كثر الحديث، خلال العقود الأخيرة، عن المجتمع المدني، هذا المصطلح الذي يتم تداوله في العديد من المواضيع والنقاشات، المطروحة في الساحة الحياتية للمواطنين، حيث يعتبره البعض دخيلا على الوطن العربي وعلى تربته، قادما إليها جاهزا من المجتمع الغربي. بينما يرى البعض الآخر أن مفهوم المجتمع المدني هو متجذر في الحياة العربية والإسلامية، منذ عصور، متمثلا في الأعمال الخيرية والبر والإحسان والتي ميزت الأسر والقبائل العربية والمسلمة في تعاملها مع بعضها البعض، وخاصة على مستوى أعمال التراحم والتكافل الاجتماعي، لتحقيق أهداف إنسانية عامة، لاسيما وأن جوهر الإسلام هو خدمة الإنسان الذي حمل الرسالة، بل وخدمة جميع الكائنات والبيئة، ككل. ومع مرور الأزمنة، تطور مفهوم المجتمع المدني، ليصبح مكونا لمؤسسات ومنظمات وجمعيات تعمل في مجالات التنمية الاجتماعية والثقافية والنقابية والحقوقية والرياضية…
وحسب أغلب المصادر، فإن مفهوم المجتمع المدني برز في المغرب العربي، خلال ثمانينات القرن الماضي، وانتشر مع تفاقم الأساليب الاحتجاجية، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي تحصل في الدول العربية، إذ تم تأسيس العديد من منظمات وجمعيات المجتمع المدني، إبان هذه الأجواء المشحونة. وبالنسبة للمغرب، فإن منظمات وجمعيات المجتمع المدني تتكاثر كالفطر، حيث يبلغ عددها حاليا حوالي مائتي(200) ألف على المستوى الوطني، بعد أن كان عددها يبلغ، منذ أربع سنوات فقط، ما مجموعه مائة وثلاثون(130) ألف جمعية تعمل في مجالات مختلفة. أما بالنسبة إلى مدينة طنجة، فإن ما مجموعه 78 جمعية يمكن القول بأنها تحظى بالاعتراف والتقدير من طرف السلطات المحلية. والدليل أنها تستفيد من الدعم، وخاصة الجمعيات العاملة في مجال الثقافة والموسيقى و الأمداح، تحديدا، والتي تتصدر لائحة الدعم، تليها الجمعيات العاملة في المجال التنموي، في حين لا تحصل أغلب التنظيمات إلا على دعم “خجول” وهذا طبعا يعود إلى عدم حضورها الوازن في المشهد الجمعوي المحلي وافتقادها لقياديين وأعضاء أكفاء يمكن أن ينسجوا علاقات مع السلطة أو يجدوا موطئ قدم لهم، بتقديم الإضافة على مستوى البرامج والأنشطة المتنوعة. وهذا النوع من الجمعيات هو ما يسيطر على مشهد المجتمع المدني وعمله الجمعوي، سواء محليا أو وطنيا، حيث يسعى مؤسسو هذه الجمعيات إلى بلوغ أهدافهم المعروفة، المتجلية في قضاء مصالحهم الذاتية، إلى درجة اغتنائهم، تحت ذريعة قيامهم بالأعمال الاجتماعية والخيرية، لفائدة المجتمع، وخاصة لفائدة فئاته الهشة والمعوزة. ورغم أن المجتمع المدني يعتبر “قطاعا مستقلا” فإن لا شيء من هذا يمكن ملامسته على أرض الواقع، ذلك أن التنظيمات الجادة التي تعمل من أجل المصلحة العامة، من خلال الدفاع، بحق وحقيق، عن حقوق وقضايا المواطنين المختلفة، لابد وأن تجد عدة عراقيل في طريقها وهي تحاول تنفيذ برامجها وأنشطتها، ولاسيما إذا كانت هذه البرامج والأنشطة تعاكس توجهات واختيارات السلطة التي لا تجد حرجا في منعها من الدعم، كسلاح لتعطيل نشاطها أو التأثير عليه. أما التنظيمات التي تتمتع برضا السلطة، فهي معروفة بكونها تسير في فلكها وتطبق سياساتها، وبالتالي فإن الدعم “السمين” واصل إليها، لا محالة، حتى ولو كانت لا تتوفر على أطر وأعضاء، ذوي مؤهلات أدبية أو علمية أو تقنية.
وهذا المعطى ساهم في إعطاء نظرة سلبية إزاء بعض مكونات المجتمع المدني التي هي في الواقع نسخة أو بيدق لأحزاب الأغلبية، تحركها كيفما شاءت ومتى شاءت، حيث تقوم بتجييشها وبواسطتها تركب على الأحداث والمناسبات المختلفة التي تشهدها البلاد. فهل مؤسسات المجتمع المدني بمقدورها أن تعالج آلام وأحزان المواطنين، بحل مشاكلهم، الناتجة عن ظروف عيشهم، سواء قبل الجائحة أو أثناءها أو بعدها؟ وهل بمستطاعها أن تؤثر إيجابيا على الأوضاع وتتخذ قرارات جريئة، تحاسب من خلالها الحكومة، مقابل تحقيق مطالب تكون في مصلحة المواطنين ؟ وهل مكونات المجتمع المدني تستطيع أن تمول نفسها بنفسها في الظروف الاقتصادية الراهنة للبلاد، كما هو الشأن بالنسبة إلى أروبا، حيث تقوم الجمعيات بالبحث عن مداخيل قارة لها، نتيجة عملها واجتهادها، بدلا من أن تظل عالة على الدولة، لأن مكونات المجتمع المدني لها دور كبير وعليها أن تعتمد على نفسها، مع مرور الوقت، لإظهار حسن نيتها في الدفع بالبلاد نحو التقدم والازدهار، وليس أن تظل دائما تتسول الدعم، دون أن يظهر أثر ملموس على عملها وكفاحها في بناء المجتمع ؟
صحيح أنه لا يمكن إرجاع أسباب تردي أوضاع معينة في البلاد إلى عدم المشاركة الفعالة لمنظمات ومكونات المجتمع المدني التي لا يمكن اعتبارها كلها، دون المستوى المطلوب، كما لا يمكن تبخيس عملها وعطائها، بل هناك نماذج منها تتميز بالفعالية، لكنها تعد على أصابع الكف الواحدة التي لا تصفق. كما أن مكونات المجتمع المدني تتناقض توجهاتها، حسب قضاياها المطروحة، كحقوق المرأة والمثلية وغيرها من الملفات الشائكة، ذات الخلفيات الإيديولوجية، مما يشتت عملها لما فيه الخير للبلاد، بحجة خصوصية وثقافة وعادات المجتمع.
وحول المجتمع المدني، لا بأس أن نختم الموضوع بمقتطف من مقال كان نشره الكاتب والأكاديمي المغربي يحيا اليحياوي في وقت سابق بالموقع الإلكتروني “الجزيرة” ، وذلك للتأمل والنقاش، جاء فيه: “أن الحبيب الشوباني الوزير السابق، المكلف بالعلاقة مع البرلمان ، صرح منذ سنوات بقوله “أنه من أصل 70 ألف جمعية محلية وجهوية ووطنية، هناك أقل من 10% منها يحصل على أكثر من 80% من أصل تسعة مليارات سنتيم تمنح للجمعيات سنويا وأن أزيد من 97% من هذه الجمعيات لا يقدم أية وثيقة رسمية عن مصاريفه أو أعماله أو ما نفذه من مبادرات وأنشطة وبرامج وما سواها، مضيفا أن هناك “مجتمعا مدنيا مرتزقا لا يقدم الخدمات التي تنص عليها أوراقه الرسمية واعدا بكشف الاختلال في التصرف بالمال العام” في حينه، لا بل وعد بكشف المزيد حال تثبت وزارته من اللوائح, وبيان التمويل المتأتي من المال العام الصرف والقادم من “المعونات الخارجية” وما جاء في إطار ما يسمى بالشراكات.
هي معطيات صادمة بكل زوايا النظر، لا بل إنها تشي بأن مصطلح “المجتمع المدني” المعتمد والمروج له بقوة في الأدبيات بالمغرب لا يصلح إلا بنسبة ضعيفة للغاية، للتعبير عن واقع ما تقوم به بعض هذه الجمعيات الأهلية أو ما تعمد إليه من سلوك وتصرف، فما بالك بادعاء كونها “ركنا من أركان السلطة بالدولة” أو قوة مدنية قبالة القوة السياسية التي تمثلها الأحزاب والنقابات والإعلام الرسمي وقس على ذلك.ومع أن البعض اعتبر نشر هذه المعطيات مجرد مناورة سياسية وإعلامية خالصة من لدن حكومة رفعت لواء فضح الفساد منذ مدة والتزمت بمحاربته ضمن أولوياتها، فإن تأملا بسيطا في عمق المعطيات الإحصائية السابقة يشي لوحده ولا يمكن إلا أن يشي, بأمرين متلازمين:
الأول، أن توزيع ما يخصص من المال العام لدعم هذه الجمعيات لا يتم وفق معايير موضوعية تعطي المال لهذه الجمعية أو تلك مقابل ما تقدمه من برامج ومشاريع، بل يتم وفق معايير أخرى، لا نشك هنيهة في كونها تنهل من الزبونية والمحسوبية والريع والولاء للسلطان أو لروافده المتنفذة بهذا القطاع الحيوي أو ذاك، تعبيرا عن كون هذه الجمعيات هي جزء من المنظومة القائمة وليست مستوى مستقلا عنها بأي حال من الأحوال.
إن هيئات المجتمع المدني لا تؤسسها الدولة، ولا تحدث بإيعاز منها. وهي ليست أداة تسخر من طرفها لخدمة أهدافها السياسية أو مبتغياتها الأيديولوجية. إنها “منظومة ذاتية التأسيس والعمل، وحينما تفقد أي جمعية استقلاليتها عن الدولة، وعن نفوذ السلطات العمومية، فإنها تفقد بذلك العنصر الجوهري الذي يميز المجتمع المدني الذي تتبلور في نسيجه رغبات أفراده، ويخضع لنظام خاص به، وله منهجيته”.
وعليه، فلو دقق المرء جيدا في هذه الجمعيات وهي المستمدة لتسمياتها وعناوينها من الهضاب والجبال والوديان والسهول، لو دقق فيها جيدا، لتبين له دون كبير عناء أن الثاوين خلفها إما أعيان كبار أو مستشارون بالقصر أو لهم بمحيط السلطان نفوذ أو وزن أو استلطاف أو لهم من “القدرة الإقناعية” ما يمكنهم بسهولة من إلباس الباطل بالحق والحق بالباطل، لإدراك مبتغياتهم وتحقيق مآربهم، دون ادعاء ما بالاستقلالية أو الاقتناع بالطبيعة المدنية للنشاط الجاري.
إن استقلال المجتمع المدني عن الدولة لا يعني بالضرورة أنه نقيض أو خصم لها، أو لا توجد بينهما أية صلة، وإنما يفيد أن علاقته بها لا تتسم برابطة التبعية. وعندما يكون هناك ورش ومشاريع تساهم فيها الدولة والمجتمع المدني في الآن معا، فإن طبيعة العلاقة في هذه الحالة تكون مبنية على الشراكة والتعاون، لا على التنافي والتضاد. إذ إن وظيفة المجتمع المدني وإن كانت لا تختلف في مجالات تدخلها عن تلك التي تهتم بها مؤسسات الدولة، ربما لا تكون من بين أولوياتها، ولذلك يصف البعض دور المجتمع المدني بأنه مكمل للمهام التي تقوم بها مصالح الدولة، ويسد الفراغ أو النقص في بعض الخدمات التي تهم هذه الفئة المتضررة أو تلك.
أما الأمر الثاني، فإن عدم تقديم أية وثيقة تثبت بالأرقام والبيانات ما قامت أو تقوم به هذه الجمعيات ما صرفته أو تصرفه أو هي عازمة على صرفه على “مشاريعها” إنما يدل بالقطع على أنها بنيات ومستويات خارج إطار المراقبة والتدقيق، فما بالك بالمحاسبة أو المتابعة أو أن تكون نسقا وسيطا يمنع عن المواطن، فردا كان أم جماعة، شطط السلطة وتجاوز الأقوياء المتجبرين, بما فيهم بنيات الدولة وأطرافها، أنفسهم ؟
محمد إمغران
صحفي بجريدتي الشمال وطنجة