النهر ليس مجرد علامة مكانية. إنه استعارة زمانية ملبدة بالميثولوجيا ووثيقة الصلة بالمقدّس، فالأنهار كلّها تقريبًا تنبع من أرض ميثولوجية وتصب أو تتبدد في المطلق، وفيما هي تجري كمكان هارب من عتمة العدم يتشكل حولها الزمان وتنبت على ضفافها غابات كثيفة من الرموز والمعاني التي تؤثث الوجود البشري.
لقد بحث الإنسان القديم عن النهر لا ليحصل على الماء باعتقادي، بل ليحصل على المعنى بالدرجة الأولى، ولعل هذا هو سبب ارتباط النهر بالمقدس في عقائد الخصب القديمة. لكن السؤال، الّذي ما فتئ يلحّ عليّ منذ أمدٍ بعيد، هو: لماذا ارتبط الشعر العربيّ بالبحر ولم يرتبط بالنهر، مع أنّ طفولتنا الحضاريّة كانت على حوافي الأنهار، ومع أنّ الصحراء، الّتي شكلت الفضاء الرحب للشعر الجاهلي، لم تكن إلا نتيجة حصرية لغياب الأنهار؟؟!!
واللافت للنظر أن موتيف النهر قليل الحضور في الشعر العربي، قديمه وجديده، وأنه لم يحظ بمثل ما حظيت به الصحراء أو البحر أو الواحة من اهتمام! ولذا فإن عمل حسن نجمي الشعري هذا يشبه أن يكون عملا رياديا يلتفت فيه الشاعر إلى النهر الذي هو (نهر حياته). لقد حول الشاعر نهر أبي رقراق إلى نهر شخصي:(لقد حفرت له أخدودا داخلي/ وإن كنت نسيت)، وراح يخاطبه، ويتمرأى فيه، ويحفر في طبقات الرموز والمعاني المتراكبة التي تمنح النهر كثافته وقدسيته. وفيما كان النهر يتحول أحيانا إلى إنسان يحلم ويتأمل ويتذكر ماضيه ويتحدث عن سيرته، كان الشاعر يتحول إلى نهر يشق مجراه و(يراوغ الزمن والأرض) بعناد كامل، دون أن يتخلّى عن حلمه بالعودة إلى النبع.
(في الطريق إلى البحر، أدرك هزيمتي)، هكذا يقول النهر. إن ثيمة (التبدّد) ملازمة للنهر، ولعلها الدافع الرئيس للغضب الوجودي الدفين الذي تتصف به الأنهار. لكنها لا تنتمي إلى ثقافة اليأس، لأن التبدد هنا ليس تعبيرا عن الخواء واللامعنى، بل هو اندغامٌ مع المطلق وذوبانٌ فيه؛ ولذا، فإنّ هذا الحيوان المائيّ الأليف، الّذي يمنح نفسه للحياة ومفرداتها بسخاء كبير، يظلّ يحلم رغم أنه يدرك هزيمته:
(يحلمُ بامرأةٍ عارية يغسلها
يحلُمُ برفرفة نورسةٍ
يحلُمُ بسرير رملٍ
يحلُمُ بالزبد
يحلُمُ بمداعَباتِ الموج
يحلُمُ بالزرقةِ كبحر)
لنلاحظ هنا أن النورسة، والرمل، والزبد، والموج، والزرقة تنتمي كلها إلى البحر، ولذا فإن الأحلام، التي رأى الشاعر نهره وهو يحلم بها، هي أحلام تحدث عند حافة البحر في اللحظات الأخيرة من سيرة النهر قبيل تبدده في المطلق، وهي أحلام لا تدل على الخواء قط.
هكذا، إذن، يقف الشاعر في شرفة بيته ويطل على المكان الذي لن يوجد بعده ذلك النهر، وفي الوقت الذي يتلاشى فيه النهر، يرى الشاعر ما يشع في مياه النهر المعتمة من أحلام، يرى منطقة اللذة التي ظلت تتوهج فيه حتى اللحظة الأخيرة، وتحوله من وجود يفنى إلى وجود يخلد.
(ما الذي يقوله نهر لشخص؟
ما الذي يقوله شخص لنهر؟)
( قال النهر أريد أن أعود )
إن فكرة الخلود هنا مختلفةٌ تمامًا عن تلك الّتي حلم بها جلجامش. إن النهر هنا لا يبحث عن الخلود، بل يحلم بالفرار منه والعودة إلى الزمن، حيث يمكن لامرأة عارية أن تغتسل وتشبق الوجود قبل أن يتبدد.
يكلل هذا العمل المتميز تجربة حسن نجمي الشعرية بنزعته التأملية التي يسائل من خلالها الموجودات، ويصغي إليها ليكتب سيرتها بوصفها استكمالا لسيرته الذاتية، وهو إذ يحدق في ليل الوجود يرى أحلام النهر التي هي نهار النهر وهي تلمع كشفرة حادة عند ملتقى البحرين: العذب الفرات بالملح الأجاج .. اللحظي المؤقت بالأبدي المطلق .. والحسي بالحدسي.
ليس صدفة إذن أن تجمع اللغة العربية بين النهار والنهر في حقل دلالي واحد، فالنهر وجد ليحلم هو ولنرى نحن أحلامه.
زهير أبو شايب.