الثقافة هي الذّاكرة الجمعية لكل الشعوب ، هي أساس هويّتها واُنتمائها وتميّزها ، هي قاطرتها نحو التّنمية المستدامة في كل مجالات الحياة ؛ وإذا اُمتطت المرأة هذه القاطرة كَذَاتٍ مشاركة في إنتاج الأدب والثقافة فإنّها قطعا ستكون ذاكرة قويّة ؛ بعدما كان حضورها في التاريخ الثقافي العربي والمغربي ضعيفًا ، لأنّ هذا التّاريخ ذكوري بالأساس ، بالرّغم من أنّه لا ينفي وجودها كشاعرة ، من مثيلات الخنساء وولاّدة وليلى الأخيلية وغيرهنّ.
تسجّل ذاكرتي وذاكرة المغربيات جميعهنّ من الأوساط الثقافية ، ذكرى رحيل أيقونة من أيقونات الأدب المغربي المعاصر ، التي وافتها المنيّة يوم 18 يوليوز 2015 بعد رحلة من العطاء دامت أكثر من ستين سنة . “أمينة
اللّوه” اسم يُكتب بماء الذّهب ، هي من الرّعيل الأوّل الذي لبّى نداء العِلم والوطن رغم سطوة العقليّة الذّكوريّة آنذاك وشيوع المساعي الرّجعيّة التي تسعى لعرقلة مسيرتها مؤمنة أشدّ الإيمان بأنّ المرأة لها دور طبيعي : هو الزواج والإنجاب وملازمة البيت ، أمّا دورها في التّنميّة فلم ينادِ به إلّا الملك الرّاحل محمد الخامس ، قال عند نزوله من الطّائرة بعد رجوعه من المنفى يوم 16نونبر 1955 قولته المشهورة : “خرجنا من الجهاد الأصغر للجهاد الأكبر ” وكان يقصد رحمه الله بالجهاد الأصغر طرد المستعمر الفرنسي وتحقيق الإستقلال ، وبالجهاد الأكبر بناء الدولة المغربية الحديثة على أسس متينة في إطار ملكيّة دستوريّة ديمقراطيّة اُقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة . ولم يكن لهذا البناء ان يستقيم لولا اُندماج المرأة المغربية كشريك أساسي في التغيير ؛ وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلّ الدّول العربية التي كانت تهمّش دور المرأة ، قد انتبهت في العقود الأخيرة إلى أهمية إشراكها في عملية التنمية لبناء مجتمع حداثي ديمقراطي . إنخرطت امينة اللّوه في مجال الأدب والتّربية والبحث العلمي كمثقّفة وازنة ، ولم تأبه للعادات والتقاليد العقيمة التي فُرِضت على المرأة آنذاك ، لأنّ أسرتها كانت تقدّس العلم ولا تفرّق في طلبه بين الذّكر والأنثى ، وفي سبيله إنتقلت أسرتها بعد ان أكملت تعليمها الأوّل بكُتّاب قرية ” بقّيوة ” “بالحسيمة ” إلى مدينة ” تطوان ” حيث تميّزت مسيرتها العلميّة بالتفوّق في الثانوي وعند إلتحاقها بمدرسة المعلمات كطالبة ومدرّسة ، وعند التحاقها بجامعة “مدريد ” لتحصد منها شهادة الإجازة في علم التربية والفلسفة ، وشهادة دكتوراه الدّولة في الآداب سنة 1978 .
وهبت امينة اللّوه حياتها لقضايا بلادها ، فكانت رائدة في الحركة الوطنية ، جاهدت بقلمها من أجل إستقلال المغرب ، ومن اجل تعليم المراة المغربية وتحريرها من ربقة الجهل والأمية ، والحصول على حقوقها وإخراجها من بوثقة الحرمان والتّهميش والإقصاء . وكانت رائدة في مجال الإعلام ، إذ لاقى برنامجها الإذاعي على قناة ” تطوان تخاطبكم ” نجاحا واستقطابا لفئة واسعة من المستمعات والمستمعين أيضا . كما كانت رائدة في المجال الخيري الجمعوي ، كعضوة ناشطة بجمعية ” الإنبعاث ” وجمعية ” المواساة ” لرعاية اليتامى بالرباط ، ويكفيها فخرا في هذا الباب ان اوقفت بيتها الكبير ب ” طنجة ” لمركز الدّراسات القرآنية والبحث العلمي … إسهاماتها وإنجازاتها العديدة علميّا وعمليّا لازالت محطّ إعجاب وتقدير رغم مرور السّنين ، إذ كانت اوّل مغربيّة تحصل على جائزة المغرب عن روايتها “الملكة خناثة” سنة 1954 التي تقرا فيها التاريخ المغربي من زاوية نسوية حسب النّقّاد ، لكن تكفي أقدميّة هذا التّاريخ للتعبير عن ظهور اللّبنة الأولى للأدب النّسائي وأخذه مبدأ الدّفاع عن حوزة الوطن كمشروع اوّلي . إنّ هذه الحصيلة المشّرّفة للمرحومة ” أمينة اللّوه ” وغيرها من نساء المغرب المبدعات والمناضلات اللّواتي عاصرناها تدعونا للقول : إنّ ما تعيشه المراة المغربية اليوم من تقدّم واُنفتاح ووجاهة وتحرّر فكري واُجتماعي ، لم يكن وليد الصّدفة ، بل نتيجة عمل مضنٍ وشاقّ ، وجهود خاضتها سابقاتها لصنع تاريخ المغرب بحكمة ورجاحة عقل . رحم الله فقيدتنا وجعلها من نساء الجنة.
نهى الخطيب