط والصوف والأسلاك …
بتتبع سلسلة الأعمال التي احتوتها المعارض التي نظمتها أوشاركت فيها الفنانة نجدها انطلقت في مجموعتها الأولى بدء بأوراق طبيعية شفافة تقوم الفنانة بتدويرها ملونة إياها بألوان أنثوية طبيعية باهتة مأخوذة من مواد طبيعية ،(كالزعفران والفلفل الأحمر …..)إلى صباغتها بألوان ناصعة مبهجة و ملفثة للنظر ،وصولا إلى حياكة الصوف و نسج الحروف والأشكال فوق الورق المدور الثابت فوق اللوحة الفنيةفي تماه تام مع الموروث الفني، واسترجاع للذاكرة الثقافية في محاكاة للأصالة والمعاصرة.
فضلا عن اشتغالها في لوحاتها التشكيلية على الحظ وكيفية تصريف الطاقة الإنسانية بحركية عفوية وحرية مجردة من الضغوطات والقيود التي تكبل حياة الإنسان وتمنعه من التقدم والسير إلى الأمام.
بهذا العمل الدؤوب وسعيها المستمر إلى التجديد والإبتكار لإكتسابها كل مواصفات التفرد،استطاعت الفنانة أن تشارك بعدة منشآت كمجسمات كروية الشكل بأسلاك ملفوفة بالصوف المختلفة الألوان متشعبة و متداخلة فما بينها لتنئ بنا عن النمطية، بكسر قيود الشكل واللون إلى السير نحو خطابا جماليات بصريا بابعاد تمنح المتلقي مساحة أوسع نحو استنطاقه للإبداع المجسد أمامه،و منشآت بمواد طبيعية كعود الشجر الطبيعي وأخرى زجاجية شفافة على شكل مكعبات زجاجية شفافة جاعلة بداخلها صوف مختلفة الألوان مبللة بالماء لتعبر عن المرأة وبراءتها وأحاسيسها الجياشة، فأصابت الفنانة بهذا العمل االتركيبي الإختراعي في جعلها المكعب الزجاجي كناية عن المرأة الشفافة القابلة للإنكسار،والصوف المبللة كناية عن أحاسيسها الدافئة التي بردت في زمن الماديات والتصنع، فتألقت بذاك العمل الفرادي الذي كان مغيرا للفضاء،ومحيرا للمشاهد ،نافذ إلى عمقه ، خارقا لوجدانه ،وعقله.
إن الفنانة في بحث متواصل دون فتور، لتصوير الواقع بطريقة مبتسمة ومبتهجة، تحمل في طياتها شعائر مجللة بالحب والمصداقية التي أكسبتها كل مواصفات التفرد باعتبارها فعل إنساني نبيل وراق قريب الانقراض.
يبدو جليا من خلال المسار الفني لسوسن المليحي وتراكم رصيدها الفني، حيويتها في الإشتغال ،وفي إغناء التجربة الشخصية التي أبانت عنها منذ معارضها الأولى ،وعدم ركونها إلى اجترار ((السهل)) و ((الجاهز)).
كل ذلك مطبوع بلمستها الأنثوية الشفافة الناعمة حارصة كل الحرص في وضع أعمالها الفنية في وعاء جمالي راق،مبتعد عن كل ماتشمئز منه النفس أو تقرفه.
للفنانة حضور فني واضح يكشف عن قوة أعمالها ومدى اجتهادها واجتهاداتها ،تحاول في صمت رصد واقع مبتسم لذلك أعتقد أن الفنانة ربحت رهان التألق بتفردها بأعمالها ومضوعاتها الفنية المتميزة المتجرئة على وجدان المشاهد و المشوشة لأفكاره.
إنها مسيرة فنية دسمة تومئ على خبرة أكاديمية رفيعة احتضنتها الفنانة ،وتركت بصمتها على أوجه العمل لديها كما كشفت عن قدرات كبيرة لدى هذه الفنانة في إغناء آليات الإشتغال وفي تطعيم الرصيد الشخصي وفي الحرص الشديد على البحث الجديد دون ملل ولا كلل،الأمر الذي جعل مسارها الفني حافل بالتنوع والابتكار والإجتهاد.
إن الفنانة ذكية و مشاغبة في إبداععاتها تشاكس النظرة البصرية، فتجعلها حائرة بين لوحاتها ومنشآتها وأعمالها التركيبية، محاولة إيجاد مربط الفرس بينهم .
إنها ممارسة فعلية تتفاعل مع الفنان وتفعل فيه،إنه تفاعل مع المادة والريشة والتقنية داخل نسيج فني محبك بشكل متقن فهما وإدراكا وإتقانا.
اختارت الفنانة سوسن المليحي أن تشتغل تحت بردة ساترة أسرارها الفنية، لتبهرك بعد تعريتها وكشفها عن تفجير طاقة جمالية بشظايا فنية، في كنهها رموز وإيحاءات وخيال واسترجاع للذاكرة وحوار مع المرورث، لتصوير واقع نقي مبتسم طاهر وشفاف.
إن الفنانة متعددة المنطلقات ومتجددة الرؤى، تستلهم عناصر خامة تطوع بها المادة و التقنية الفنية لتسوقها كمنتوج إبداعي جديد، وبأسلوب أدق وأوضح إنها فنانة تنتج من لا شيء أشياء …مثالا للمرأة الأصيلية ((الزيلاشية)) المدبرة الأصيلة.
شروق المليحي