اليوميات هي في الأصل تدوينات أطلت بها الكاتبة و المناضلة الحقوقية حميدة جامع من خلال صفحتها الفايسبوكية كل يوم طلية مدة الحجر الصحي الذي دام ثلاثة وثمانين يوما، و قد اختارت جمعها إصدار عنوته ب “يوميات امرأة في الحجر”.
اليوميات التي تبتدئ من أول يوم للحجر الصحي و المؤرخ ب 20 مارس و تنتهي بآخر يوم منه والمؤرخ ب 10 يونيو، ضمها بين دفتيه كتاب من 245 صفحة، حجمه أكبر من حجم الجيب المعروف، حروفه لا تتعب العين، وقد طبع بمكتبة الأندلس بتطوان في حلة جيدة تتقدم غلافه لوحة “امرأة في شرفة” الجميلة والمعبرة للفنان السوريالي العالمي بابلو بيكاسو.
ثلاثة و ثمانون تدوينة توجها ثلاثة و ثمانون عنوانا بتركيبات متنوعة و إيحاءات لها علاقة بصلب الكتابة الهادئة مرات و الصاخبة مرات أخرى..، سواء كان الأمر تأملا أو وصفا لما يجري أو تفاعلا أو تذكرا أو استشرافا..
تقول الكاتبة في التدوينة الأولى المعنونه ب”توافه” في سياق حديثها عن ممارستها لطقسها المتمثل في البحلقة في الفراغ و كأنها تشي بشيء من عقد الكتابة مع المتلقي :” أبحلق في خنصر يدي اليمنى دون أن أحركها حتى لا يضيع تركيزي وأطلق العنان لذكرياتي…و كأن الخنصر مكمن أسراري، لم أهتم إلا بالتفاصيل الصغيرة التي لا يهتم بها أحد(…) في المساء، كما في الليل، سيكون هناك متسع من الوقت للتسكع من جديد في دروب ذكرياتي…لكني لن أركز على الخنصر أبدا هذه المرة سأكز على الإبهام الوسطى”.
وفي نفس السياق تقول في التدوينة السادسة والعشرين المعنونة ب “حكايات مؤجلة”: و حكاياتي أنا أقبض من خلالها على الجرح.. فأتحسس مكانه وقد صار بحجم بذرة خضراء ناصعة اللون…صرت أتعهدها و أرعاها و أخاف عليها من رمش العين”.
وتقول في تدوينة اليوم الثاني و الأربعين المعنونة ب”صوت آخر”:”وإنه لنجاح باهر أن أتجاهل هذا المكان الذي يظن أنه قد تملكني.. وأحلق بخيالي وروحي و وجداني حيث أريد”.
وتفصح الكاتبة من جانب آخر عن الطبيعة التلقائية المتحررة من القيود لهذه التجربة في الكتابة في تدوينة اليوم الأربعين المعنونة ب”تفاصيل صغيرة” :” حكايتي مع اليوميات بدأت دون تخطيط، كما بدأ كل شيء في حياتي دون تخطيط…اعتباطيا و فجائيا…والفرق بين الوقائع التي أعيشها و الخيال خيط رفيع”.
وتوضح في تدوينة اليوم الستين المعنونة ب “تمديد الحجر الصحي” خلفية التحدي أو الخلفية المقاومة(مقاومة نزعة الحياة لنزعة الموت إذا أردنا) لهذه التجربة : ” تعبت من التحليل و محاولة الفهم، لذلك ركنت إلى هذه اليوميات علني أتحدى بها الزمن الكوروني و أسابقه، والزمن الكوروني قبل بدوره التحدي عل ما أظن…..”.
واستحضارا للإطار “الزمكاني” و النفسي لليوميات، تقول في تدوينة اليوم السادس و السبعين المعنونة ب”الأرجوحة”: “تنهدت عميقا و فكرت في نفسي، عندما ركبت أرجوحة الحجر الصحي، و انطلقت أعد الأيام و أنا أتمرجح بين أزقة ودروب المنزل و أتجه إلى حارة السطح و إلى حومة الشرفة…أتمعن وجوه سكان المنزل و أكتشف التفاصيل الدقيقة ثم أعتمد طاقني لدفع أرجوحتي والتحليق بها عاليا فوق المدينة ثم أدفعها أكثر لأحلق بها فوق المغرب والعالم..لم أكن أظن أن هذه الأرجوحة ستتوقف دون أن يقطع حبالها الكوفيد التاسع عشر و يستمتع بسقوطها و ارتطامها فوق الأرض.
الأيام تمر متتالية دون توقف أو انتظار، وهي ترتدي أثوابا متنوعة، كما ترتدي أسمالا بالية…و تنتعل ما تشاء من أحذية و تترك وراءها أصواتا قوية تصم الآذان..وندوبا عميقة تحفر أخاديد بدواخلنا و تعتمر ما تشاء من قبعات…..ونحن نراقب ما يحدث و نختبر مشاعر تختلف باختلاف ما تتلبسه أيامنا و بالشكل الذي تظهر به لنا”.
و في اليوم الثمانين المعنون ب”سحب تائهة” تلقي حميدة جامع نظرتها المتفحصة على كتابتها مؤكدة أنها عاجزة عن قول كل شيء، رغم تعدد السياقات، و أن الكتابة بطبيعتها تحبل بالبياضات، مصرحة أنه : “في الحقيقة و بعد مرور ثمانين يوما من الحجر ما زلت لا أستطيع الإفصاح عما أشعر به بشكل كامل، و لايمكنني التفكير في ذلك أبدا، لأنه في مدينتي و في محيطي، كما في العالم ينبغي أن يبقى هناك شيء مجهول في داخل الإنسان…شيء لا تصل إليه يد الفصح و الفضح….هي جزء من اللعبة…لعبة الحياة قبل الموت”.
وتقر الكاتبة في اليوم الرابع والأربعين المعنون ب”الخوف” بشكل ضمني أن كل ما هو فردي، و من ضمنه الكتابة التي و إن كانت فردية فإنها تعبر بشكل أو آخر عن ما يختلج في نفس الإنسان بصيغة الجمع : “عندما نغوص في أعماقنا نلمس تشابها كبيرا بيننا إلى درجة التطابق نظن أننا مختلفون، لكننا في الحقيقة نشترك في صفات كثيرة…نحن نتعود بسرعة على ما يحيط بنا و نتأقلم معه…فيصير التعود عادة لنا….نحن نخاف من المجهول…نخاف من غدر الأيام……”
و تقول الكاتبة في التدوينة ما قبل الأخيرة المعنونة ب “جلبة” ممارسة النظر فيما عاشته أو كتبته خلال مدة الحجر: ” أذكر أنه مساء بارد من أيام الحجر الصحي ستجتمع الحكومة لتقرر مصير إقامتنا الجبرية، و ستحتفظ ذاكرتي بأيام الخوف و الإختباء..لم نفعل شيئا و لم نقم بأي عمل….فقد اختبأنا وبجبن كبير، تمسكنا ببيوتنا و اعتزلنا العالم لننجو من الوباء، وأذكر كذلك أنني عشت خلال هذا الحجر أعيادا دينية و وطنية و أممية، و تابعت أخبارا متنوعة، و اختبرت مشاعر كثيرة، و عاينت تقلبات مناخية وحضرت ندوات وتكوينات و اجتماعات عن بعد…و ها أنذا بعد كل هذه الجلبة التي أحدثها الفيروس، و بعد كل الفوضى التي خلفها وراءه، أجلس هنا أبحلق في كل اتجاه أنتظر اجتماع الحكومة حول الحجر الصحي”.
“يوميات امرأة في الحجر” هي فعل تحرري من ثقل الماضي و قيود الحاضر و هواجس المستقبل، من الخوف، من القهر، من المسكوت عنه، لذلك فكتابة المناضلة الحقوقية حميدة جامع في هذه اليوميات تتميز بكونها كتابة جارحة غير مداهنة و مقاومة تنحاز إلى الإنسان”ما أجمل الفقراء وما أقبح الفقر”…، و تصرخ في وجه الظلم أينما كان و كيفما كان، و تحذر من أن يتحول الجمال إلى قبح، و تتموقف بشكل واضح من قضايا حقوقية محلية ووطنية وكونية كتشغيل الخادمات، واضطهاد المهاجرات، والعنف ضد النساء، وغزو العراق، و احتلال فلسطين، و التمييز العنصري بأمريكا، و اختلال التوازن في العالم بين الدول الغنية والفقيرة، و قضايا البيئة…
و لأن الكتابة فعل جمالي بامتياز فإن الكاتبة لا تفرط في شرط من شروطها، فلغتها رغم بساطتها، فإنها رقراقة، حالمة و ساخرة، و تركيب الحكي، وإن كان ربما عفويا، في اليوميات جاء مطروزا و متنوعا بتنوع سياقات الكتابة و مواضعيها، ففي كل تدوينة تبدع حميدة جامع بناء حكائيا جديدا لا يشعرك بالملل و إن كان يغلب عليه كحدين طقس الصباح و قهوته و تسلل الليل بنهكته المفارقة، و كتابتها غنية بالتناص الخفي و الظاهر و هو ما يدل على أن ثقافة الكاتبة واسعة و شغفها بالقراءة و الأدب راسخ وله امتدادات دالة…
اليوميات بالإضافة إلى كونها تتفاعل مع الأحداث قديمها و حديثها كاشفة عن توجه الكاتبة الفكري ورؤيتها للعالم، يمكن اعتبارها دون تردد وعاء سقته الكاتبة من جذور سيرتها التي تمتد من زمن الطفولة والبراءة والشقاوة إلى زمن النضج و الوعي بالذات و الواقع في علاقاتهما المتشابكة والمتوترة و التفاعل مع الحياة في تحولاتها و تقلباتها، و قد اتخذت لذلك اليوميات في بعض خيوط نسيجها مسحة رومانسية غنائية أو تراجيدية ناقمة أو عبثية ساخرة…فكان الفرح و الحزن و البكاء و القهقهات…
كلنا عشنا تجربة الحجر الصحي، لكن القليل منا من استطاع أن يدون ما جرى له و ما جرى في محيطه القريب والبعيد بقلم متفحص، مواظب، ومبدع، المناضلة الحقوقية حميدة جامع واحدة من هذه الكوكبة القليلة حيث من خلال يومياتها ستترك نصا إبداعيا عن زمن الحجر في مكان ما في هذا العالم كان له أثره إبان نشره اليومي وستكون له قيمة أكيدة حاضرا و مستقبلا…
إن “يوميات امرأة في الحجر” الذي يعتبر الإصدار الأول لحميدة جامع يبصم بتوهجه وخفته على ميلاد أديبة من صلب المناضلة سيكون لها حضور في الساحة الأدبية والإبداعية النسوية على الخصوص، وفي الفوضى الجميلة حرية و في الحرية الواعية يكتمل الإبداع…
عبدالحي مفتاح