إذا كانت مظاهر الناس وأزياؤهم صورا تعكس نوعية حياتهم، وطريقة تفكيرهم، ومستوى عيشهم، ودرجةَ تقديرهم لمعاني التناسب والأناقة، والتنسيق واللياقة، فإنها تكون بالتالي مرآة تترجم مدى ما وصلوا إليه من المدنية والتطور، ومن الرقي والحضارة. ومن هنا نجد أن لباس كل مجتمع، إنما يتسم بالسمات التي نتجت عن تفاعل عناصر ذلك المجتمع، وتأثرها بمختلف العوامل السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مما كان له انعكاس على أفراد ذلك المجتمع في شتى مكوناته ومظاهره.
ومما لا شك فيه، أن لباس أهل تطوان، وخاصة لباس المرأة، قد تميز بمميزات معينة، كانت نتيجة لعواملَ تاريخيةٍ أدّت إلى اندماج حضارات وثقافات متباينة، وانصهارها في قالب جديد ذي طابع محلي، هو الذي انبثق عنه ما عُرف بالزي التطواني الأصيل. فلقد عرفت تطوان هجرات حضاراتٍ عريقة، أهمُّها حضارة الأندلس التي حملتها معها جملة العائلات المهاجرة، التي جددت واستوطنت هذه المدينة، بعد خروجها من ذلك الفردوس المفقود، فكونت – مع أهالي المناطق الجبلية والريفية المجاورة لها، وكذا مع أهل فاس الذين هاجروا إليها وساهموا في إعادة بنائها –، ساهم كل هذا المزيج في تكوين نواة أساسية لسكان هذه المدينة، وذلك منذ إعادة بنائها في أواخر القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
ثم كانت بعد ذلك هجرة العائلات الجزائرية، المتأثرة أصلا بالحضارة والثقافة الأندلسية أيضا، وكذا بالحضارة التركية العثمانية، فقصدت كثير من هذه العائلات مدينة تطوان في مختلف الفترات التاريخية، وخاصة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بعد احتلال الجزائر من طرف فرنسا، حيث كان لهذه الأسر بدورها تأثيرٌ في مسار الحياة الاجتماعية بمختلف مظاهرها في هذه المدينة، ومن ذلك بالطبع، تأثيرُها القوي في طريقة اللباس.
ثم لا ننسى أن تطوان – بموقعها الحدودي المتميز – كانت دائما مقصدا لوفود الأفراد أو الجماعات من مختلف المدن المغربية الأخرى، التي كانت وما زالت إلى الآن، تفد عليها بقصد التجارة أو غيرها من الدوافع، فتستقر بها، وتنصهر مع بيئتها وسكانها، فتتأثر بها، وتؤثر فيها إلى حد معين بطبيعة الحال. هذا فضلا عن الظروف السياسية، التي جعلت من تطوان في نهاية القرن 19 ثم في بدايات القرن 20، مقصدا، بل مركزا لحضور الإسبان الذين لا شك أنهم أثروا في المجتمع التطواني إلى حد كبير.
لباس المرأة التطوانية وزينتها:
وبتتبعنا للباس المرأة التطوانية عبر القرون التي عاشتها هذه المدينة منذ تجديدها، يمكننا أن نلاحظ التطورات الكبيرة التي طرأت على هذا اللباس مع تغير الزمان والظروف، حيث إنه قد خضع لتغييرات تكاد تكون جَذرية. فلقد كانت السيدة التطوانية قديما، رمزا للمرأة المحافظة، الملتزمةِ بما تقتضيه تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، والتقاليد المغربية العريقة، من سمات الرزانة والحشمة والوقار، مع ما ورثته عن جداتها الأندلسيات من مظاهر الحضارة والتأنق، مما دفعها إلى الانشغال بنفسها وبمظهرها الخارجي، بما في ذلك من العناية بما يميز الذوق الأنثوي عموما، من الرغبة في الظهور بأحسن وأجمل حلة، مع اهتمام كبير بمظاهر التنسيق واللياقة والتزين بكل ما هو جميل ورفيع.
وقد توالت على زي هذه المرأة فترات، خضعت فيها لظروف جعلتها تغيّرُ من مظهرها، وتطوّرُ لباسها، وتجدّدُ في طريقة زينتها، مما لوحظ معه أنها – مع حفاظها على مقوماتها – قد سايرت العصر، تبعا لما عاشه مجتمعها من تطورات كان لها بالغُ التأثير في هذا الجانب من مظاهر حياتها. ولبيان تفاصيل ذلك، فإننا سنحاول تتبع لباس المرأة التطوانية وتطوره، حيث سنقف على مكونات لباسها اليومي في بيتها، ثم على لباسها في مختلف المناسبات الاجتماعية التي تتطلب عناية خاصة، وذلك حسب ما تيسر لنا من المعلومات. من هنا نجد أن هذا اللباس كان قديما يشتمل على ما يأتي:
أولا: الملابس الداخلية، وتتضمن ما يلي:
القـْميجّة: وهي القميص الذي يوالي جسم الإنسان، ويكون من القماش الأبيض المعروف باسم (السحان أو الكريمساطي أو الروّان)، وتكون هذه القميجة طويلة على قدر طول صاحبتها، ذات كمين طويلين واسعين جدا من جهة الكفين، ومغلفين بحواشي أو زوائد من القماش الخفيف المعروف بالجاوي أو النسري أو الفشوش، بحيث يُقلب طرفاهما على كمّيْ القفطان ليُربَطا معاً من ناحية ظهر المرأة، وهذا النوع من الأكمام يطلق عليه اسم “الزّكادْن”، ومفردها “زَكْدُون”، وهذه الزكادن هي التي تُرفع بواسطة التخْميل من الوراء.
أما القَوْرة أو القُوَارة([1]) (أي فتحة العنق) في القميجة فتكون مزينة بـغرزة “الرَّندة” أو بـ “السجْفة”([2]) الواقفة المسدودة، التي تخاط بـغرزة يطلق عليها “المارُوجي” وتقفل بواسطة جوهرة أو مرجانة، كما أنها قد تعوض بطوق يهيأ بواسطة الكْرُوشي، ويغلق بالجوهرة أو بالمرجانة أيضا، ويستعمل خصيصا لستر العنق. أما أطراف القميجة السفلى المعروفة بـ “الزّلايل”، فتخاط بـغرزة يقال لها “الحَرْبول بعَيْـنـُو”، وهو ما يعرف عند المتأخرين باسم غرزة “البَيْـنيكا = (وهو لفظ إسباني Bainika).
السروال: ويكون إما من ثوب “السحان” أو “الكمخة” أو “الكريمساطي” ذي اللون الفاتح في فصل الصيف، أو من ثوب “الملف” أو “السَّرْكة” في فصل الشتاء. ويخاط على الهيئة التي تعرف باسم “القندريسة”([3])، حيث يكون واسعا نسبيا مما يلي الفخذين، وطوله إلى الساقين، مع أرجل ضيقة ذات شغل وطرز بالحرير الملون بلون واحد، ثم القيطان. ويقفل السروال بـ “التـُـكّة”([4])، وهي عبارة عن شريط طويل من الثوب، قد يكون عاديا بدون زوائد، وقد تشغل أطرافه بالطرز بالحرير من لون معين، ثم تجعل له “جُمَيْمات” أو أهداب من الحرير تعرف بـ”الغراصين”.
البدْعِيّة أو الصّدريّة: وهي لباس يلي الناحية العليا من الجسم فقط، وتكون مفتوحة من الأمام، وتكون واجهتها من ثوب القفاطين الرفيع (الملف أو الكمخة أو الاطلس أو الياسة … إلخ)، أما ما يلي الظهر والجانبين، فقد يكونان من ثوب مخالف عادي. ويزين طوق البدعية بشغل يسمى “الزّوِينة”، ويمر البرشمان الرباعي الواسع على العنق والفتحة الأمامية، ثم تغلق بـ “العقاد” مع “العينين”، أما ما بين “العينين” فيطرز بالحرير.
ثم الملابس الخارجية، وأبرزها بالطبع هو:
القفطان: وكان القفطان في القديم يصنع من أنواع كثيرة من القماش الذي تتفاوت نوعيته وجودته وقيمته، وكذا صلاحيته حسب فصول السنة، فمن ذلك القماش ما كان يستورد من الخارج، ومنه ما كان يؤتى به من مدينة فاس بالخصوص، ومن أنواع وأسماء هذه الأقمشة مثلا: اللندريز – اسبانيا – فرعون – المشجر الكبير – الكمخة – الزردخان – الفرْخ – الفردوْس – الحاج عُمر – ابنو دالغول – الاطلس – الكْراماسو – الزيْن بْلا لـُولة – الياسة – الملف – السّرْكة – القْمارات – القالاجا – جَهنم – التوْبيت – السّطاري – الطلْسِيّة (وهذان الأخيران كانا يلبسان في حالة “الوقار” أي الحزن على وفاة أحد الأقارب).
ويلبس القفطان في الأيام العادية بدفين فوقه، أما في المناسبات والتجمعات الاحتفالية فيُلبس وحده، أي بدون دفين فوقه، وتكون خياطته بزوائد في جانبيه تعرف بـ “لجْناب”، كما تكون له فتحة من الأمام، حيث يجعل طرفه الأيمن فوق الطرف الأيسر، ويدور على أطرافه كلها قيطان ذو لون أسود ومذهّب، وذلك مهما تغير لون أو نوع القفطان.ويحمل صدر القفطان عيونا وعقدا لا تقفل، وشريطا من “الكارون” بالإضافة إلى شغل “الخُنجَر” أو “البُورِيّة”. فالخنجر شغله كبير وثقيل، بينما البورية شغلها خفيف بسيط.
ولقد عرف القفطان التطواني تطورات كبيرة خلال أواسط القرن العشرين، حيث تأثرت السيدة التطوانية بمظاهر الأناقة الغربية، فجعلت قفطانها ذا واجهة مغلقة من أعلاه إلى أسفله بواسطة العينين والعقاد، كما جعلت اليقامة التي يشغل بها القفطان من خيوط الذهب الخالص أو الفضة الخالصة، أو من الحرير الذي يراعى فيه لون القماش الذي صنع منه القفطان، ويكون هذا الشغل بطريقة دقيقة متقنة، كما سمحت السيدة لنفسها بارتداء القفاطين ذات الألوان الزاهية، وحدها أو مع دفائنها التي تناسب ثوب ولون القفطان.
وفي هذه الفترة، جعلت السيدة قفطانها على هيئة واسعة من جهة الأطراف السفلى، وضيقة من ناحية الصدر والأكمام، متأثرة باللباس الأفرنجي الدخيل مع مظاهر الاحتلال الأجنبي للبلاد، بحيث أصبح القفطان يضبط معالم جسمها، كما ضيقت وقصرت من أكمامه، فأظهرت ساعديها، واستغنت عن الحزام التقليدي العريض الذي سنتحدث عليه فيما بعد، لتتحزم بالمضَمّة الحريرية، ثم الذهبية؛ كما استغنت عن كل ما كان يستر شعرها من مناديل وخرق ومكملات، لتصفف شعرها على الطريقة الأوربية، فأظهرت شعرها من الجهة الأمامية، بينما غطته من الوراء بمنديل حريري رهيف يسمى (هِينا)، لتثبت وتصفف هذا المنديل على هيئة معينة بواسطة دبابيس، مع طي أطرافه من الوراء على هيئة زهور.
وبعد تلك الفترة، طورت السيدة مظهرها من جديد، لتظهر شعرها كله، مكتفية بتصفيفه على الطريقة الأوربية، وخاصة في المناسبات، فكانت السيدة تضع على جانب من شعرها قطعة من الحلي الثمين، أو تضع ما كان يعرف بالرّكيزة، وهي عبارة عن باقة من الزهور الصغيرة الحجم، كالورد الحر والياسمين والنسرين والفل والبنفسج والزهر المعروف باسم (عاشق جارو) … التي تزين بها شعرها أو صدرها، أما السيدة الكبيرة السن فإنها كانت تضع الركيزة على جانب من رأسها فوق الهليكة أو الحراز.
الدفين: وهو ما يلبس في الأيام العادية فوق القفطان، ويكون قماشه خفيفا أو شفافا، أما طوقه فيكون مشغولا بـما يعرف بـ “الزوينة”، وأما أطرافه فتكون مغلفة بـ “السجوف” لتقويتها. وأشهر أنواع وأسماء الأقمشة التي كانت تهيأ منها الدفائن هي: الفن – الفن الكبير –الدّك عْليه – شَكّ يبْرة – هِينا – بولَهْوَان – الفْشوش – الرِّضى – مخبّل لعْقُول – النار ف السّلوك والقلب المهْلوك – البلّار – النسْري – الثلج على لجْبال – الضُبْلون – الجاوي دالخيط – الجاوي دالحرير – البْنايْنو – الزهَر – القمَر – الحْريشة – المْويتة. وتجدر الإشارة إلى أن الدفين لم يكن في تطوان إلا أبيض اللون في الغالب، وإلا فهو ذو لون فاتح جدا، ولم تعرف السيدة التطوانية الدفائن ذات اللون الغامق إلا بعد الاستقلال وتوحد البلاد، وامتزاج الأذواق وتقارب وسائل التفاعل مع باقي المدن المغربية.
الحزام: كانت المرأة التطوانية قديما تشد وسطها بواسطة حزام واسع من 20 أو 30 سنتيمترا، طوله نحو 3 أمتار، بحيث يدور على خصر المرأة عدة دورات ليقفل بواسطة الأهداب أو “الغراصين” المتدلية منه. والحزام القديم أنواع:
- الحزام “الصام”: وكان يستورد من فاس، وهو مصنوع من ثوب الزردخان الحريري المزخرف بخيوط الذهب الخالص.
- الحزام “المنصّص” أو “دَقّ المْويكْنة”: وهو المصنوع من خيوط الحرير أصلا، إلا أنه يكون مشغولا بزخارف من عناصر نباتية، أي من ورود وأغصان من حرير وذهب. كما يعرف هذا الحزام بالحزام على جُوج، بمعنى أن له وجهين يُستعمل على أيّ منهما.
- الحزام “المثَقّل”: وهو الذي كان يصنع ويخدم بـالمنساج أو “المْرَمّة” من خيوط الذهب والحرير من لونين، حيث يبدو بخطوط منهما معا، ويقول المؤرخ الرهوني إن هذا الحزام قد أحدث بتطوان بعد هجرة الأسر الجزائرية إليها، فكان الجزائريون هم الذين يصنعونه بها.
- حزام “الجَوْزَة” أو “الحَسْبي” وهو حزام منسوج من الحرير الخالص، دون خيوط ذهبية، وهو خاص بالسيدات المتقدمات في السن، وكذا الإماء.
- حزام “الفايْجة”: وهو الحزام الخاص بالطفلة الصغيرة، وكان هذا الحزام على هيئة شريط من القماش المخيط بغرزة الماروجي، بواسطة آلة الخياطة، مع أهداب في أطرافه يُربط بها.
هذا ما كان معمولا به من الأحزمة في القديم، أما في أواسط القرن العشرين، وبعدما تخلت السيدة التطوانية عن قفطانها القديم، وغيرت مظهرها إلى مظهر جديد، فقد تحزمت كما ذكرنا سابقا إما بالمضمة الضيقة المشغولة بالحرير أو بخيوط الذهب، مع إبزيم تغلق به يعرف بالفكرون، وهو عبارة عن قطعة من الذهب المنقوش على هيئة شبيهة بالسلحفاة – وذلك سبب تسميته بالفكرون– وغالبا ما يكون هذا الفكرون مرصعا بأنواع من الأحجار الكريمة. كما عرفت السيدة التطوانية في هذه الفترة أيضا أو بعدها بقليل، المضمة المصنوعة من الذهب الخالص، فصارت تتحزم بها خاصة في المناسبات السعيدة.
التخْميل أو المْشامَر: والتخميل شريط من جدائل حريرية، مع مقابض معقودة من خيوط ذهبية، تلبسه المرأة على كتفيها فوق القفطان والدفين، لتشمر به أكمامها الواسعة المعروفة بالزكادن، وقد مرت فترة معينة خلال القرن العشرين، اقتنت فيها بعض نساء الطبقة الميسورة بتطوان تخميلا أو مشامير من سلاسل من الذهب الخالص.
[1] – القوارة في لسان العرب هي كل ما قورت أو اقتطعت من وسطه شيئا، فهو مقور,
[2] – السجفة لفظ فصيح بمعنى مل يركب على حواشي الثوب … ومنه سجوف الدفين.
[3] – هناك خلاف في أصل تسمية هذا النوع من السراويل بهذا الاسم، فهناك من ينسبه ليهودي فرنسي كان يخيط هذه السراويل اسمه (أندري عيسى). وهناك من ينسبه لفرنسي كان اسمه أندري André حضر إلى فاس فأسس شركة لصنع هذا النوع من السراويل المغربية فكان اسم الشركة (André S. A. أندري س أ) فنطق بها المغاربة (قندري سا). وهناك من يرجع الكلمة إلى أصل إسباني (ِCandaliza) وهي الشريط أو الحبل الذي تشد به أو ترخى أشرعة السفن، مثل التكة التي تشد بها هذه السراويل. وقد حرف اللفظ فأصبح قندريسة عوض قندليسا، وهو اللفظ الذي ما زال التونسيون محافظين عليه، إذ يسمون هذا النوع من السراويل: قندليسة.
[4] – اللفظ عربي ورد في لسان العرب: التكة بكسر التاء هي رباط السراويل وتجمع على تكك بكسر التاء وفتح الكاف.
(يتبع)
حسناء محمد داود