الأندلس.. بلاد الإسلام في قلب أوربا، ونبع الحضارة التي أرخت بظلالها الوارفة على كل الغرب الإسلامي الوسيط. الأندلس.. سكينة الروح، والجنة المفقودة، وأثر العابرين الخالدين. تحضر الأندلس في المخيال الجماعي للعرب وللمسلمين باعتبارها نقطة التلاقي الحضاري الواسع بين العوالم المتوسطية المتداخلة، بدياناتها السماوية الثلاث، وبحضاراتها العريقة، وبتلاقحاتها الرومانية والإغريقية والفنيقية والفرعونية والإيبيرية والإسلامية. وعلى الرغم من مرور أكثر من خمسمائة سنة على سقوط إمارة غرناطة كآخر معاقل المسلمين ببلاد الأندلس سنة 1492م في سياق تداعيات “حروب الاسترداد” التي أطرتها “وصية الملكة إيسابيلا” الشهيرة، فإن الحديث عن ذاكرتنا الأندلسية وعن هويتنا الأندلسية وعن عمقنا الأندلسي ظل يكتسي كل عناصر التجدد والاستمرارية والراهنية، خاصة عندما تتداخل إكراهات الواقع المحلي المتنافر بين الضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، مع ضغط التاريخ، بأحقاده وبتساكن مكوناته، بنكساته وبتوهجه، بحميمياته وبعناصر تنافره وتباعده، بمآسي ماضيه القاتم وبانتظارات غده الموعود.
لقد قيل الشيء الكثير عن “أندلس الأعماق” حسب التعبير الأثير للأديب المغربي محمد الصباغ، وانتشرت معاهد وأقسام جامعية متخصصة في الدراسات الأندلسية، وعرف مجال تلقي سوق النشر توالي الإصدارات الغزيرة سواء بالمغرب أم بإسبانيا. واتضح أن الموضوع استنفذ قضاياه ومواضيعه، لكنه -مع ذلك- ظل يثير أسئلة حقيقية حول آفاقه المجالية، ذلك أن البحث شمل -بشكل أساسي- المجال الأندلسي الإسباني بشبه الجزيرة الإيبيرية، وتغافل -بشكل كبير- عن جزئيات القسم الغربي لبلاد الأندلس، ونقصد به -في هذا المقام- الجزء المعروف ب”البرتغال الأندلسية”. لعل من عناصر الاستغراب المرتبط بالوضعية الحالية، تدفق كم هائل من المعطيات القطاعية والمونوغرافية والبيوغرافية حول مراكز “إسبانيا الأندلسية”، بمدنها وبقراها وبتجمعاتها البشرية وبخصائصها الإثنوغرافية والثقافية والدينية والروحية. فمن القرى المتناثرة في فضاء الجنوب الإسباني، إلى مراكزه الحضرية الكبرى مثل إشبيلية وغرناطة وقرطبة وبلنسية وقادس، استطاع البحث العلمي تحقيق تراكم غزير، تحولت معه قضايا الوجود الإسلامي بالأندلس الإسبانية إلى موضوع متجدد بامتياز، له رواده وله باحثوه وله مراكزه وله منابره وله متخصصوه من كل أقطار العالم الإسلامي الواسع. ونكاد نجزم أن ما حققه البحث العلمي العربي -وخاصة ببلدان الشمال الإفريقي- بهذا الخصوص يظل أمرا غير قابل لا للمقارنة ولا للحصر، كتعبير عن استمرار حضور ذاتنا الأندلسية قوية داخل نسق هويتنا المركبة، بأصولها الإسلامية وبروافدها الإثنية والحضارية المتداخلة. وفي المقابل، تظل معرفتنا بواقع “البرتغال الأندلسية” في الظل، بعيدا عن التداول الأكاديمي وعن الاستثمار الإعلامي وعن الاهتمام التواصلي، الأمر الذي خلق ثغرات منهجية بترت جزءً كبيرا من معالم ذاتنا الأندلسية الأصيلة.
في سياق الاهتمام بإعادة تحقيق المصالحة الضرورية مع هذه الذات الأندلسية الأصيلة، يندرج صدور كتاب “البرتغال الأندلسية الإسلامية- من الفتح الإسلامي إلى السقوط”، للأستاذين محمد القاضي ومحمد العمارتي، سنة 2021، في ما مجموعه 509 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويعكس صدور هذا العمل، تزايد الوعي بضرورة العودة لتقليب صفحات الوجود الإسلامي بالشق الغربي من بلاد الأندلس المنتمي -حاليا- لدولة البرتغال، ليس بهدف الاستجابة لنهم النوسطالجيات الحالمة، ولكن -أساسا- بهدف سد الثغرات المنهجية التي طالت الدراسات الأندلسية العربية المعاصرة بخصوص وقائع الحضور الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية على امتداد القرون الثمانية لهذا الحضور. ولعل هذا ما حدده معالمه مؤلفا الكتاب في كلمتهما التقديمية، عندما قالا: “كانت بلاد الأندلس في عهد السيادة الإسلامية على شبه الجزية الإيبيرية تضم ما يعرف اليوم بإسبانيا والبرتغال. وقد حظيت الجهة الإسبانية باهتمام كبير بحكم جغرافيتها وتاريخها… وبعناية المؤرخين الباحثين والدارسين شرقا وغربا، وبلغات متعددة وبمختلف التخصصات العلمية، وبرؤى متنوعة وتصورات علمية ومنهجية غنية، منها المادي (العمران والمباني والمآثر)، ومنها الرمزي غير المادي المتمثل في شتى معالم الإبداع الفكري والعلمي والثقافي والفني والجمالي… فأضحت هذه الجهة بفضل ذلك جلية واضحة وبارزة للعيان… فنالت الاهتمام الكبير من انشغالات البحث العلمي الحديث والمعاصر… في حين ظلت الجهة البرتغالية مهمشة وبعيدة إلى حد بعيد عن عناية العلماء والمؤرخين المهتمين بفترتها العربية الإسلامية، ولم تحظ عندهم بما حظيت به أختها الإسبانية، رغم غناها التاريخي والثقافي والحضاري، فلم يلتفت إليها الباحثون والمؤرخون والدارسون، ولم يأبهوا بالروائع الإسلامية الأخرى القابعة في أراضيها، وعلى ترابها، ولا يذكرون أن البرتغال مثل إسبانيا كانت حاضنة هي الأخرى لآثار الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس الكبير…” (ص. 3).
وعلى أساس هذا التشخيص الدقيق لواقع الدراسات الأندلسية العربية الراهنة، سعى الأستاذان القاضي والعمارتي إلى العودة لتشريح البحث حول المكونات التاريخية لعناصر المشترك الحضاري والعلمي والثقافي بين العالم العربي والإسلامي من جهة، وبين البرتغال الأندلسية من جهة ثانية. وكانت النتيجة، تقديم نبش هائل وغير مسبوق حول معالم الحضور العربي الإسلامي بالأندلس البرتغالية، في مستوييه المتداخلين، مستوى التلاقح الحضاري المتبادل بين الضفتين، ثم مستوى التدافع السياسي الذي فرضته قرون طويلة من الصراع بين الهويات والتطلعات والمواقف. وفي جميع الحالات، ظل واقع التقارب يغطي على حالات التباعد، وظل القبول المتبادل عنوانا لمظاهر التعايش الحضاري بين الديانات والأعراق واللغات والثقافات، الأمر الذي سهل عملية انتقال تيارات التأثير والتأثر المتبادلة في اتجاهيها المتقابلين، العربي الإسلامي والبرتغالي. نجد هذا التفاعل قائما في مختلف شواهد الزمن الراهن، مثل المخلفات العمرانية، واللهجات المحلية، والمحكيات الشفاهية، وتمثلات كل طرف تجاه الآخر، والمصنفات الإبداعية، ونظم الحياة الجماعية في مستوياتها السوسيولوجية والإثنوغرافية المرتبطة بنظم التفكير الجماعي وأشكال تدبير جزئيات الواقع اليومي،… ولعل هذا ما يجعلنا نعتقد أن حضور “المكون البرتغالي” في مخيالنا الجماعي، وخاصة بالمغرب وببعض بلدان الخليج العربي، يظل أكثر قوة وأكثر انسجاما مع نسق الهوية المحلية المركبة، إذا قارناه بأشكال حضور “المكون الإسباني” داخل نفس المخيال الجماعي.
لقد انتهى نبش الأستاذين القاضي والعمارتي إلى تأكيد جملة من الخلاصات المرجعية المؤطرة للبحث، وعلى رأسها قوة حضور التراث الرمزي الذي لا يزال قائما إلى اليوم، إلى جانب قوة الشواهد المادية، وعمق الروابط التاريخية، الأمر الذي نجد تفاصيل غزيرة حول مجمل جوانبه المرتبطة بالمسار الزمني والتاريخي لمنطقة الغرب الإسلامي من خلال أحداثها السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية بآثارها المباشرة على إيقاع حياة سكان المنطقة وعلى معالم تكون هويتهم الجماعية المركبة. وقد عزز المؤلفان نبشهما، بتقديم تفاصيل وافية حول سير أعلام الغرب الأندلسي من رجالات الفكر والسياسة والآداب، مع التركيز على الاهتمام بتجميع الوقائع المرتبطة بالمسار العمراني للمنطقة من خلال تراثها الطوبونيمي الصانع لمعالم التفرد الحضاري الذي خلفته مراكز كبرى، مثل مدينة شلب، ومدينة أشبونة أو لشبونة، ومدينة شنترة أو سنترا، ومدينة شنترين، ومدينة يابرة، ومدينة باجة، ومدينة فارو، ومدينة بطليوس أو بداخوس، ومدينة فاطمة،…
وفي كل هذه المحطات، جاء الكتاب غزيرا في معطياته التوثيقية المستقاة من بيبليوغرافيا ثرية جمعت بين أمهات المصادر العربية الإسلامية أولا، وبين الدراسات القطاعية المتخصصة بالعالم العربي الراهن ثانيا، وبين أمهات المصادر الإسطوغرافية الإيبيرية بدولتي إسبانيا والبرتغال ثالثا، ثم برصيد البحث الأوربي المعاصر المهتم بقضايا الوجود العربي الإسلامي بالأندلس الغربية رابعا. وبذلك، استطاع الكتاب اكتساب عناصر السبق لإعادة مقاربة الإشكالات المجالية الكبرى بالنسبة لالتباسات الحضور العربي الإسلامي ببلاد الأندلس، بشطريها المتكاملين، الشطر الإسباني الشرقي، والشطر البرتغالي الغربي.
أسامة الزكاري