هكذا إذن، سأرجع إلى أحداث النصف الأول من القرن العشرين، والمتعلقة بموضوع مساهمة المرأة في مجال النضال الوطني في تطوان بالخصوص …، وإنني على يقين من أن كثيرا من شباب اليوم يتطلعون لمعرفة ماذا طواه هذا القرن الذي ودعناه من الخبايا في هذا الموضوع، ويتساءلون هل كان للمرأة حضور على الساحة يوم أخذ رجال الحركة الوطنية زمام النضال السياسي والدفاع عن المقومات والقيم؟
والحقيقة أننا بمعالجتنا لموضوعات تتعلق بتاريخ نضالنا وعطائنا ومساهماتنا المتعددة في مجال الكفاح الوطني، إنما نحفظ العهود، ونرسخ الجذور، ونعمل على ربط العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ودخولا في الموضوع، أشير إلى أنني سأتحدث – ولو بإيجاز- عن البوادر الأولى لظهور الحركة النسائية المناضلة في تطوان، أثناء العهد الذي كانت فيه البلاد ترزح تحت نير الاستعمار في هذا الجزء من الوطن.وفي هذا المجال، أريد أن أضع خطا عريضا تحت عبارة دور المرأة بالذات، لأقول إن هذه المرأة – بالرغم من كونها لم تكن في الفترة المذكورة (وأعني هنا فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين) قد أعطيت الفرصة الكاملة لكي تتعلم وتتكون وتتثقف بالقدر الذي يسمح لها بأن تكون على وعي شامل بواجباتها كعضو إيجابي في الحركة النضالية، فإنها – مع ذلك- قد أدركت أن الحس الوطني، لا يتطلب منها سعة في الثقافة، أو علوا في مستوى المعلومات، بقدر ما يتطلب منها إدراكا لخطورة الموقف، وعزيمة على المساهمة بجد، وإقداما على العمل بإخلاص، وتضحية بما تملكه من قدرات واستعدادات من أجل المصلحة العامة.
هذا ما يجعلنا نسجل للتاريخ، أن الخلايا النسائية العاملة قد شرعت فعلا في الظهور والمساهمة في النضال بتطوان، أولا بدافع من الشعور الوطني الخالص، وكان ذلك تحت التوجيه والريادة لذوات الوقار من سيدات البيوتات الوجيهة بالمدينة، البيوتات ذات المكانة والشرف والمروءة والغيرة الوطنية، والمشاركة الملموسة في الحقل الوطني، ثم إن هذه الخلايا قد تابعت نشاطها على يد الشابات المتعلمات اللاتي كن قد حصلن على قسط وافر من الثقافة، مما سمح لهن بدخول ميدان النضال من بابه الواسع، فكانت منهن الخطيبات الجريئات، والمتحدثات باسم العنصر النسوي، والعاملات على إسماع صوت المرأة لأول مرة في تاريخ الوطنية بهذه الديار.
وإذا علمنا أن معالم العمل الوطني بالمغرب، قد ظهرت بشكل علاني ابتداء من أول فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، وأن فترة الاستعداد والتهييء لتكوين هيئة وطنية عاملة،في إطار حزب ذي كيان وذي هيكلة وقانون منظم ومضبوط، قد تطلبت من رجال العمل الوطني عدة سنوات، حتى استطاعت أن تُخرج إلى الوجود، حزبا يعتبر أول حزب وطني في تاريخ المغرب، وهو “حزب الإصلاح الوطني” الذي ظهر بصفة رسمية في تطوان في أواخر سنة 1936 م. إذا علمنا كل ذلك، فلا يكون غريبا، أن نجد أن الحضور الملحوظ للمرأة بتطوان، في مجالات النشاط الوطني والعمل الاجتماعي الهادف، وكذا سعيَها لإثبات وجودها كعنصر إيجابي مشارك، إنما كان بعد أن تمكن الحزب المذكور من تركيز دعائمه، كقوة وطنية ذات سند متين من طرف الشعب بجميع شرائحه، سواء داخل المدن أو القرى التي كانت تابعة لحكم منطقتنا هذه، التي كانت تعرف بالمنطقة الخليفية الخاضعة للحماية الإسبانية آنذاك.
وفي هذا الصدد أشير إلى ما نشرته جريدة “الحرية” الناطقة باسم الحزب المذكور، حيث تقول في مقالها الافتتاحي (1):
«كانت المرأة المغربية قبل ابتداء الحركة الوطنية كمّا مهملا، لا يحسب له حساب ولا يقام له وزن، وما كاد فجر الحركة يشيع، حتى أحسسنا بدبيب الشعور السامي الرفيع، يدب في جسم المرأة المغربية. فهي تتحزب للحق، وتتظاهر بالمبدأ، وتكون أقوى مثبّت للرجل في إيمانه، ومشجعٍ له على التضحية، وهذا التطور العظيم في حياة المرأة المغربية، يرجع إلى الوطنية وأساليبها المختلفة في الهداية والإرشاد. ويحق للوطنية أن تفتخر بأنها تضم إلى صفوفها، الأغلبية الساحقة من نساء المدن، وجزءا عظيما من ساكنات القرى. المرأة المغربية بدأت تعلو المنابر، لترفع صوتها داعية إلى الدين والرقي والتجديد، المرأة المغربية تكسر خدرها، لا لتحضر حفلات الحضرة وسهرات الجنون والعبث، بل لتعمل مع الرجل في تربية النشء، وتهيئة الأجيال المقبلة، تهيئة يرضاها الرب، ويستحسنها الصالحون من العباد. المرأة المغربية – ولله صوتها وتعبها وإيمانها– تأخذ معولها لتحطم البقية الباقية من أطلال الجهل والجمود، غير هيابة ولا خجلة: إني أيضا من العاملين».
فمن هذا التصريح الواضح لأحد رجال الحركة الوطنية في تطوان، نعلم أن دور المرأة كان أولا وقبل كل شيء، دور المناصر والمشجع للرجل، الذي كان يخوض غمار النضال السياسي والكفاح الوطني، إلا أنها بعد ذلك، قد خرجت من هذه الدائرة الضيقة،لتنخرط في صف العمل الوطني، بالمفهوم المناسب لقدراتها واستعداداتها، ولتساهم بدورها في النضال، وتقدم من مجهودها ما تسمح به إمكانياتها المادية والمعنوية. ويكفينا من الشهادة المذكورة أن نعلم أن الأغلبية الساحقة من نساء المدن، وعددا كبيرا من ساكنات القرى– كما ورد في الجريدة المذكورة – كن منخرطات في صفوف الحركة الوطنية، وأنهن قد عزمن على اختراق الحدود التي كانت تحول دون ممارستهن لحقوقهن في التعلم، والخروج من دائرة الجهل والجمود.
وإذا كان الوقت لم يسمح بعد بتسجيل كل عطاءات المرأة في هذه المنطقة من المغرب، في ميدان المطالبة بالحقوق، والكفاح من أجل نيل الحرية والاستقلال، وكذا مساهماتِها في مجال العمل الاجتماعي الإصلاحي الهادف، فإن ذلك لا ينفي أن هناك من المعطيات ما يؤكد أن المرأة في شمال المغرب بالخصوص، قد شاركت أولا في وقوفها في المظاهرات الاحتجاجية، وأنها قد كان لها دور في إخفاء السلاح وتوصيله للفدائيين في فترة الأعمال الفدائية السرية، وأنها قد ساهمت في إقامة الحفلات الوطنية، وقد خرجت إلى الشوارع رافعة الأعلام واللافتات، حاملة للشارات والشعارات، معبرة عن مساندتها للمطالب الوطنية المشروعة، بحماس لا يقل عن حماس الرجل.
وكدليل على ذلك، نشير إلى الحفل النسائي الذي أقيم بمناسبة عيد الجهاد الوطني(2) لسنة 1946، هذا الحفل الذي يعتبر أول حفل من نوعه في المغرب، حيث ضم ما يقدر بثلاثة آلاف من النساء، اللاتي تجمعن، ليساهمن بصورة رسمية مشرفة في هذا العيد الوطني، فوقفت جملة منهن ليلقين خطبهن على الجماهير المحتشدة، مطالبات باستقلال المغرب وحريته، وبتحقيق عزته وكرامته، وهاتفات بوحدة ترابه، وبضرورة استغلال ثرواته من طرف أبنائه. ومن هؤلاء الخطيبات السيدات والأوانس: خدوجة أفيلال وخدوجة الدليرو وخديجة السلاوي وكنزة بنونة وخدوجة الخطيب وثريا الصنهاجي ورقية الغريش، بينما كانت تتخلل الحفل مجموعة من الأناشيد الوطنية، التي كانت تتغنى بها تلميذات المدارس(3).
وبهذه المناسبة أشير هنا إلى أن سيدات البيوت في تطوان، كن جميعا وبدون استثناء، – المتعلمات منهن والأميات – يحفظن الأناشيد الوطنية، التي كانت تنظم وتلحن من طرف رجال الحركة الوطنية آنذاك، كما كن يلقنها للأطفال الصغار، الذين كانوا يتغنون بها في كل حين، مما جعلهم يتغذون بروح الحماس والحس الوطني منذ نعومة أظفارهم.
هذا وإن نشاط المرأة في مجال النضال الوطني، لم يقتصر على المشاركة في الحفلات والتجمعات المسالمة فقط، بل إنه قد ظهر أيضا في الفترات الحرجة التي تحتاج فيها الظروف إلى الشجاعة ورباطة الجأش، ومن ذلك ما حدث في اليوم الذي تم فيه تشييع جنازة شهداء أحداث 8 فبراير بتطوان 1948(4)، ذلك اليوم الرهيب الذي عبر فيه المواطنون، عن عمق الجرح الذي أصابهم على يد سلطات الحماية، حيث يقول المطلعون على تاريخ تطوان « إنها لم تشهد منظرا رهيبا مثل منظر جنازة الشهداء منذ حرب سنة 1860م، حين استشهد كثير من أهلها لإنقاذ بلدهم من الغزو الإسباني. ذلك أن النساء والأطفال وحدهم هم الذين تمكنوا من تشييع الشهداء إلى مقابرهم، إذ اصطدم المشيعون من الرجال اصطداما جديدا بالجيش الإسباني، حينما كانوا في طريقهم إلى “ساحة الفدان”، وقتل في هذا الاصطدام شخصان، وبذلك لم يصل إلى الساحة غير النساء والأطفال، وكان منظر النساء يفتت الأكباد وهن يحملن القتلى وينشدن الأناشيد الوطنية، مارات بشارع “القائد أحمد”، إلى أن وصلن إلى “مقبرة سيدي المنظري”، وقد حفرن المقابر بأيديهن وقمن بمراسيم الدفن وسط هتافات مدوية بحياة مراكش الحرة المستقلة»(5).
الهوامش
1– ” النهضة النسوية في سير حثيث”، جريدة « الحرية»، السنة 6، عدد 811، 6 غشت1942م.
2– عيد الجهاد الوطني هو العيد الذي كان حزب الإصلاح الوطني يحتفل به في الثالث من شوال من كل سنة بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب. حيث كان تأسيسه يوم 3 شوال 1355 هـ الموافق 18 دجنبر 1936 م.
3– عن نشرة حزب الإصلاح الوطني – العدد رقم 7 الصادر في شهر شوال 1365 هـ الموافق سبتمبر 1946 م.
4– وقعت هذه الأحداث الدامية بتطوان بعد ان قامت المظاهرات الاحتجاجية من طرف المواطنين على القرار الذي اتخذته سلطة الحماية بمنعها لمجموعة من رجال الحركة الوطنية من الدخول إلى المنطقة الخليفية، مما جعلهم يستقرون بطنجة لمدة عدة سنوات.
5– نشرة مكتب المغرب العربي بالقاهرة رقم 93 بتاريخ 10 فبراير 1948م، وثائق الأمانة العامة لحزب الإصلاح الوطني بخزانة الحاج الطيب بنونة، الوثيقة رقم 34 – الملف رقم 25 يحمل اسم “حوادث 8 فبراير 48 بتطوان”. (اعتمادا على ما ورد في مذكرة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام حول موضوع حزب الإصلاح الوطني(1930-1956) – دراسة تحليلية من إعداد الأستاذ حسن الصفار (جامعة محمد الخامس – كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – الرباط –1988) مراجعة: حسناء محمد داود. والمقصود بمراكش في النشرة المذكورة: المغرب.
حسناء محمد داود
رئيسة مؤسسة محمد داود للتاريخ والثقافة بتطوان