اعتبر الشاعر الفرنسي لوي أراغون أن “المرأة هي مستقبل الرجل”، في حين اشتهر أحد الوجهاء التطوانيين، الذي يبدو أنه عانى من تجربة عنيفة لا نعرف تفاصيلها، بتجواله بحواري المدينة العتيقة وهتافه بين الفينة والأخرى” يَحْيا النْسا !يَحْيا النْسا !”.أما الباحثة العالية ماء العينين، فلكي تدلل على أن للنساء مكانة وحظوة في مجال الإبداع، اقترحت علينا كتابها “التبراع. نساء على أجنحة الشعر. دراسة في الشعر النسائي الحساني”* الذي هو في الأصل أطروحة جامعية.
ومؤلفة الكتاب هي سليلة أسرة عالية المقام من العلماء والأعيان ذوي الأصول الصحراوية، وهذا ما جعل مقاربتها لظاهرة التبراع تبتعد عن الحياد النظري البارد وتتبنى نبرة فيها بعض الذاتية وإحساس بالمسؤولية وقدر من الفخر. هكذا نجدها تقول عن تماسها الأول مع موضوع هذا الكتاب: ” (التبراع) هو حكاية اكتشافي أن للمرأة شعرها الخاص، وأن هذا المجتمع المحافظ يقف عند حدود هذا العالم الأنثوي الذي تفك فيه المرأة جدائل أحاسيسها وتترجمها بوحا شعريا ” (ص 9).إن هذا الشعر إذن، وهذه الدراسة كذلك، يحكيان لنا كيف تدبر المرأة الصحراوية عواطفها حينما تشعر بالأمان وكيف يكون الإبداع وثيقة ثرية ودسمة عن خصوصية مجتمع ما.
وتؤطر العالية ماء العينين موضوع بحثها تأطيرا نظريا وأكاديميا إذ تؤكد على أن الأمر يتعلق بدراسة للشعر النسائي الحساني ” (…) باعتباره ابداعا “حسانيا” يحيل على الحسانية التي هي لغة تواصل وثقافة ونمط عيش، أي أننا نتحرك في فضاء مكاني/جغرافي يحصر أو يشمل الناطقين بالحسانية، وهو مجال شاسع ومترامي الأطراف” (ص13)”. وبالطبع فهذا الفضاء اللغوي والثقافي الرحب عاشت وتعيش فيه قبائل رحل مما يزيد من صعوبة التحديدات الصارمة بما أن هذه القبائل هي دائمة التنقل وبما أنها تطبعت على نمط عيش متفرد.
والتبراع هو تغزل المرأة الصحراوية بالرجل وخصاله الجسدية والأخلاقية . وكما يمكن أن نستنتج من جذره اللغوي والدلالي، هو بوح أنثوي عماده الإتقان وغايته اقتسام جمال ولوعة وأحاسيس. و من المعروف أن له طقوس خاصة إذ ينشد ويتم التغني به في مايشبه النوادي النسائية المغلقة مما جعله يتميز بنوع من الجرأة لأننا لا نعرف ملامح المنشدات اللواتي يسيجن أنفسهن خلف غفلية مريحة. والنساء، عبر اختيارهن هذا النمط من التعبير، يعلن عن حقهن في فسحة حرية و في التعبير عن أحاسيسهن المحتجة : “كانت الفتاة تقول “التبراع” في إطار جماعي بمشاركة صديقاتها على نفس المنوال حتى يتفرق “دمه بينهن” ولا يعرف من المخصوصة به.(…) ” (ص81). وهكذا يصبح الحب نفسه، بالرغم من أنه أكثر الأشياء ارتباطا بذاتية الفرد وبمشاعره الدفينة، أمرا تسنده الجماعة وتمنحه بعضا من شرعية. ثم إنه شعر ذو بنية بسيطة مما يمكن النساء من مختلف الشرائح والمستويات قرضه، مع الإشارة إلى أن المجتمع الحساني مجتمع أفرد مكانة خاصة للنساء و تعامل معهن باحترام وتقدير.
وسجلت الباحثة أن المعجم الحساني الذي يحمل رصيدا تراثيا عالما وشفويا هو أيضا مرآة لحياة ونمط عيش أهل الصحراء، وهو يعتمد بشكل كبير على الموسيقى. وهو بقدر ارتباطه باللغة العربية الفصيحة، فهو مرتبط بالمعجم المعاصر بتعابيره المتداولة التي تسعى للتواصل الواسع .
و بما أن الباحثة كان لها سبق التنقيب وتسليط الضوء على شعر التبراع من منظور أكاديمي، فإنها كانت مطالبة بأن تقارب هذه الظاهرة الأدبية في شموليتها وفي مختلف مستوياتها. ويبدو أن مسعاها الرئيس كان هو أن تساهم في صون ذاكرة أدبية نفيسة من الضياع ومن التلف لذا ألحقت دراستها بمدونة التبراع جمعت فيها ما تمكنت من جمعه من هذا الشعر، و بينت كيف أن هنالك استثمارا لرموز إبداعية عربية مثلما هو حال شخصيتي مجنون ليلى قيس الملوح أوشاعر المرأة نزار قباني الذين استثمرت صورتهما في هذه التبريعة:
“حبك يا لقديس حير نزار وقتل بلقيس” (ص102)
كما رصدت الباحثة بعض تأثر باللغة الأمازيغية و تسربا لتعابير من اللغة الفرنسية أواللهجة المصرية .
أما الصورالشعرية للتبراع فتنبني على أسس البلاغة الكلاسيكية من يجاز وتشبيه وكناية وتسعى إلى ضمان وصول معناها وإحداث وقع مفاجيء لدى المتلقي. تقول شاعرة حسانية لا نعرف بالطبع من تكون:
” حبي ذ الطاري رواه البخاري” أي ما معناه: حبي الجديد ثابت في صحيح البخاري) (ص117)
وبما أن الغرض الرئيس في التبراع هو الغزل وموضوعه المركزي هو الحب وما يستتبعه من سقم ولوعة واشتياق فإن الباحثة ترى أنه من الطبيعي أن نجد نماذج “أقرب إلى النماذج العذرية في الشعر العربي الفصيح حيث لا مجال لخطاب حسي أو رغبات مفضوحة” (ص65) و يتم تقديم الحبيب على صورة طيف وتقديم مشاعر الحب على أنها مشاعر يصعب القبض عليها:
وأنا فؤادي طاري ل شي ماه عادي”
كما تتم الإشارة إلى تجارب واقعية تحكي عن قصص وصال تتلوها حيرة ومعاناة “عاكب ل وداع محرك ياسر من لوجاع” (ص69) ( أي ما معناه: كنت في وداع حرك كل أوجاعي…” (ص69)
والإنشغال بلواعج الروح ونداءاتها لم تجعل مبدعات التبراع يغفلن في سياقات محددة التعبير عن مواقفهن حيال بعض القضايا القومية مثل القضية الفلسطينية.
التبراع إذن شعر نسائي خالص، ونصوصه غير موقعة وسرية، مما يجعل من اهتمامنا به، بمعنى من المعاني، تلصصا لذيذا، وهو تسري فيه روح التحدي و قدر لا باس به التوق إلى الحرية ويمنحنا معرفة غنية بخصوص مجتمع لا يمنح نفسه بسهولة هو المجتمع الصحراوي الحساني، وقد يجعلنا نهتف بتلقائية “يَحْيا النْسَا ! يَحْيا النْسَا !”
عبد اللطيف البازي