هذا هو نص العرض الذي شاركت به في ندوة يوم الثلاثاء 5 يوليوز 2022 لتقديم كتاب “سيرة ومسارات، مذكرات” للأستاذ عبد الواحد القلالوسي، وهي الندوة التي نظمتها مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة بتطوان.
مواطن العبور في سيرة عبد الواحد القلالوسي[1]
دراسة للمذكرات من جهة مقدماتها النفسية والأدبية
بقلم د. الحسن الغشتول
لما كان الهدف من هذه القراءة هو أن نحيط بمذكرات عبد الواحد القلالوسي من جهة مقدماتها النفسية والأدبية، ارتأينا أن نتساءل ماهي الصورة التي تنطبع في الذهن عن الكاتب وعن الصيغة التي اختارها لعمله؟
ولعلنا نطمئن في البداية إلى صورته كما وصفه رفيق عمره الأستاذ المبدع رضوان احدادو؛ فهو مثل مياه السواقي التي تحن بعد مواسم الجفاف إلى مجاريها.
من أين تنشأ هذه الصورة؟ هل هي نتاج ما أظهره السارد وحرص على توثيقه، أم هي نتاج تداخل الرغبات والأحلام بـ”المسارات” التي يتم رصدها وفق بناء خطي يراعي التراتب الزمني؟
وجوابا منا على هذه التساؤلات نؤثر الاقتراب من بعض الأمارات النصية، ونبدأ بعتبة العنوان باعتباره تثبيتا لقاعدة مفترضة في عملية الفهم. فهذا العنوان يحفز على أن تنهض القراءة في حدود نسق المذكرات التي يقر صاحبها بدنوها من السيرة الذاتية. ونحن لا نظن هذا التجاور أمرا اعتباطيا بقدر ما نرى فيه إصرارا على انفتاح الجنس الأدبي على شرفات معنوية تتيحها رغبة متأصلة للتعبير عن الذات.
لا نملك إلا أن نحترم هذا القيد الأجناسي الذي يحصر العمل في جنس المذكرات، وإن كنا نعي بأثر التمرد الرومانسي خلال القرن التاسع عشر حيث أفسح المجال للحديث للتشكيك في صفاء الأنواع الأدبية. وحتى إن كان للنقاد موازين يقدرون بها الأعمال فإن هذا الأمر لا يبعث على إلغاء الموثق الأجناسي الذي يتمظهر بالشكل المقنع على النحو الذي تضمره عملية الكتابة.
إن المذكرات كما نعلم هي مجموع ملاحظات تدون ابتغاء الحفاظ على أثر ما. إنها كما يحيلنا معجم الأكاديمية الفرنسية لعام 1694 علاقات بين وقائع وأحداث خاصة تخدم التاريخ. أليس التاريخ في أصله نتاج ما يروى من وقائع؟
وبمقدار حرص الكاتب على تثبيت معاقل تاريخية مخصوصة لمذكراته، فإنه لا يميل كل الميل إلى التوقف عند حدود جنس المذكرات إذ يوحي للقارئ بأنه ماض نحو تجربة أخرى مجاورة وهي تجربة السيرة الذاتية. إنه ضرب من التناول اللين والناعم لمفهوم المذكرات Mémoires وفق المعنى الذي يعطيه له بول فيرلين Paul Verlaine
ونحن كلما تدرجنا في متابعة الأحداث المروية وانفتحنا على الأزمنة والأمكنة التي أحاطت بها، وجدنا أنفسنا أحيانا أمام حكايات تعكس صورا دقيقة تتشابك فيها المواقف وتتباين الطباع وتختلف إزاءها الأفعال، مع هيمنة بائنة للحس التوثيقي والطابع التقريري. فنتعقب ردود الفعل الصادرة من رجل سلطة يسعى إلى إيجاد حلول لنزاعات أو مشكلات وفق ما ترسب لديه من مراس وخبرة وما جبل عليه من أخلاق وما تربى عليه من قيم. كانت النوازل والحوادث العارضة في الأرياف والمدن التي مارس فيها الراوي مهنته تحرك فينا بين الفينة والأخرى فضولا للعودة إلى كتب السيرة واليوميات، فترانا نستحضر مثلا مرويات توفيق الحكيم في يوميات نائب في الأرياف التي انبنت بناء دراميا عماده الاغتيالات والتحقيقات الجنائية والحرائق الغامضة مع رسم ملامح الشخصيات وكشف الصراع القائم في مجتمع الريف المصري بطرق بلاغية تجعل حس التوثيق مقرونا بالتخييل. إنها الرغبة العميقة من أجل التمسرح في الواقع.
نتوقع أن يسعى القلالوسي إلى الهدف نفسه، لكن بطريقة ضمنية تولي الاعتبار لذلك البناء القيمي المجرد، الذي يتبدى فيه الوجود الإنساني بصفته وجودا استعاريا دالا.
لهذا نعتقد أن مفهوم السلطة لم يكن نشازا في هذا المطمح لدى الكاتب. فليس في السيرة المدونة ما يشير إلى الانفكاك والقطيعة. لا نلمس فيها ذلك التشهي بالسيطرة والاستحواذ والتجبر. وإنما ينأى عبد الواحد القلالوسي بنفسه عن كل ذلك، ويحرص على أداء مهماته في إيهاب من الفضيلة ومراعاة لكرامة المواطن، وتحل بروح الاستقامة وتحمل للمسؤولية. ولقد وضح موقفه من السلطة في أكثر من موطن، حيث قرنها تارة بالقدرة وتارة أخرى بالمسؤولية، وحث على النظر إليها من وجهة تشاركية تفاعلية.
وكأن أسرار الابتهاج أخذت تسري خفية في أنفاس ” ديونيسيوس”، أو بالأحرى هكذا يخيل لقارئ المذكرات الضمني حينما يدرك أن السارد وجد ضالته في السلطة التلاؤمية التي يتم بواسطتها تبادل الآراء والمعتقدات؛ فعن طريق الإقناع والتثقيف والالتزام يخضع الانسان لرغبة الآخرين. ومعلوم أن هذا النوع الأخير من السلطة هو الذي يتوافق مع الأنظمة الديمقراطية المعاصرة، وهو المفهوم الذي تمثلته المذكرات في كل أطوارها.
ولئن استشعرنا تحولا جليا في نهاية المؤلف، يتخذ مظهره في الانصراف إلى الفن أو هو استرداد لدين رمزي وجبلة لا تنسى، فإن ما صاحب ذلك التحول من نقد ألح فيه الكاتب على إبراز النقطة السوداء متمثلة في غياب مبدإ الإنصاف عند تحريك آليات الترقي في الوظيفة الخاصة، هو نقد ينبع من صميم فهمه الخاص لرسالته من حيث هو رجل سلطة.
وهنا ننبه إلى أصالة هذه المذكرات لأنها تحكي عن الناس من أهل الطيبة والمروءة وكذا من ذوي الزغل والخداع والضغينة، وغيرهم من أهل الجشع والخسة والضعة. لا تحكي عنهم في المتخيل من نسيج الحكي، وإنما بلسان من تقلد مهام مباشرة في تدبير حالهم ومعاشهم، ذلك أن من المهام الأساسية للقائد كما يقول عبد الواحد القلالوسي هي تأطير الناس وترشيدهم وحمايتهم وحماية ممتلكاتهم، والسهر على النظام والأمن العامين، غير أن طبيعة هذه المهام تحتم على القائد أن يتحلى بالأخلاق الحميدة، وأن يكون مثلا للناس في تصرفاته ومعاملاته، وأن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يثير حساسيات المواطنين واستفزازهم.[2]
وفي هذا الصدد أقتطف من المذكرات حكايات مرشحة لتلبس لبوسا استعاريا كما ألمحت سلفا. لعلها تتسربل بحلة جديدة عنوانها : السلطة من الحقيقة المفصح عنها، إلى المشاعر المخفية. فليس من شيء يضمن السلاسة في العبور غير أن تكون إنسانا أخلاقيا.
من هذه الوقائع وجود مشكل عويص يعاني منه سكان مركز تاونات، وقد أسندت للسيد عبد الواحد القلالوسي مسؤولية إيجاد حل حاسم لهذا المشكل حيث وصل النزاع بين طائفتين متعصبتين إلى حده الأقصى حتى صارت صلاة الجمعة في المسجد الكبير موقوفة بسبب الصدام بين عائلتي البوزيديين والبكوريين اللتين فرقتهما المصالح والمنازع الإيديولوجية. وإذا كان القائد السابق فشل في تجاوز ذلك المشكل على الرغم من المجهود الجسيم الذي بذله، فإن القائد الجديد استطاع بقدر من الحكمة والحصافة والحوار أن يتقدم شوطا بعيدا في بلوغ حل لهذا النزاع. ومن الحلول التي تواصى بها الجميع اعتماد التناوب في إمامة الناس يوم الجمعة على أن يستمر الفقيه الحالي المنتمي إلى جماعة البوزيديين الذي لم تبق له في مدة ”الشرط” إلا فترة وجيزة في مهامه وهو الذي يؤم الصلاة ليوم الجمعة الموالي، وأن يعين الفقيه في المرحلة المقبلة من جماعة البكوريين لمدة سنتين، ثم يتبعه الفريق الآخر لمدة سنتين كذلك وهكذا بالتناوب. وفي يوم الجمعة بعد أن هدأت الأمور بين طرفي النزاع، واتفق على أن يتم التوقيع الكتابي على الحل الذي يراعي المصلحة العامة ويجنب المنطقة التناحر القبلي الذي لا طائل من ورائه، صارت الظروف مواتية ليؤم الفقيه المنتمي للبوزيديين الصلاة، لكن حدث شيء غريب؛ فبعد أن امتلأ المسجد عن آخره بالمواطنين ووفد السلطات المحلية، وكذا المنتخبين وباقي الجموع من الأعيان والبسطاء، علم بأن جهات تمنع الخطيب من التقدم إلى المنبر. والظاهر أن هذا الخطيب استسلم للتهديدات وصار مكانه شاغرا. لقد علم القائد عبد الواحد من شيخ المركز أن الفقيه إذا حاول الإمامة لن تكون العواقب مأمونة، بل سوف ستحدث الفوضى في المسجد. وورد في هذا الصدد ما يلي :
”هذا وفي الوقت الذي كان المؤذن قد بدأ يؤذن، ولم يصعد للمنبر الفقيه لإلقاء خطبة الجمعة، وسمع أبي الذي كان جالسا بجواري كل ما دار بيني وبين الشيخ. وبعد الانتهاء من الآذان سارع أبي في اتجاه المنبر وصعده، وكان يلبس جلبابا أبيض وفوق رأسه عمامته البيضاء كعادته، وبدأ بتلاوة خطبة الجمعة ارتجاليا. وخصص موضوع هذه الخطبة لهذا المشكل، ولما تعيشه هذه الجماعة من خلافات بين المسلمين في الشأن الديني.”[3]
لقد حدثت المفاجأة إذن حيث أنقذ الموقف بهذه المبادرة الذكية التي استساغها الناس، بل تركت في نفوسهم وقعا حميدا جدا، إلى درجة أن بعض المصلين بدأوا بالبكاء ندما على ما حدث منهم.
يهمنا في هذا الصدد تركيز خطبة الوالد على قيم الرحمة والتسامح، فبفضل هذا العبور الأخلاقي الانسيابي تم الانتقال من بنية التضاد إلى بنية الترابط والانسجام، على أن انقداح عملية التغيير لم يكن عاديا.
تحضر الذات المساعدة بسمت ديني رفيع وحلة رمزية (اللباس الأبيض والعمامة). وتستمد قوتها الإجرائية المرجعية من السلطة والتاريخ، ذلك أن السيد الوالد من علماء مدينة تطوان وخطيب بعدد من مساجدها، وسبق له أن كان خطيبا للخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي في عاصمة الشمال بمدينة تطوان[4].
خاتمة : نوقن بأن العمل الذي أقدم عليه الكاتب يملك قيمة توثيقية كبيرة، كما أنه يملك مميزات منهجية تتمثل في حسن الترتيب والتصنيف واستعمال اللغة الميسرة مع التنويع في الموضوعات باستحضار الجزئيات والتفاصيل المختلفة، إلى جانب التموضع في نطاق الذات في علاقتها بمحيطها الاجتماعي والمهني والقيمي. ونتساءل بعد هذا، هل يصح أن ننظر إلى قيمة محكيات السيرة التي كتبها عبد الواحد القلالوسي الزرهوني من أحد هذه الجوانب دون غيرها؟ أم عين العقل أن نقوم العمل انطلاقا من مكمن أصالته في ارتباطه من جهة بخبرة ميدانية، وتعديل تواؤمي لكثير من المفاهيم وتصحيح لجملة من التمثلات المشوشة للفهم الصحيح من جهة أخرى.
حري بنا إذن أن نختار التوجه الثاني في فهمنا لهذه المذكرات التي يتفاعل صاحبها مع محيطه وفق رؤية ذاتية تنضبط انضباطا إراديا لروح المثل السامية. ويدل على ذلك ما هيئ في نفس الفتى في كنف والده وفي أندية الثقافة والرياضة، من حوافز معنوية رفيعة.
هكذا بدأ الكاتب مسيرته بحلم اقتسمه معه زملاؤه. ظل هذا الحلم منبجسا في الواقع الذي جسدته ورقاته. كانت تصونه نظرة رشيدة إلى الإنسان في فطرته وسموه وكرامته. من أجل ذلك كره عبد الواحد أن يسئ لغيره لأنه كان يكره أن يساء إليه. ومن أجل ذلك أيضا انماز مفهوم السلطة لديه ولان، على أن الليونة في عرفنا عامل إيجابي لأنها تشير إلى انخراط تشاركي في تحويلات رمزية مستقبلية.
إن الرمزية بهذا الشكل تمنح الفعل مقروئية أولية. وعليه فإن ما يصادفنا من حيوات وتنكرات وحدة في الرسائل والبلاغات، هو جزء من هذه المقروئية الأولية التي ترسم الطريق لتوازن تناقضي مرتقب.
ألا إن مقامات التفكر لدى الحكماء في الحال والمآل، ورغائب الفنانين الملهمين وأحلام الشعراء الموهوبين، هي معول القوة وحجة القادة في كل زمان ومكان !