الحلقة الأولى: ترجمة العلامة محمد المرير التطواني:
ومضات على سبيل البدء:
سأخصص هذه الحلقات المعنونة ب”نـظرات في كتاب النعيم المقيم” للفقيه محمد المرير لعرض مضامين هذا الكتاب الضخم: “النعيم المقيم في ذكر مدارس العلم ومجالس التعليم” للعلامة الفقيه محمد المرير التطواني رحمه الله، وهو الكتاب الصادر عن جمعية تطاون اسمير، ومن تخريج الأستاذ أحمد بن محمد المرير (ابن الفقيد) وتقديم الدكتور امحمد بن عبود ومراجعة الدكتور جعفر بن الحاج السلمي، ونظرا لحجم الكتاب الكبير الذي جاء في تسع مجلدات طافحة بشتى أبواب العلوم والمعارف، يختلط فيها التاريخ بالفقه، والتراجم بالنوازل والفتاوى، والتصوف بعلم الكلام والفلسفة، والعلوم الحديثة والابتكارات العلمية بتأصيل العقائد والإيمان، والأدب العربي شعره ونثره بقضايا فكرية وثقافية أخرى، كما ذكر ذلك المؤلف بنفسه حين عرفه بقوله: (فهرسة علمية تفسيرية حديثية فقهية صوفية كلامية أدبية تاريخية، ذات أبحاث عصرية وحوادث وقتية، زيادة على موضوعاتها الأصلية)، وكما جاء أيضا في مقدمة الناشر بأن الكتاب: (يساهم في التعريف بالحركة الثقافية بهذه المدينة ونواحيها منذ القرن السابع عشر الميلادي وذلك من خلال الترجمة لرجالها والتعريف بهم والوقوف على بسط مواقفهم تجاه الشأن العام لهذه الفترة التاريخية، مما يصعب حصره في فهرسة موحدة).
ونظرا لاحتياج الباحثين في أثناء الرجوع إليه كمصدر تاريخي توثيقي لمدينة تطوان العامرة في جانبها التاريخي والجغرافي والعمراني والعلمي والثقافي، إلى الجانب الفقهي النوازلي وتاريخ رجالها من العلماء والفقهاء والمتصوفة، وغير ذلك من جانب الأدب والشعر، ارتأيت تسهيل الرجوع إليه – على الرغم من وجود فهارس للكتاب وضعت تباعا للسرد اللحظي للأحداث المؤرخ لها- حيث قمت بإعادة ترتيبها ترتيبا موضوعاتيا بحسب الجوانب المطروحة فيه في كل جزء، وذلك وفق ترتيب معين يفصل التراجم عن القضايا والأفكار، ويفصل الفتاوى والنوازل عن الشعر والأدب، بحسب ما سيتبين لاحقا. وستتألف هذه السلسلة من عشر حلقات. أخصص الحلقة الأولى منها للتعريف بالفقيه المرير أولا وبكتابه ثانيا، ثم أفسح المجال في الحلقات الموالية لفهرسة كل جزء من كتاب “النعيم المقيم” مفردة في حلقة مستقلة.
– الفقيه محمد المرير وكتابه “النعيم المقيم”:
والفقيه المرير كما عرف بنفسه في نعيمه هو: محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله المرير التطواني، من أسرة تنتمي لقبيلة اوشتام بضواحي تطوان الشاطئية، ومنها انتقلت إلى حاضرة تطوان، وهو من مواليد تطوان سنة 1304هـ الموافق لسنة 1887م.
درس بتطوان، حيث التحق أول الأمر بالكتاب فحفظ القرآن الكريم على الفقيه عبد الكريم كركيش، وتلقى مبادئ التجويد على الفقيه الأمين بوحديد. ثم انطلق في تحصيله العلمي فسمع عن علماء تطوان في مختلف العلوم من فقه وحديث وسيرة وتوحيد ومنطق ونحو وبلاغة، على يد شيوخه: العلامة محمد البقالي، العلامة محمد بن الأبار، العلامة الفقيه أحمد الزواقي، أبو العباس أحمد الرهوني، أحمد العمراني الغماري، العلامة العدل عبد الله بن عبد الرحمن لوقش، الوزير العلامة المختار الجامعي. هذا بالإضافة إلى ولعه بمطالعة كتب الأدب والشعر والمقامات.
وبعد ذلك استكمل تعليمه بفاس بجامع القرويين صحبة عدد من طلاب تطوان آنذاك كالتهامي افيلال ومحمد العربي الخطيب ومحمد بن محمد الدليرو وغيرهم، الذين تلقوا العلم على يد أبرز علماء العصر كالشيخ أبي شعيب الدكالي ومحمد بن جعفر الكتاني والعلامة أحمد بن الخياط الزكاري والعلامة أحمد ابن الجيلالي الأمغاري، والعلامة التهامي كنون، وعبد الصمد كنون، وعبد السلام بن محمد بناني وأخيه عبد العزيز، وأحمد بن المامون البلغيثي، وغيرهم.
ولما حل وقت التلقي اشتغل الفقيه المرير بالتدريس ابتداء من سنة 1910ببعض مساجد تطوان وزواياها كجامع لوقش وجامع الربطة وجامع القصبة وزاوية الحاج سيدي علي بركة، والجامع الكبير، كما درّس بأصيلا والقصر الكبير. وعمل كذلك مدرسا بالجامع الكبير بعد تأسيس النظام الدراسي به، وبالمعهد الديني العالي بتطوان كذلك. وكان من طلبته في تلك الفترة: الفقيه البشير أفيلال، والفقيه العلامة أحمد الحداد، ومحمد داود، وعبد السلام بلقات، ومحمد طنانة، وعبد السلام الجباري وغيرهم.
شغل المرير عدة وظائف حكومية، حيث عين كاتبا بوزارة العدل بتطوان، وكاتبا بالصدارة العظمى، وقاضيا بأصيلا وتطوان، ورئيسا للمحكمة العليا للاستئناف الشرعي بتطوان، كما شغل منصب رئيس القسم الإقليمي لاستئناف أحكام القضاة. ثم وظّف (1335/1917) بنيابة الأمور الوطنية لتحرير القسم العربي من الجريدة الرسمية.
وعن هذه المهام التي تقلدها الفقيه المرير يقول محمد التجاني الدردابي عن جمعية الطالب المغربية: (فالفقيه المرير القاضي.. زاول القضاء مدة تزيد على الأربعين عاما وتقلب في مناصب عدة وترأس المحكمة العليا للاستئناف ما قبل الاستقلال وهي بمثابة المجلس الأعلى للنقض الآن، وألف كتابا منفرد النظير في ميدان القضاء سماه “الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية” وهو فريد من نوعه تعرض فيه للشروط التي لابد أن تتوفر في القاضي ولمختلف الولايات القضائية في الإسلام. كما تطرق لطرق إصلاح القضاء وتحقيق العدالة الحقة بين المواطنين..).
هذا إلى جانب عضويته في عدد من المجالس العمومية كمجلس الأحباس، والمجلس الأعلى للتعليم الإسلامي في حكومة الخليفة السلطاني بالشمال، وشارك في تأسيس المعهد الديني العالي ودرس به.
وعرف في جميع وظائفه بالعفة التامة والنزاهة الكاملة والترفع عما في أيدي الناس، وله مواقف شريفة دلت على عزة النفس وعلو الهمة.
وفي عام 1353/1934 سمي شيخا للعلوم بتطوان، وقد تفرد بهذا المنصب- إذ ألغي بعده- فكان الفقيه المرير الوحيد الذي شغله. يقول محمد عزيمان: (عرفته في المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي وهو في منصب كان يسمى منصب شيخ العلوم وكان له الإشراف على التعليم الديني وعلى المعاهد الدينية. وكان لآرائه وتوجيهاته الأثر الكبير في أعمال المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي وفي الجهود التي كان يبذلها هذا المجلس حوالي سنة 1937 وما بعدها في وضع مناهج التعليم الديني النظامي في الشمال. واختيار الكتب المقررة وتعيين الأساتذة وتنظيم شؤون الطلبة، كما عرفته أستاذا بالمعهد الديني العالي بتطوان المغرب..).
وكان الفقيه المرير يسير على طريق التصوف السني المغربي الذي تميز به جل علماء المغرب وفقهاؤه جامعين بين الفقه المالكي والسلوك الجنيدي، بعيدا عن الطرقية وبدع العادات، على الرغم من نشأته بين أحضان الطريقة الدرقاوية؛ حيث كان مقدما بالزواية العجيبية، وتربى في الزاوية الحراقية بتطوان على وجه الخصوص، وكتابه عن القطب الكبير مولاي عبد السلام ابن مشيش يعطينا صورة واضحة للروح الصوفية الإسلامية التي كان يتحلى بها، لأنه كان من العلماء الذين ينكرون البدع والخرافات والأضاليل. وقد جاء على لسانه في هذه المسألة قوله: (ولهذا جعلت وجهتي إلى التلقي من الكتاب والسنة وتوكف الاقتداء والهداية من كتب أهل الولاية الذين لهم البشرى في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، وجعلت من هجيراي من كتب أهل التصوف: الرسالة القشيرية وعوارف المعارف للسهروردي وإحياء الغزالي والفتوحات لمحيي الدين..).
ولما أحيل على التقاعد، أصبح منزله قبلة للطلبة والفقهاء والقضاة والوجهاء، وكان يعقد مجلسا علميا به عصر كل جمعة لم ينقطع حتى وافاه الأجل، يرتاده الأساتذة والطلبة على السواء بل وعلية القوم بتطوان، وقد حرص الجميع على المواظبة على الحضور، وكلهم يجمعون على التنويه بهذا المجلس، لما كان يتحفهم به مترجمنا من الفوائد والدرر. يقول الطيب بنونة، وهو أحد المواظبين على حضور هذه المسائية: (لقد كنا نتمنى أن تمر الأيام سراعا ويصل يوم الجمعة لنقصد مجلس شيخنا بعد صلاة العصر، وكثيرا ما وجدناه في نحوفة جسمه وضعف بنيته ملقى على ظهره أو متكئا على وسادته منهار القوى لا يتحرك، وما أن نشرع في محادثته حتى ينتعش ويستقيم في مجلسه ويحدثنا بما يدهش من ذكرياته ويملي ما يحلو ويطيب من محفوظاته في الأدب العربي الرفيع ويقص من موسوعة ذاكرته القوية الطريف من أخبار العرب والمسلمين فيزيدنا هياما به وتعطشا لسماع عرضه وبيانه).
كما يعدّ مترجمنا المرير من طبقة الفقهاء الأدباء، فلقد أسهم إلى جانب علمه بالفقه وتمكنه فيه، بمشاركات وافرة من قرض الشعر، وكان يغلب عليه الطابع التقليدي المعروف، هذا بالإضافة إلى أنه قد أوتي مهارة في النّثر، وبراعة في الأسلوب..
وتوفي رحمه الله عشية يوم الاثنين 15 محرم 1398هـ موافق 26 دجنبر 1977م، وشيعه إلى مثواه الأخير جمع غفير من أهل تطوان وخاصتها وتقدم للصلاة عليه العلامة البشير بن التهامي أفيلال، ودفن بزاوية سيدي يوسف حنصل من حومة جامع القصبة.
ما قيل عنه:
وقد حلاه جملة من علماء عصره وتلاميذه، فقد جاء في تحلية العلامة أحمد الرهوني قوله: (كانت بدايته تدل على نهايته، ملازما لما يعنيه، تاركا لما لا يعنيه، معتنيا بدروسه وأمور ديانته، سالكا مسلك أهل الحياء و المروءة.. مطوي القلب على التقوى والاستقامة). وفي مناسبة أخرى بالقول: (الفقيه العلامة المشارك في جميع العلوم المحقق للمنطوق منها والمفهوم وخصوصا علم النوازل والأحكام، فإن الله قد منحه من ذلك ما حرم منه عددا من الأعلام..).
وأبنه الطيب بنونة بالقول: (لا شك أن تطوان أعطت في القرن الرابع الهجري مجموعة من العلماء الكبار كان لهم الفضل في نشر العلوم الدينية والمساهمة بحظ وافر في خدمة الإسلام، غير أن شيخنا المرير تفوق عليهم جميعا بأسلوبه في البحث بتسجيل أفكاره الخاصة في شتى المجالات بإنتاجه القيم في عالم التأليف، وإن من اطلع على كتابه الجليل القدر الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية الذي يعتبر بحق مفخرة من مفاخر العلامة المرير ومرجعا فريدا في نوعه وبابه، يدرك الأجواء التي حلق فيها المفكر الإسلامي الكبير وكيف دعا بالحجة والنصوص إلى توحيد القانون في العالم الإسلامي.. ولشيخنا كتاب جامع عن حياة القطب الكبير مولاي عبد السلام بن مشيش مع شرح الصلاة المشيشية، وهذا الكتاب يعطي صورة واضحة للروح الصوفية الإسلامية التي كان يتحلى بها شيخنا، لأنه رحمه الله كان من العلماء السلفيين المنكرين للبدع والخرافات والأضاليل..).
ومدحه الأستاذ إسماعيل الخطيب في ذكرى تأبينه عن جمعية البعث الإسلامي فقال: (وزخر مغربنا على امتداد تاريخه الإسلامي المشرق بهؤلاء العطشى نحو المعرفة الإسلامية وتنقلوا في مدنه وقراه يبحثون ويأخذون ويتتلمذون مع ما يصاحب كل هذا من شظف العيش وبعد الشقة، ولكنهم كالعاشق الولهان يترخص كل شيء في سبيل الوصول إلى متمناه. من هؤلاء الذين عشقوا ثقافتنا الإسلامية وفقهها من تجتمعون اليوم لإحياء ذكراه “الفقيه محمد المرير”، وإذا قلت الفقيه فإنما أقصد المفهوم الأصلي للكلمة كما وردت في القرآن: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)، وكما وردت في السنة: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، وهو المفهوم الذي فهمه سلفنا الصالح في غربنا الإسلامي فأطلقوا المفردة على كل عالم متضلع..).
وقد خلف الفقيه المرير جملة من المؤلفات عبارة عن كتب وتقاييد في مختلف العلوم فقهية وتاريخية وشروح؛ أهمها: الأبحاث السامية في المحاكم الإسلامية. ومنتهي الأمل من شرح العمل، وهو شرح للعمل الفاسي في جزء واحد. والعقود الأبريزية على طرر الصلاة المشيشية مصدر بترجمة واسعة لمولاي عبد السلام بن مشيش في جزء واحد كذلك. والبيان المعرب عن تاريخ وسياسة ملوك المغرب. ومن رسائله كذلك: ترجمة مختصرة للسلطان المولى محمد بن عبد الله العلوي. والمقتطف اللطيف من المقصد الشريف لصلحاء الريف. والنفحة النّدية، من أخبار الدولة السعدية، وهو تاريخ ملخص للسعديين، مع العناية بالظواهر الحضرية في دولتهم. ويبقى عمله الضخم “النعيم المقيم” الذي نسعى اليوم إلى التعريف به في هذه الحلقات أهم مؤلف للفقيه المرير، وهو فهرسة حافلة ضخمة كما سنرى. والذي كان الدافع الرئيسي لتأليفه رغبته في التعريف بالعلماء والمتصوفين بتطوان ونواحيها خلال القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادي، مع إبداء الاهتمام بالعلماء في الحواضر والبوادي على السواء، مما يعطينا فكرة متكاملة عن التطور الثقافي بتطوان ونواحيها، علاوة على توسعه خلال تراجمه لسير العلماء الذين عرف بهم، سواء من أبناء بلده أو من غيرهم من علماء فاس ودكالة وغيرها، متطرقا لمواضيع علمية متنوعة منها مواضيع فقهية وأدبية وفلسفية وتربوية واجتماعية، تنم عن معرفة المؤلف الواسعة واطلاعه الكبير والمتنوع، ومساهمته الكبيرة في بعث الحركة الثقافية في شمال المغرب عموما وبلدته تطوان.
منتصر الخطيب.