انتشر الفيروس التاجي المستجد في كل دول العالم انتشار النار في الهشيم وأدى إلى إرباك وتهديد لمختلف المجالات الحيوية والاستراتيجية، والتي لم يكن البشر يتخيلون يوما ما أنها ستتوقف أو تُشل، ويُعد المغرب من بين الدول التي اتخذت احتياطات قبل تفشي هذه الجائحة، ومن هذه الاحتياطات مجموعة من التدابير الوقائية والاحترازية تجنبا لانتشار وتفشي الوباء بين الأشخاص، منها إغلاق المغرب لحدوده البحرية والجوية والبرية وإغلاق المدارس والجامعات وتجميد أغلب الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك حفاظا على سلامة المواطن وضمانا للسلامة الجماعية، وليجد المغرب نفسه، شأنه شأن باقي الدول الأخرى أمام ضرورة اتخاذ خطط استراتيجية بديلة من أجل ضمان استمرارية بعض القطاعات ولو عن بعد، من بينها التعليم.
قرر المغرب بتاريخ 14 مارس تعليق الدراسة بجميع المؤسسات التعليمية والتكوينية بالقطاعين العام والخاص ابتداء من 16 مارس 2020، كما قامت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي باعتماد خطة بديلة آنية لإنقاذ الموسم الدراسي من سنة بيضاء، إذ لم تجد الوزارة بدّا من اعتماد تقنية “التعليم عن بعد” من أجل الاستمرارية البيداغوجية.
من خلال هذه التوطئة يتبين أن الظروف الاستثنائية التي مر منها العالم بشكل عام والمغرب من ضمن دول المعمور وجد نفسه مجبرا لا مختارا أن يفكر في بدائل وحلول لمشكلات مستجدة طارئة، هنا تكمن العبقرية والنباهة، فوضعيات الرخاء لا تصنع الرجال وإنما الشدة والمحن مصنع للأفكار ومنبت للقادة.
سنحاول في هذا البحث التطرق إلى الآثار السلبية للجائحة على مجتمع البحث –التلاميذ والأساتذة- وسنحاول جهد الإمكان ملامسة الجوانب المضيئة التي خلفها الوضع الجديد، ومنه سنتوقف عند معالجة ظاهرة “التعليم الإلكتروني” أو “التعليم عن بعد” بالمغرب في ظل جائحة كورونا، كما سنحاول الإجابة عن بعض الأسئلة المرتبطة بمدى قدرة هذه التقنية على ضمان إيصال محتوى المقررات الدراسية إلى المتعلمين على النحو المطلوب في العالمين الحضري والقروي، وكذا العوائد الإيجابية المتعددة التي يحققها التعليم عن بعد، والتحديات العديدة التي يواجهها في المقابل، كما سنحاول تسليط الضوء على آفاق ومآلات هذه التجربة وإمكانية اعتمادها واستمراريتها في المنظومة التعليمية مستقبلا.
انطلاقا من إشكالية الدراسة، ومحاولة منا لمعالجتها وفك شفرتها، حاولنا صياغة فرضية رئيسة وفرضيتين فرعيتين على النحو التالي:
- الفرضية الرئيسية: لأزمة الفيروس التاجي إيجابيات وسلبيات على قطاع التعليم.
- الفرضية الفرعية الأولى: يواجه المعلمون والمتعلمون والآباء تحديات وصعوبات كبيرة لمواجهة التحول من التعليم الحضوري نحو التعليم الإلكتروني.
- الفرضية الفرعية الثانية: يضمن التعليم عن بعد الاستمرارية البيداغوجية للعملية التعليمية في ظل تعذر الدروس الحضورية.
الآثار السلبية المرافقة لظهور الفيروس التاجي:
أدى التوقف الاضطراري للدروس الحضورية إلى ارتباك واضح في تدبير هذه المستجدات، وبدأت تظهر علامات القلق على التلاميذ والأساتذة والأسر، فتناسلت الأسئلة والإشاعات والتوقعات والفرضيات والمقترحات.
فكان من أول سلبيات الجائحة هو توقف الدراسة الحضورية، ونحن نعرف الأهمية الكبرى للدروس الحضورية حيث التواصل المباشر بين المعلم والمتعلم، بين المرسل والمتلقي، فتوقف بذلك نهر المعرفة الجاري، وتوقف إمداد التلاميذ بالمعارف والمهارات التي كانت تقدمها المدرسة.
بدأت مشاعر القلق والخوف من المرض أولا وعلى مصير التلاميذ ثانيا، وبدأت مشاعر الاضطرابات النفسية تلوح في الأفق نظرا لتطبيق المغرب للحجر الصحي الشامل بتاريخ 20 مارس 2020.
فالمدرسة تعد فضاء للانفتاح وتبادل الخبرات والتجارب ومحك حقيقي للأطفال يصقل موهبتهم وينمي ذكاءاتهم.
فأول مشكل يمكن رصده بالموازاة مع ظهور الوباء هو توقف الحصص الحضورية، وبعد مشكل توقف الدراسة الحضورية، انضاف له مشكل حظر التجول، مما يعني البقاء في المنازل بشكل مستمر.
ومن موقعي الأسري والمهني فقد عايشت فترة الحجر الصحي من زوايا متعددة، فأنا مدير المؤسسة والمشرف على تدبير العمليات التعليمية، ومن ناحية أخرى فأنا أب لتلميذة بالمستوى 3 فعايشت معها الآثار السلبية المرافقة للفيروس التاجي وما تبعه من حجر صحي شامل، وزوج لأستاذة، واكبت معها أسئلة القلق وعدم وضوح الرؤية التصورية، كما أنني مدرس لمادة اللغة العربية لتلاميذ الثانوي التأهيلي –في إطار الدعم والتقوية- إنها زوايا مكنتني من استكشاف آثار الجائحة على التلاميذ والأساتذة والأسر.
أنتجت الجائحة هوة وفراغا سحيقا بين المربين ومتعلميهم، وأحدثت شرخا بين الأبناء وآبائهم، وأظهرت تجليات كانت قيد الغموض والستر، وأبدت علامات كانت خفية الملامح.
لقد أدى إغلاق المدارس والجامعات بسبب انتشار فيروس كوفيد-19 إلى ترك واحد من كل خمسة طلاب خارج المدرسة على مستوى العالم. -(اليونيسكو)-
وفي المغرب في 13 مارس 2020، قررت الحُكُومة المغربيّة إغلاق جميع المدارس مؤقتًا، وذلك ابتداءً من الإثنين 16 مارس 2020، واعتماد التعليم عن بعد عبر البوابة الإلكترونية تلميذ تيس والقناة التلفزية الرابعة الثقافية –سنتحدث عنه في المحور الثاني-. ومنه فأزيد من 9 ملايين متعلم حرم من فصله الدراسي ومقعده المدرسي.
التعليم ما قبل الجامعي 7,886,899
التعليم العالي 1,056,257
أحس مجموعة من التلاميذ بالضياع والتيه وسط هذه الأمواج من البلاغات والقرارات، وأبرز ما كان يشغل بالهم هو الامتحانات الإشهادية.
كما قلت فمن موقعي مدرسا لمادة اللغة العربية فقد عايشت الكم الهائل للتوتر والقلق الذي يحس به تلاميذ المستويات الإشهادية، فهم مقبلون على امتحانات لا يعرفون موعدها، وسيمتحنون في مواد ومقررات لا يدركون حدودها، فتُطرح أمامهم أسئلة حارقة عن كيفية ومدة ومكان وزمان هذه الاختبارات الإشهادية، ولقد عانى هؤلاء التلاميذ من مشاكل تقنية عديدة في استعمال التقنيات الحديثة للتعليم والمراجعة، تتأرجح هذه الصعوبات بين غياب الأدوات الإلكترونية وبين صعوبة ربطها بالشبكة العنكبوتية إما بسبب مادي أو تقني، وبين ضعف مهارات توظيف هذه التقنيات.
لقد أحسستُ بالمراراة وأنا أتواصل مع بعضهم بعد أيام من الانقطاع فيجيبك: لم يكن عندي رصيد أنترنت أو كنت في دواري الذي لا يتوفر على تغطية الشبكة، فعلا لقد اختل ميزان تكافؤ الفرص بين من يتوفر على الإمكانات المطلوبة وبين من افتقد القدرة على المواكبة، لقد استمعتُ لرسائل صوتية لأمهات وآباء يشتكون من عدم قدرتهم المادية لتوفير تعبئات الهاتف، ومنهم من يتوفر على هاتف وحيد في حين أن أطفاله الثلاث أو الأربع كل يحتاج هاتف الخاص.
لقد أحدث الفيروس وضعيات اجتماعية صعبة في جميع المجالات، والأكيد أننا عايشنا بعضا منها في جوانبها التربوية والمدرسية، لن أتحدث عن الجوانب الاقتصادية والنفسية والمالية والصحية لأنني متأكد أنكم عايشتم بعضا منها، لكنني حاولت أن أرسم أمامكم بالكلمات بعضا من خدوش الكورونا في الواقع التعليمي ومن زوايا مختلفة لأنني متأكد مرة أخرى أنكم عايشتم جانبا منها.
وللحد من القلق المرتبط بالامتحانات الإشهادية أعلنت وزارة التربية والتعليم في 12 ماي 2020 إلغاء الاختبارات والامتحانات الإشهادية للتعليم الابتدائي والإعدادي، وحددت تاريخ إجراء الامتحان الوطني للسنة الثانية باكالوريا خلال شهر يوليوز ، واجتياز الامتحان الجهوي للسنة الأولى بكالوريا في سبتمبر. كما أعلنت كل الجامعات المغربية عن تأجيل موعد الامتحانات الربيعية إلى بداية الموسم المقبل، كما تقرر أن الطلاب لن يعود إلى المدرسة حتى سبتمبر 2020.
لا يخفى عليكم كمية القلق والتوتر الذي عاشه التلاميذ بين مطرقة الوباء وسندان الاستعداد للامتحانات، ينضاف إلى ذلك ظروف التهييء في ظل الحجر الصحي والإغلاق الشامل للمكتبات والخزانات ومرافق البحث العلمي، ومقرات الاستعدادات.
رافق هذا الوضع غير الطبيعي توترات مسة كل جوانب الحياة الإنسانية بم فيها الجوانب المدرسية التعليمية، ولقد اشترك في هذا الوضع الآباء والتلاميذ على السواء.
لقد أحس الأساتذة بمختلف درجاتهم ورتبهم في التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي بثقل المسؤولية واختلطت عليهم مشاعر الرهبة والقلق، فوقعوا ضحية التوتر والتيه، وظلوا يراوحون مكانهم بين الخوف على مستقبل تلامذتهم وبين صعوبة تنزيل المقترحات المطروحة “التعليم عن بعد”، فكان الأساتذة في موقف لا يحسدون عليه، فلا هم قادرون على التواصل مع تلامذتهم ولا هم يملكون أجوبة لأسئلة حارقة تنهال عليهم، بخصوص الدراسة والامتحانات والنقط وموعد العودة وغيرها من الإشكاليات التي لم يكن لأحد جواب عنها.
وكما سبق الذكر فلم تجد الوزارة بديلا عن التعليم الإلكتروني لضمان الاستمرارية البيداغوجية ولدفع شبح سنة بيضاء “رغم سوادها”، فوجد الأساتذة أنفسهم في دهشة وصدمة أمام وضع مألوف غريب، قريب بعيد، معتاد لكنه غامض، فلم يستسغ بعضهم تلك المفاهيم الرائجة مثل الاستمرارية البيداغوجية والتعليم الافتراضي ومنصة تيمز وتلميذ تيس وتعليم ما وكوكل كلاس رووم و ادمودو وكوكل ميتين …
لقد استطاع بعض الأساتذة من التمكن من هذه التقنيات ووظفها في خدمة التعليم الإلكتروني، ولم تجد الغالبية الساحقة حلا أسهل وأفضل من تطبيقات التراسل الفوري وفي مقدمتها الواتس اب، فبدأت سلسلة من المشاكل التعليمية والتقنية، فبين صعوبة تدبير القسم الافتراضي وغياب الموارد التعليمية الرقمية وضعف صبيب الشبكة وعدم تواصل جميع المتعلمين بدأت دوامة من الصراعات والإكراهات، فتوقف بعضهم بعد مدة واستمر البعض استمرارا يضمن البقاء فقط وبقي البعض يصارع هذه الصعوبات إلى اخر السنة الدراسية.
في خضم هذه الصعوبات والمشاكل برز دور الأسرة في العملية التعليمية، فوجدت أغلب الأسر نفسها مجبرة على مواكبة التعليم الإلكتروني لأطفالها، وهنا ستظهر مشاكل إضافية أبرزت بجلاء دور المدرسة والمدرس في تنفيذ العملية التعليمية التعلمية، أغلب الآباء والأمهات لم يتمكنوا من مواكبة الحصص الدراسية وإنجاز الواجبات وتقييم التعلمات، فكانوا واحدا من اثنين إما تاركا للحبل على الغارب أو مواكبا على مضض، وهو أمر أثر بشكل كبير على نفسية المتعلم والأستاذ والأسرة كل على حد السواء.
هذه بعض من الآثار السلبية للجائحة على قطاع التربية والتكوين وإلا فإن منها الكثير مما آثرنا تجاوزه وعدم التفصيل فيه.
(يتبع)
د.محمد التويرة