أجمل الهدايا
كان شاردا كعادته؛ أخذته على حين غرة قائلة:
– انظر؛ و اتجهت بسبابتها نحو جانب من أرضية غرفته، و أضافت:
– ألم تلاحظ شيئا؟.
نقل عينيه بسرعة خاطفة من مصدر الصوت إلى الأرضية، رأى شيئا كبساط الريح تغلب عليه الخضرة، فحملته رؤيته إلى ذلك البهو بذلك المنزل الذي قضى فيه جزءا من طفولته و شبابه، قبل يد أمه الهادئة المؤزرة ببياضها، و هي تحرك فمها خفيفا على إيقاع سبحة لونها ربما أبيض. جلس بجانبها يغمره صفاء السكينة، لم يستعجل محادثتها، فكم من مرة يقنع بجلوسه بجانبها و هي غافية على ذلك “السداري” والصمت يلف المكان معطرا بآيات طيبات من الكتاب الكريم التي تجري بانسياب من ذلك الجهاز الحديث القديم.
ابتسمت له، فاستعد لتلقي أسئلتها المعهودة التي تمطره بها لتكسر جليد الصمت بينهما، سواء أكان ذلك في أيام الله العادية أم في الأعياد أم في رمضان أم ما قبلهما و بعدهما؛ إنها تحرص على معرفة التزام أبنائها دون تفريط بطقوس المناسبات و الدينية خاصة، لا أعرف ما سر ذلك بعيدا عن كليشهات أن النساء هن الحارسات الشديدات للتقاليد والعادات؟ !
سألته عن “الشباكية” و”السفوف” (التقاوت، سلو، سليلو)، طمأنها أن التهييئ جار على قدم وساق، وأنه عما قريب سيذوقها ،كالعادة، لتقول كلمتها التقييمية.
دعت له بدعائها المأثور:
-الله يرضى عليكم.
في السنوات الأخيرة هدتها الشيخوخة و تعب السنين، لكن لم ينسل لذاكرتها حجاب على خلاف ما حجب العين، و منذ أن كان يعقل لم يعرف عنها تفريطها في صلاة الفجر كما لم يعرف عنها تخليها عن اختياراتها في الحياة؛ حيث أدمنت على كل ما هو طبيعي في الطعام و الدواء قبل انتشار البيو و الطب البديل، فمنزلها يصنع فيه كل ما هو ضروري و ممكن والعمل عبادة، والسفر صلة رحم و ترويح عن النفس، و الأولياء و الأشياخ و الدراويش أصفياء، و الكرم ديدن الكرماء و غنى الفقراء، فكل ما يؤخذ بيد يعطى بأخرى.
ممن تستمد قوتك يافاطمة؛ من أم هانئ أمك أم من محمد أبيك أم منهما معا أم من أصول بعيدة… أم من ماذا؟؛ أسئلة كثيرة بقيت دون جواب، كنت تحب مجالستها و التحدث معها، لكن الحاضر بهمومه و أحداثه و أفراحه و فراغاته و غياباته…هيمن على الحديث، ولم تدرك إلا متأخرا أن الحفر في الذاكرة و الجذور له أهميته في تركيب الهوية العائلية، و رغم محاولاتك المتأخرة لم تظفر بالشيء الكثير مما لا زلت تبحث عنه…
أم هانئ أمك لم يندمل جرح غيابها المبكر مع السنين، وإن عوضه وجود محمد أبيك و قربه منك وتعلقك به و بشخصيته المرحة، وحكمته التي ظلت على لسانك في أحلك الأوقات كما في أحلاها.
ما تركته يا فاطمة منقوشا في الأذهان أنك تحملت عمرا حمل الأب و الأم و تلك حكاية أخرى سيحكيها الزمن؛ لقد تحملت بصبر البعد الاضطراري و الرحيل المبكر لشريكك الوفي الفقيه محمد الذي فطر على الصمت وجبل على بر و الدته منانة اليزيدية، والصمت عبادة وسر الأسرار والجنة تحت أقدام الأمهات.
فتح الباب بعد أن سمع طرقا خفيفا، دخلت اللاعايشة صديقة العمر؛ والتي برحيلها، بعد ذلك بسنين، ورحيل الأثيرات من صويحباتها الأخريات اللاخدوج و اللارحمة…- اللائي يجمعها بهن ذكر الله والورد و حب محمد “ص”- لم تعد الأيام بمثل تلك الطراوة و ذلك الإشراق.
حول كؤوس اللبن والخبز المنزلي و ما تيسر من رزق الله، دارت حلقة الذكر شيئا فشيئا…لا إلاه إلا الله يفنى العبد ويبقى الله، لا إلاه إلا الله رحمة ربي موجودة…الله الله الله يامولانا….ربي داوي حالي…ولم تفتر الأذكار إلا على آذان المغرب.
دعت له بالهداية و رددت على مسامعه بأن الصلاة عماد الدين…ومما يذكره باعتزاز أنها لم تترك له من الإرث حسابا يحسبه أو عقارا يبيعه أو ذهبا يفتتن به أو يفتنه؛ كل ما تركته له هو سجادة خضراء برموزها المزركشة، ثم مسبحة بيضاء من مسابحها المختلفة الألوان، و هي، في يقينه، أجمل هدايا الحياة؛ لقد تسلمها من يديها المباركتين اللتين يحن الآن إلى تقبيلهما، كما يحن إلى سماع دعواتها التي تصاحبه في السراء و الضراء، و تقف حصنا حصينا في وجه نصال كل حقد وشر و عثرة…
قعد في حضن تلك الخضرة و المسبحة في يمناه، ثم سجد داعيا لها بالرحمة والغفران والعين تدمع…
عبدالحي مفتاح